كلام لودريان للبنانيين نسفته الحرب الإسرائيلية - الايرانية
لم يكد الموفد الفرنسي جان ايف لودريان ينهي زيارته للبنان حتى اشتعلت الجبهات بين إسرائيل وايران، فذهب كلامه الذي قاله للمسؤولين اللبنانيين أدراج الرياح. فما كان قوله صالحًا قبل الضربة
الإسرائيلية لم يعد كذلك بعده، ولكن لا ضرر بالتذكير بما حمله معه إلى اللبنانيين من نصائح، خصوصًا أنهم لا يزالون يتذكرّون مقولته الشهيرة في أولى زيارته المكوكية للبنان عندما قال لهم إن لم تساعدوا أنفسكم فلن يساعدكم أحد. ومنذ تاريخ هذه المقولة الشهيرة حتى اليوم لم يقرّر اللبنانيون أن يساعدوا أنفسهم، وهم بالطبع لا يتوقّعون في هذه الحال أن يساعدهم الآخرون، خصوصًا أن لكل من هؤلاء مصالحه الخاصة واهتماماته وانشغالاته ومشاكله، وهم غير مستعدّين لأن يبذلوا أكثر مما سبق لهم أن قدّموه للشعب اللبناني لكي يستطيع أن يتخطّى أزماته الكثيرة والشائكة، وأن يقّلع شوكه بيديه العاريتين.
فهل قرّر اللبنانيون مساعدة أنفسهم قبل أن يطلبوا أي مساعدة ممكنة من الآخرين، أيًّا تكن هوية هؤلاء الآخرين، وهل هم على استعداد لأن يقّلعوا شوكهم بأيديهم، وهل هم مؤهلين لأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، ويحسنوا إدارة شؤونهم الداخلية بالطريقة، التي تمكّنهم من الوصول إلى حيث يجب أن يصلوا في نهاية المطاف؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير من الأسئلة على جميع اللبنانيين أن يجيبوا عنها، خصوصًا أن الذرائع القديمة التي كانوا يلجأون إليها بالأمس القريب قد أصبحت في خبر كان. فهم غير قادرين اليوم على التحجّج بالفراغ الرئاسي لتبرير تقاعسهم
وفشلهم، وقد أصبح لديهم رئيس جديد للجمهورية وحكومة كاملة المواصفات، أقّله في الشكل. فما كان مبرّرًا بالأمس القريب لم يعد كذلك اليوم. فالذرائع الواهية قد سقطت ولم يعد لها وجود. فإذا لم يساعدوا أنفسهم للخروج من الهوّة السحيقة فإنهم سيبقون قابعين فيها طويلًا. وإذا كانوا متّكلين على أن مَن مدّ لهم في الماضي يد المساعدة وانتشلهم من أزماتهم سيبادر مرّة جديدة فهم واهمون وغير واقعيين. فللآخرين همومهم ومشاكلهم، وهم بالكاد قادرون على حلّها قبل أن يبادروا لمساعدة الآخرين على حلّ ما لديهم من أزمات ومشاكل.
فأزمات لبنان لا تُعدّ ولا تحصى. تبدأ بجدلية ربط تسليم سلاح "حزب الله" بالانسحاب الإسرائيلي الكامل وغير المشروط من كل الأراضي اللبنانية، ولا تنتهي بتعيين ناطور أو حاجب، ناهيك عن تلكؤ الحكومة ومجلس النواب عن القيام بما يطالبهما به المجتمع الدولي بالنسبة إلى الإصلاحات السياسية والمالية والإدارية.
وهذا ما جاء من أجله لودريان هذه المرّة. جاء ليقول للمسؤولين ما قاله سابقًا للبنانيين: ساعدوا أنفسكم قبل أن تطلبوا مساعدة الآخرين. وإذا لم تساعدوا أنفسكم فلن يساعدكم أحد.
بهذه الصراحة كلمّهم لودريان، وهو المعروف عنه أنه عندما يريد أن يقول شيئًا فهو يسمّي الأشياء بأسمائها من دون لفّ أو دوران، وهو عادة لا يلبس قفازات مخملية مصنوعة في فرنسا عندما يريد أن يوصل الرسالة، التي من أجلها كانت زيارته للبنان هذه المرّة.
في هذه الزيارة بدا الموفد الرئاسي الفرنسي أكثر حسماً وحزماً، وهو الذي يحمل في جعبته رسائل واضحة وصريحة من "الإليزيه". لا مكان فيها للغموض الديبلوماسي ولا للتأجيل الذي أنهك الدولة اللبنانية. فهو لم يأتِ ليستمع هذه المرّة، خصوصًا أنه أصبح خبيرًا بالشؤون اللبنانية ربما أكثر من أي مسؤول. فهو يعرف "البير وغطاه"، ويعرف كل شاردة وواردة من ألفها حتى يأيها. لم يأتِ مستمعًا هذه المرة، بل ناقلاً لشروط ومن ضمن مهلة محدّدة، على رأسها: ربط أي دعم دولي بإقرار حزمة إصلاحات مالية ونقدية عاجلة، تشمل قوانين الكابيتال كونترول، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، والموازنة. فالرسالة الفرنسية صريحة وواضحة:
-لا مؤتمر دوليًا لدعم لبنان في باريس هذا الخريف إن لم تتحرك بيروت فورًا.
- لا سلاح خارج الدولة... ولا دعم بلا سيادة.
فأبرز ما ميّز زيارة لودريان هذه المرّة هو إدخال ملف "السلاح غير الشرعي" ضمن سلّة النقاش الاقتصاد. فباريس، وللمرة الأولى، تكون بهذا الوضوح والصراحة بعدما فهمت مقاصد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالنسبة إلى مستقبل المنطقة. فقد ربطت دعم إعادة الإعمار بوجود خطة زمنية جدية لحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، خصوصًا في الجنوب.
هذا التحوّل يعكس تبدلًا في المزاج الفرنسي من التغاضي السياسي إلى التعامل المشروط بالأمن والسيادة، وهو ما ظهر أيضًا في لقاء لودريان مع قيادات "حزب الله" بالنسبة إلى وجوب احترام القرار 1701.
وبالطبع لم يغب موضوع التمديد لقوات "اليونيفيل" عن محادثات لودريان مع جميع الذين التقاهم، وقد أبلغهم أن باريس مصممة على تمديد المهمة من دون تقليص عدد القوات، ومنع التضييق على حركتها، والضغط على تل أبيب لوقف خروقاتها الجوية.
على ما يبدو فإن فرنسا لم تعد تكتفي بدور الوسيط، بل صارت تمسك بخيوط مشروطة: إصلاح مقابل دعم، أمن مقابل إعادة إعمار، احترام سيادة مقابل تجديد دولي للثقة.
فهل تلتقط القوى السياسية اللبنانية هذه الفرصة، أم تُفَوّت دعمًا دوليًا جديدًا كما فعلت في محطات سابقة، وهل سبق سيف الغارات الإسرائيلية على إيران والردّ الإيراني العذل اللبناني؟
وفي النهاية فإن مسألة تحييد لبنان عن أي صراع خارجي يبقى الأساس في هذه الدوامة، التي يبدو أن ليس من نهاية قريبة لها.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|