إيران ما بعد المطرقة: ما نعرفه… وما نجهله
فعلها دونالد ترامب. عمليّة “مطرقة منتصف الليل” التي أشرف عليها ستدخل التاريخ بوصفها الضربة الأكثر تعقيداً ودقّةً في التاريخ العسكري الأميركي الحديث. هجوم جوّي منظّم وصامت ودقيق ومدمِّر، استهدف ثلاث منشآت نوويّة إيرانيّة، هي فوردو، ونطنز، وأصفهان، مغيّراً وجه الشرق الأوسط.
لا نعرف كيف تفكّر القيادة الإيرانية الآن. هل يعضّ خامنئي على جراحه الاستراتيجيّة غير المسبوقة ويقبل التسوية؟ هل ينحاز إلى الخيارات الانتحارية التي تمليها أدبيّات الفخر والاقتدار التي ملأت خطاباته وصنعت صورته وصورة بلاده؟ هل يغرف من الإرث التسوويّ للإمام الحسن، على الرغم من أنّه لم يصل به الحال إلى ما وصل إليه خامنئي، أم يرفع راية الحسين وصيحة هيهات منّا الذلّة؟
لا نعرف ماذا يدور داخل دائرته الضيّقة وموقف الحرس والنخب الدينية وتفضيلات نجله مجتبى. انقسامات “بيت الثورة” كثيرة وقديمة. لكن ما سينتج عنها هذه المرّة يتبلور الآن في سياقات شديدة التوتّر والتعقيد وعدم اليقين.
التّسوية أم الفوضى؟
لا نعرف إن كان المجتمع الإيراني سيتعاطف مع النظام بوصفه ضحيّة لعدوان خارجي، أم سيتعامل مع الضربة كمؤشّر إلى هشاشة “الجمهورية الإسلامية” وعجزها. فما تواجهه إيران الآن ليس أزمة أمن قومي، أو محنة سياسية تتّسع لحرارة الوطنيّة الإيرانية وتجاوز الانقسامات. ما يعتمل الآن داخل المجتمع الإيراني هو الفصل الأخطر من فصول أزمة شرعيّة النظام، وتداعي هيبة الفكرة التي حملها، وانفراط عقد الهويّة التي صاغها، ومنعطف جديد تدخله العلاقة بين الشعب الإيراني ونظام ولاية الفقيه.
لا نعرف إن كان نجاح الهجوم الإسرائيلي الأميركي على إيران، المتصاعد منذ 13 حزيران، سيُنتج قواعد جديدة للاستقرار في المنطقة تقوم على تسوية شاملة، أم سيمهّد لفوضى إقليمية جديدة وسباق إيراني من نوع آخر نحو الحصول فعليّاً على القنبلة هذه المرّة.
هل تختار “عقلانيّة ما بعد الهزيمة” كما فعلت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، أم تتبنّى “راديكاليّة ما بعد الصفعة” كما فعلت كوريا الشمالية بعد عزلة التسعينيّات؟
لا نعرف تبعات التسوية ولا تبعات التصعيد، ونجهل الديناميّات الخاصّة التي سيطلقها أيّ من الخيارين داخل إيران نفسها وبشأن علاقاتها بالآخرين.
ما نعرفه هو أنّ إيران خرجت من هذه الضربة دولة أضعف، عسكريّاً ونوويّاً ومعنويّاً.
ما نعرفه يكفي للقول إنّ إيران التي عشنا معها منذ عام 1979 انتهت، لا ببنية نظامها، بل بمشروع الهيمنة الذي قادته وبدأ مسلسل انحداره مع اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني مطلع عام 2020.
أيّاً يكن التقويم النهائي لحجم الخسائر اللاحقة بالبرنامج النوويّ الإيراني، فإيران ما بعد المطرقة الأميركية لم تَعُد تمتلك مشروعاً نوويّاً فعّالاً يعمل في منشآت معروفة، ولم تَعُد قادرة على استخدام “فوردو” كرمز للمناعة السياديّة، ولم تَعُد قادرة على الإيحاء ضمناً بأنّها على بُعد “أسابيع” من صنع القنبلة.
نعرف أيضاً أنّ إيران لم تردّ مباشرة على واشنطن، بل اكتفت بردّ غير متماثل عبر إطلاق صواريخ على تل أبيب وحيفا. ونعرف أنّ تلك الصواريخ، على الرغم من ضررها، لم تغيّر شيئاً في المعادلة الكبرى.
إعادة إنتاج التّوازن
ما نعرفه هو أنّنا دخلنا مرحلة جديدة، يراوح عمرها بين خمس إلى عشر سنوات مع “إيران مختلفة”، إن نجت من مآلات الاختبار الراهن. إيران بلا مشروع نوويّ، أو بمشروع نووي متعثّر ومتأخّر ومكلف في غياب الموارد المطلوبة، وبهيبة عسكرية مجروحة، وبلا وكلاء، وبلا قدرة على المناورة عبر التلويح بالقنبلة. يشكّل هذا لوحده لحظة جيوسياسية مفصليّة في حاضر الشرق الأوسط ومستقبله.
ربّما التحوّل الأهمّ من تبدّل ملامح إيران، هو يقظة العواصم العربية لما يعنيه هذا الجديد، وإدراكها أنّ لحظة ضعف الخصم لا تقلّ خطورة عن لحظة عنفوانه.
لا تتعامل الدبلوماسية الخليجية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، مع إيران كخصم يجب إسقاطه، بل كنظام مأزوم يجب تفكيك أزمته بحسابات دقيقة، خشية أن يتحوّل سقوطه إلى فوضى إقليميّة لا يمكن احتواؤها.
وفق هذا المنطق تتحرّك المبادرات العربية بعيداً عن الأضواء، لبناء أوسع شبكة تقاطعات إقليمية ودوليّة ممكنة، تخلط عناصر الضغط القائمة مع مكوّنات الإغراء والتحفيز بهدف التدرّج نحو تسوية تاريخية، لا تمسّ جوهر النظام الإيراني بالضرورة، لكنّها تعيد تعريف دوره ووظيفته الإقليمية.
لا يراهن التحرّك العربي على الفراغ، بل يخشاه، ولا يركن إلى خطاب النصر، بل يتحسّب لتداعيات الانهيار، ويدرك الحاجة إلى صياغة لحظة انتقال تحمي المنطقة من المفاجآت الجيوسياسية الكبرى، وتمهّد لهندسة إقليمية مدروسة، تمنع الانهيار وتُعيد إنتاج التوازن.
آخر ما ينبغي السماح له بالتبلور هو أن تكون إيران ما بعد المطرقة أخطر من إيران ما قبل القنابل الأميركية.
نديم قطيش - اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|