سعر الصرف الحقيقي يعود إلى مستويات ما قبل الانهيار: لبنان يراكم الخسائر ويدفنها... مجـدّداً
ورد في مرصد لبنان الاقتصادي الصادر أخيراً عن البنك الدولي بعنوان «انعطاف المسار؟»، تحليلاً معمَّقاً لمسار سعر صرف الليرة الحقيقي عن المدّة الممتدّة بين كانون الثاني 2010 وكانون الأول 2024.
ويستند هذا التحليل إلى دراسة سعر الصرف الفعلي الحقيقي أو (Real Effective Exchange Rate – REER)، وهو عبارة عن مؤشّر يستند إلى سنة أساس لقياس تحرّكات الأسعار (سعر الصرف وسعر السلع) بين لبنان والخارج، ما يتيح قراءة القدرة التنافسية لصادرات السلع اللبنانية.
كلما انخفضت القيمة الحقيقية لـ الليرة ازدادت قوّتها التنافسية في الخارج، وكلما ارتفعت قيمتها الحقيقية انخفضت قدرتها التنافسية في الخارج. وهو بذلك، يقدّم فكرة واضحة لقياس قيمة الليرة المثبتة اصطناعياً تجاه الدولار مقابل قيمتها الحقيقية.
إنّ عودة مستويات سعر الصرف الفعلي إلى مستويات ما قبل الانهيار، تعني أنّ الاقتصاد يراكم الخسائر مجدّداً ويدفنها تحت عباءة ثبات سعر الصرف.
نقطة الأساس تبدأ في 2010. ويفترض هذا المؤشّر أنه في 2010 كانت أسعار الاستهلاك المحلّية تساوي 100 نقطة مقارنة مع أسعار الاستهلاك في الخارج.
ثم ارتفعت إلى ذروتها في 2016 مسجّلة 200 نقطة، قبل أن تنحدر إلى 50 نقطة في 2020، وعادت إلى نحو 180 نقطة في 2024. ماذا يعني ذلك؟
لنفترض أنّ الـ100 نقطة هي سلّة من السلع الاستهلاكية في الخارج، وأنّ سعرها في لبنان كان يبلغ ليرة واحدة، ثم انخفض إلى نصف ليرة، أي أنّ الليرة الواحدة صارت تشتري سلّتين من السلع في الخارج.
وبتحويل هذه السلّة الخارجية إلى عملة أجنبية، فإنّ الليرة أصبحت أقوى وتشتري ضعف ما تشتريه العملة الأجنبية المباعة في الخارج. وفي 2020 صارت الليرة تشتري نصف هذه السلّة وفي 2024 عادت إلى مستويات قريبة ممّا كانت عليه في ذروتها في عام 2016.
السؤال الأساسي: هل قوّة الليرة تجاه الخارج أمر جيّد؟ بالطبع لا. فالعملة المحلّية هي بمثابة مقياس لقوّة الاقتصاد بما يستورده من الخارج وما ينتجه في الداخل.
كلما كان الاقتصاد أقوى كانت الليرة أضعف، والعكس صحيح. قوّة الليرة تعني أنّ مَن يملكها لديه قدرة استهلاكية، لكن ليس بالضرورة أنه يملك قوّة إنتاجية. وبالتالي، فإنّ تثبيت سعر الصرف هو إخفاء للواقع الفعلي للاقتصاد الضعيف والهشّ.
فعندما كان التثبيت قائماً طوال العقود الأخيرة، كان سعر الصرف المحدّد من الدولة (سعر الصرف الاسمي) يخفي خسائر الاقتصاد.
أمّا حين انخفضت القيمة الفعلية لليرة إلى نصف ما كانت عليه في 2010، فهي في الواقع عَكَسَت انهيار سعر الصرف في وقت كانت الدولة تتمسّك بسعر صرف رسمي يبلغ 1500 ليرة مقابل الدولار، أي أنّ سعر الصرف الحقيقي لم يظهر في السوق (ظهر في ما يسمّى السوق السوداء).
وعندما عاد المؤشّر إلى الارتفاع فإنّ الأمر يحصل بسبب عودة التثبيت الذي ينتج الدورة نفسها نحو تقوية الليرة رغم ضعف الاقتصاد.
لماذا نريد الليرة ضعيفة أو قوية؟ في العادة تعتمد الدول على قوّتها الاقتصادية لترك العملة تقوى أو تضعف.
ضعف الليرة يعني زيادة قوّتها التنافسية في الخارج، إذ إنّ الصناعات المحلّية ستنتج سلعاً منخفضة الأكلاف ثم يتمّ تصديرها إلى الخارج حيث ستتنافس مع سلع منتجة في بلدان أخرى وبالتالي تصبح أكثر قدرة على منافستها في سعر المبيع.
الدول توازن بين قدراتها التصنيعية وبين أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة وبين مستويات الأجور المحلّية، وهذا ما يظهر في سعر الصرف.
لكن إذا جرى تثبيت سعر الصرف، يتمّ إخفاء هذه المعادلة ويتمّ نفخ القدرات الشرائية للمستهلك. وفي لبنان كان المستهلك منفوخ القدرات الاستهلاكية ويشتري السلع المستوردة، ما كبّده خسائر هائلة كانت مختبئة في سعر الصرف المثبت.
وبحسب البنك الدولي، فإنه يمكن تقسيم المرحلة ما بين 2010 و2024 إلى أربع مراحل على النحو الآتي:
- في المرحلة الأولى الممتدّة بين كانون الثاني 2010 حتى آذار 2019، ارتفع المؤشّر بنسبة 107.4%، ما يدلَّ على تآكل تنافسية الأسعار اللبنانية مقارنة بالشركاء التجاريين. أي إنّ قيمة العملة الفعلية ارتفعت وأصبحت الأسعار أعلى. وتزامن ذلك مع ارتفاع واردات لبنان من 13.2 مليار دولار إلى 19.3 مليار دولار قبل اندلاع الأزمة المالية.
- في المرحلة الثانية الممتدّة من بداية الأزمة في نسيان 2019 لغاية تموز 2020، انخفض سعر الصرف الحقيقي بسرعة، على نحو دفع العملة اللبنانية إلى أقصى تنافسيّتها منذ 2010، وذلك بفضل انخفاض قيمة الليرة اللبنانية 475% مقابل الدولار، مقابل زيادة في الأسعار المحلّية بلغت 112% أثناء تلك المدّة؛ وهذا ما أدّى إلى تراجع الواردات من 16.1 مليار دولار إلى 9.8 مليار دولار.
عملياً انخفضت قيمة العملة بنسبة أكبر من ارتفاع الأسعار المحلّية بأكثر من 4 مرات. لكن حصل ذلك بالتزامن مع انخفاض في الصادرات أيضاً.
- في المرحلة الثالثة ما بين آب 2020 وآب 2023 تضاعف مؤشّر سعر الصرف الحقيقي نتيجة تسارع التضخم المحلذي (1953%) مقارنة بانخفاض قيمة الليرة (1092%). ومن الأسباب الأساسية في ذلك كان رفع الدعم ودولرَة الأسعار.
- في المرحلة الأخيرة الممتدّة من أيلول 2023 حتى كانون الأول 2024، أكمل مؤشّر سعر الصرف الحقيقي ارتفاعه، ما أدّى إلى تآكل المكاسب التنافسية للصادرات اللبنانية التي كان يفترض أن يحقّقها بفعل الأزمة والسبب ارتفاع الأسعار المحلّية بنسبة 42% رغم ثبات سعر الصرف الرسمي عند 89,500 ليرة للدولار، فسجّل المؤشّر ارتفاعاً بنحو أربعة أضعاف مستوياته في تموز 2020.
وبحسب التقرير، فإنه رغم انخفاض مؤشّر سعر الصرف الحقيقي الذي ينعكس في العادة إيجاباً على الصادرات، إلا أنّ لبنان لم يستفدْ من هذه الميزة؛ فقد استمر العجز التجاري من دون تحسُّن يُذكر، ويرجع ذلك إلى عوامل هيكلية عديدة، تشمل ضعف الوصول إلى أسواق الخليج، وانقطاع طرق التصدير عبر سوريا، وتراجع الطلب العالمي أثناء جائحة كوفيد-19، واقتصاد محلّي يواجه تحديات تنافسية عالية تكاليف التشغيل (خصوصاً الكهرباء).
بالإضافة إلى درجة عالية من الدولرَة في الأسعار المحلّية التي حدّت من قدرة المصدّرين على خفض أسعارهم بالليرة. وتؤكّد التجربة أيضاً أنّ مرونة استجابة المنظومة الاقتصادية اللبنانية لتغيير سعر الصرف ضئيلة نتيجة تشكيل معظم العقود والأسعار بالدولار (وهي أحد مظاهر الدولرَة الفعلية في السوق).
ينبّه التقرير إلى أنّ هذه الديناميات تستدعي إصلاحات هيكلية عميقة لرفع قدرة القطاعات المنتجة على الاستفادة من تحسين المنافسة السعرية، عبر تعزيز البنية التحتية، وتحسين بيئة الأعمال، وخفض كلفة الإنتاج، وإزالة العقبات اللوجستية، إلى جانب إعادة النظر في مستوى التدخّلات الحكومية في تحديد الأسعار والرسوم.
وفي هذا الوقت، يبقى ثبات سعر الصرف الرسمي عند 89,500 ليرة مقابل الدولار منذ آب 2023، مدعوماً بتراكم فائض الميزانية التي تودعها الوزارات والمؤسّسات العامة لدى مصرف لبنان، وعمليات «تعقيم السيولة» التي يقوم بها المصرف المركزي عبر امتصاص الليرات وتوجيهها نحو شراء الدولارات وإعادة بناء احتياطيّاته.
علماً بأنّ التقرير يشير إلى أنه عندما يتّجه الاقتصاد إلى المزيد من الدولرَة يصعب عليه تحقيق وفورات تنافسية ذات أثر فعلي على الصادرات ويزيد من الهشاشة تجاه الصدمات المستقبلية.
ماهر سلامة -الاخبار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|