الصحافة

“الحكمة” السّعوديّة قبل سقوط إيران وبعده

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

بعد عقود من العداء، لم تجد طهران في دليلها الهاتفي سوى جيرانها من دول الخليج لتتّصل بهم طالبةً العون في الضغط على الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار واستئناف المفاوضات النوويّة.

إذا كان الاتّصال بقطر وسلطنة عمان متوقّعاً، فإنّ الاتّصال بالسعوديّة، وفق ما ذكرته وكالة “رويترز” الإثنين، هو ما يستحقّ التوقّف، بالنظر إلى السجلّ الإشكالي للسياسات الإيرانية تجاه السعودية على مدى 46 عاماً من حكم “الثورة الإسلامية”، بدءاً من “تصدير الثورة”، وليس انتهاءً بالحرب المباشرة التي خاضها وكلاء إيران ضدّ السعودية انطلاقاً من الساحة اليمنيّة، والتي كان ذروتَها الهجومُ على منشآت أرامكو عام 2019، وبينهما تاريخ طويل من خطاب التحريض على المملكة والكلام النابي على ألسنة من يدورون في الفلك الإيراني.

عقل هادئ ومتّزن

كان الانعطاف الإيراني غنيّاً بالدلالات، وكذلك هو نشاط حركة الدبلوماسية السعودية منذ بداية الهجوم الإسرائيلي على إيران فجر الجمعة الماضي. فقد بادر وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى الاتّصال بالرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، مديناً ومستنكراً “الاعتداءات التي تمسّ سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأمنها”، ومؤكّداً أنّها “تمثّل انتهاكاً للقوانين والأعراف الدولية”، وأنّها “أدّت إلى تعطيل الحوار القائم لحلّ الأزمة”. وكانت الرياض بعد ذلك في محور الحركة لاحتواء النيران، من خلال الاتّصالات بين وليّ العهد السعودي وكلّ من الرئيس الأميركي دونالد ترمب وقادة دول عدّة في المنطقة وأوروبا، بالإضافة إلى الاتّصالات التي أجراها وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان مع نظيره الإيراني عبّاس عراقجي ونظرائه في عواصم القرار ودول المنطقة.

لا تفترق حركة الرياض عمّا يشبه عقلها الدبلوماسي الهادئ والمتّزن، لكن يُضاف إليه مكوّن جديد أدخله محمّد بن سلمان. فقد كانت المدرسة الدبلوماسية السعودية تقوم أساساً على محوريّة دورها في العالمَين الإسلامي والعربي برمزيّة احتضانها لمهد الإسلام و”خدمتها” لحرمَيه الشريفَين، وقيادتها للتكتّل الخليجي، وقيادتها للتوازن في أسواق النفط العالمية. وأضاف إليها بن سلمان ثقلاً وازناً لرؤيته الاقتصادية (رؤية 2030)، تجسّد بفرض حضور دوليّ عبر القوّة الاقتصادية والاستثمارات الدولية. بدا ذلك في محطّات عديدة، منها رئاسة “مجموعة العشرين” عام 2020، وزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الرياض عام 2022، وزيارة ترامب الأخيرة برفقة وفد اقتصادي واستثماري كبير.

تبقى السمة الأساسيّة لحركة الرياض في كلّ هذه الاتّجاهات “الحكمة” وتخفيف الاستقطاب. تُروى على سبيل المثال قصّة حكاها الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونقلها عنه عدد ممّن رافقوه وعايشوه. كان الحريري حاضراً بجوار الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز حين أُبلغ عن تصدّي الدفاعات الجوّية السعودية لطائرات إيرانية اخترقت أجواء المملكة وإسقاطها طائرتين من طراز “إف 4” وإصابة ثالثة، فكان أمره بإعلان إسقاط طائرة واحدة، وحين سُئل عن السبب أجاب أنّ المراد تحقّق، وأنّه لا يريد توسيع جرح “إهانة” الإيرانيّين.

الرّكيزتان التّوأمان

أمام السعوديّة تحدٍّ كبير يفرضه تبدّل الموازين الإقليمية في ضوء ما تفرزه نتائج الحرب. فالتنافس السعودي – الإيراني ظلّ العنصر الأساس في تكوين سياسات المنطقة منذ ما قبل انسحاب بريطانيا من المنطقة بين عامَي 1968 و1971، وحلول النفوذ الأميركي مكانها.

في تلك المرحلة، أرسى الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون سياسة عُرفت باسم “الركيزتين التوأمين” (Twin pillars) للموازنة بين الدورَين السعودي والإيراني، فيما كان الشاه محمد رضا بهلوي يحاول فرض نفسه وريثاً للنفوذ البريطاني وتوسيع هيمنته في الخليج، عبر المطالبة بضمّ البحرين والسيطرة على الجزر الإماراتية الثلاث. وبعد استقالة نيكسون إثر فضيحة “ووترغيت” عام 1974، كان نائبه الذي أكمل الولاية، جيرالد فورد، أكثر ميلاً إلى إسناد دور “شرطيّ الخليج” إلى الشاه. ثمّ أتى الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر إثر انتخابات عام 1976 بسياسة ليبرالية متذبذبة تجاه الشاه، تعطي وزناً كبيراً لمسائل الحرّيات وحقوق الإنسان، ربّما تحيل إلى سياسات “الربيع العربي” في عهد باراك أوباما، وهو ما كان له دور في اتّساع التحرّكات الشعبية ضدّه، وصولاً إلى إسقاطه وقيام حكم الملالي.

بعد 46 عاماً، يمكن القول إنّ نظام الثورة الخمينيّة انتهى كونه قوّة إقليمية كبرى، مهما يكن الترتيب الذي سيوقف الحرب، سواء سقط في المدى القريب أم استمرّ رجلاً مريضاً كما عاش نظام صدّام حسين في عراق التسعينيّات. لم يعد بإمكان هذا النظام أن يستعيد هيبته في الداخل وأذرعه الإقليمية في الخارج بعدما قتلت إسرائيل قادته كما قتلت قادة “الحزب”، وانكشفت سماؤه أمام الطائرات الإسرائيلية، حتّى بات المتحدّث العسكري الإسرائيلي يوجّه تعليمات الإخلاء في طهران كما كان يوجّهها في ضاحية بيروت الجنوبية. أقصى ما يمكن أن يطمح إليه مرشد الثورة علي خامنئي أن يحافظ على تماسك السلطة ووحدة الدولة المركزية في وجه المعارضة والأقلّيات العرقية في الأطراف.

توازن جديد

يطرح هذا المتغيّر الكبير سؤالين مركزيَّين:

  • سؤال عن مصير الحكم في إيران: هل تكون رجل المنطقة المريض فتطفو فيها مجدّداً النزعات القومية بين الفرس والأذريّين التركمان والعرب والأكراد والبلوش؟ أم تبزغ مجدّداً لكي تكون دولة مركزية تحت قيادة مختلفة؟
  • وسؤال عن مصير التوازنات الإقليمية في ضوء الرغبة الأميركية (المعلنة) بتخفيف الوجود العسكري في المنطقة، بما يشبه الانسحاب البريطاني مطلع السبعينيّات. ما يقوله ترامب في هذا الصدد أنّه يريد إخراج بلاده من سياسة “المحافظين الجدد” في تغيير الأنظمة وفرض نماذج الحكم، بعدما فشلت فشلاً ذريعاً، كما يقول، في العراق وأفغانستان. وقد بدأ ولايته، بالفعل، بإعلان الرغبة بعقد صفقة مع إيران والانسحاب العسكري من سوريا والعراق. وإذا به يجد نفسه متورّطاً في بحث مصير النظام الإيراني!

ربّما التحدّي الأكبر يكمن في أنّ الزلزال الإقليمي الكبير حدث بالقوّة العسكرية الإسرائيلية، وهذا يفرض تحدّياً جسيماً يتطلّب إعادة صياغة منظومة العلاقات بين دول المنطقة لإحداث توازنٍ من نوعٍ مختلف.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا