الصحافة

تفجير مار إلياس.. المسيحيون السوريون من الصمت إلى اليقظة؟!

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

بين الرماد الأسود في كنيسة مارالياس في الدويلعة وأكفان الشهداء البيضاء، وبين كلمات البطريرك يوحنا العاشر التي هزّت أمس الأول، قبة كنيسة الصليب في حي القصاع، لم يُدفن الضحايا وحدهم، بل دُفن معهم دور "المسيحي الصامت" الذي اشتغل عليه نظام الأسد والبعث على مدى أكثر من نصف قرن.
لقد استطاع النظام السوري البائد تحويل المسيحيين إلى مايمكن تسميته "أقلية مُعلَّبة"، سمح بدقّ أجراس الكنائس، وممارسة الشعائرهم الدينية بحرية، لكنه صادر الصوت المسيحي في البرلمان والحكومة، فلم يتجاوز تمثيلهم الرمزي 4 في المئة في مؤسسات النظام رغم نسبتهم التاريخية (10 في المئة قبل 2011).
قدَّم الأسد الأب والإبن هذا الوجه للمسيحيين كـ"دليل تسامح" للتعمية على اتهامات القمع، كذلك فقد حول النظام السابق وجودهم إلى ورقة ضغط في المفاوضات الدولية، ودرعاً طائفياً ضد الغرب.
استطاع الأسدان أسلمة المناصب الحيوية، حاجباً عن المسيحيين الوزارات السيادية كالداخلية، والدفاع، إلى جانب الخارجية، واختزل دورهم في الوزارات الخدماتية كالصحة أو الثقافة.
حوَّل نظام الاسد الأقليات إلى "رهائن سياسيين"، واستخدم بفجاجة مفضوحة التمييز المؤسساتي، في تقديم الترقيات في الجيش والأمن للمسلمين العلويين، وإقصاء الكفاءات المسيحية.


عقد إجتماعي جديد
الاستهداف المباشر للمسيحيين بعد تفجير الدويلعة لم يكن مجرد "حادث إرهابي"، بل ضربة قاسية لكيانهم الوجودي، والتي فشل الأمن السوري في حمايتهم رغم الشعارات التي كان يحاول تكريسها.
بالطبع كانت جرأة الخطاب الذي ألقاه البطريرك يوحنا العاشر واضحة جداً، فهو لم يكتفِ بدور "المعزّي"، بل تحوَّل إلى مهندس عقد اجتماعي جديد عندما رفض مصطلح "الأقلية" قائلاً: "لسنا ضيوفاً... نحن من عتاقة سوريا".
كذلك استطاع البطريرك هدم أسطورة "الذمة" الإسلامية بقوله قبل أشهر: "ما بين النحن والأنتم تسقط الواو".
كذلك فقد طالب البطريرك يوحنا، بدولة مدنية تُقاس مواطنتها "بالكفاءة لا بالهوية".
لم يعد "الخيار البديل" للإرهاب كافياً لترهيب المسيحيين بعد أن أصبحت الإدارة الجديدة نفسها عاجزة عن تأمين قداس الأحد. لتنهار ورقة التخويف التي كان يستخدمها نظام الأسد، وإلى حد بعيد وربما بغير قصد الإدارة الجديدة في دمشق.
بقي المسيحيون منذ ألفي عام يشكلون ركناً ثابتاً ومركزياً في التركيبة المسيحية، فقد لعب ميشيل لطف الله السياسي ورجل الأعمال والمفكر دوراً هاماً في المفاوضات من أجل استقلال سوريا. كذلك فارس الخوري السياسي والقائد الوطني الذي شغل منصب رئيس وزراء سوريا. وغيرهم الكثير من المسيحيين الذين ساهموا في نهضة سوريا الحديثة.

 

إذا هو استبدال الحقوق بالحماية، فقد منحهم الأسدين "امتياز البقاء" مقابل التنازل عن المطالبة بدولة المواطنة والمساواة، التي تعطي كل المواطنين السوريين حقوقهم، دون هرولتهم وراء مايحلو للبعض تسميته، "حقوقاً خاصة".

صحوة القبر
اليوم، يُعلن المسيحيون السوريون من تحت أنقاض مار إلياس: "كفانا ورقة طائفية في لعبة الأمم". إن هذا الدور الجديد يتطلب الخروج من ما يمكن تسميته "غيتو الكنيسة"، لتأسيس أحزاب علمانية تعبِّر عن هويتهم الوطنية (لا الطائفية).
كذلك فإن مشروع دستور جديد يلغي "دين الرئيس" (المادة 3)، يكرس المساواة المطلقة بين السوريين جميعهم.
إن إعادة سردية مخابرات الأسد المخلوع، اليوم حين يُسقط تفجيرَ كنيسة مارالياس على "داعش"، بات غير مقنع بينما تزعم تقارير استخباراتية دولية بتوغل "فصائل موالية" في العملية. الأمر الذي يترك السوريين جميعهم، والمسيحيين خصوصاً يسقطون بفخ التخمين، والدلالات الملتبسة.

سوريا الحلم
 

"نحن أبناء سوريا الحلم"، يقول البطريرك يوحنا، لكن الحلم لا يُبنى بأمانٍ زائفٍ يُقدَّم ببعض كلمات لا تغني من جوع ، بل بدولةٍ تستمع بحكمة، وجرأة لصرخة البطريرك: "المواطنة لا تُستجدى... بل تُنتزع بقوة الحق".
تفجير مار إلياس لم يُضعف المسيحيين السوريين، بل أطلق صحوةً سياسيةً تاريخيةً تجسّدت في خطاب البطريرك يوحنا العاشر.
رؤيته لـ"سوريا المدنية" القائمة على المواطنة تُعيد للمسيحيين دوراً مفقوداً، وأساسياً لهم كمُعَزِّزين للعيش المشترك، وليس كأقليةٍ هشة، وضعيفة.
التحدي الأكبر الآن يكمن في تحويل هذه الرؤية إلى سياسات ملموسة: دستورٌ يكرّس المساواة، والديمقراطية، وأجهزة أمنية، مختارة بحرفية، ومن كل المكونات السورية، قادرة على الحماية، وخطابٌ رسميٌ يرفع وصف "المواطن" فوق أي هويةٍ أقلوية.
إن سوريا الحلم اليوم تحتاج إلى قوة، وهيبة القانون المفقود حتى اللحظة ليكون واقعاً وحقيقة.
كلام البطريرك، -والذي علينا عدم تجاهل أن غبطته لم يستطع البوح به في عهد الأسد- لم يكن بعيداً عن وصية المعارض السوري ميشيل كيلو الأخيرة للسوريين قبل رحيله عندما طلب منهم عدم النظر إلى سوريا "من خلال أهوائهم وأيديولوجياتهم"، مؤكداً أنهم لن يقهروا الاستبداد منفردين. طالباً منهم الوقوف في إطار وطني، وعلى كلمة سواء، وإلا سيبقون تحت ذلّ الأسد إلى زمن طويل.

 

لم يقع ضيم على المسيحيين السوريين منذ مجزرة 1860 أيام العثمانيين، يؤكد البطريرك، لكن دم شهداء "مجزرة" كنيسة الدويلعة، يكمل عقد الدم الاجتماعي السوريّ، بين الذين سقطوا في الساحل السوري، و صحنايا، وجرمانا، من أجل سوريا الجديدة دولة المواطنة، والمساواة والديمقراطية.
هي لحظة مفصلية، يحمل مسيحيو سوريا فيها مشعلين:
أحدهما ينير درب شهداء كنيسة مارالياس،إلى القبر، والآخر، يضيء طريقاً جديدةً من الكنيسة، والجامع إلى البرلمان. فهل يتحول الرماد المتطاير هناك إلى بصمةٍ لن تزول، في دستور سوريا الجديدة؟

أنيس المهنا (دمشق) - المدن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا