اجتياح السماء الإيرانيّة أسقط البلطجة في البحار.. وأنهى سبب وجود الأذرع

إنه دونالد ترامب، صاحب نظريّة الاتفاقات الإبراهيميّة في الشرق الأوسط الجديد، بقدر ما هو واضح، بقدر ما هو غير مُتوقّع، عدوّته المماطلة، يضرب الحديد حامياً، لا يستسيغ الضعفاء، حتى بين الحلفاء، ويحترم الأقوياء، حتى بين الخصوم، أسّس نهجاً جديداً بالدبلوماسيّة العالميّة لم تُفهم من زعماء العالم بعد: أسمّيها “دبلوماسيّة القوّة المُفاجِئة”، وهي أسلوبٌ غير معهود في العلاقات الدوليّة، أربك زعماء العالم، شرقاً وغرباً، وعمادها: القوّة “الفاقعة” أولاً، مدّ اليد ثانياً، إن تلقّفها الآخر مضى معه إلى اتفاق، وإن لم يتلقّفها، فليس أمامه وقت طويل، فالبراغماتيّة الكلاسيكيّة والمُبطّنة مرفوضةٌ لديه.
إنّ إيران التي اعتمدت على “الصبر الاستراتيجي” في مواجهة الضغوط والدبلوماسيّة العالميّة، وعلى استغلاله للتسلّل البطيء في الإقليم لتصدير الثورة، ومارست من “التقيّة” السياسيّة ما مكنّها من السيطرة على عواصم دول الممانعة، فنقلت جبهتها الأماميّة إلى حدود إسرائيل لتحصّن النظام، لم تكن، في أوج نجاحاتها، وغطرستها، قادرة على استشراف رسائل ترامب الحاسمة.
فحين ألغى ترامب الاتفاق النووي معها مثلاً، راهنت على الأوروبيين علّهم يضغطون عليه، وعلى “الصبر” حتى تنتهي ولايته، وحين اغتال قاسم سليماني، رمز تمدّد الأذرع، لم تفقه أنّ انسحابها من الإقليم مطلوب، وإن لم يكن بالحُسنى، فبالقوّة. ولقد كان من حسن حظهم أنّ بايدن عاد بالدبلوماسيّة التقليديّة، عرين الإيرانيين الذين أتقنوا المراوغة مع أوباما ونائبه (بايدن)، فاستفحل “تهرّبهم المُتقن لربح الوقت، ومن ثمّ انقضوا للّعب على حافة الهاوية لإلهاء العالم، ففتحوا حرب 7 أوكتوبر في غزة، وحرب الإسناد في لبنان، في لعبة استغلال لدماء الأبرياء، وفعّلوا البلطجة في مضيقي هرمز وباب المندب لتهديد استقرار الدول والاقتصاد العالمي، في لعبة تقوية شروطهم على طاولة المفاوضات.
ولكن، من سوء طالعهم أن يعود ترامب، وبقوّة أكبر، فكأنّ كل ما خطّط له نظام الملالي عاد به إلى المربع الأوّل! ولكن أدبيّات وسرديّات هذا النظام الإيديولوجيّة، وجنون العظمة الذي تنامى لديه، لم تسمح له بسماع هدير الإعصار القادم إليه، حتى بعد اغتيال إسماعيل هنيّة في عقر دار الحرس الثوري، واغتيال السيد حسن نصرالله، ولا حتى بعد سقوط الأسد، فأفلت ترامب نتانياهو من عقاله، وسقط قياديو إيران العسكريون في اللحظات الأولى، واحتلت إسرائيل الجو الإيراني، وانتقلت المعركة من غزة وبيروت، ومن صنعاء وبغداد، إلى سماء طهران.
ومع وقف إطلاق النار سيتنطّح المرشد، وكالعادة، بالنصر الإلهي، ولكنّ المواطن الإيراني العادي أيقن أنّ هذا النظام، والذي صرف بلايين الدولارات على الأذرع والتسلح، لم يكن قادراً على حمايته، وبعد أن تنتهي موجة التشييع واللطم، لن يستطيع هذا النظام أن يبرر هزيمته، فإنّ من كان يعارض همساً، سيعارض جهاراً، واستعمال القوة بحق الإيرانيين المعارضين سيبدو مُعيباً ومحط سخرية، فهالة النظام سقطت من سماء طهران، والتساؤلات ستتحول إلى انتقادات، والانتقادات إلى رفض، والرفض إلى معارضة عسى تتطوّر إلى انتفاضة، فذاكرة الإيرانيّين ستستفيق على جُرحٍ عميق في الوجدان والكرامة لن يندمل إلا برحيل هذا النظام!
البلطجة حشدت التأييد لإسرائيل، وكبّلت الصين وروسيا
بعد الضربات الأميركيّة للمفاعلات النوويّة الإيرانيّة، وسيطرة سلاح الجو الإسرائيلي على أجواء إيران التي تكبّدت الضربات على مدار الساعة، رغم الصواريخ والمسيّرات التي لم تنضب بعد في مخزون نظام الملالي، استوقفني أمران: البكاء على كتف بوتين “المأزوم”، وتصريحات الصين “الروتينيّة” والباهتة بالاستنكار.
لم يفقه النظام الإيراني أبداً أنّه، عسكريّاً، واقتصاديّاً، لن يدخل نادي الدول العظمى، لأنّه جعل نفسه مُجرّد “بلطجي”، لا شريكاً شريفاً في الأمن والاقتصاد العالميّين، ولأنّه يحمل في جيناته الأيديولوجيّة، وطموحاته التوسعيّة، سببَ الحذر منه، حتى لدى الحلفاء، فلم تنفعه الصواريخ والمسيّرات التي أعطاها لروسيا في حربها على أوكرانيا، بل جرّت، وستجرّ عليه الويلات من أوروبا، ولم يكفِ البترول الذي يبيعه للصين، والتي تدير ثورةً اقتصاديّة، ونُموّاً تجاريّاً في أوج ازدهاره، ليغطّي بلطجته. فالمسّ بالممرات المائيّة، هو تهديد للتجارة العالميّة، وممرات الطاقة، فإذا ما دعمت الصين تكتيكيّاً هذا النظام، فهي بالطبع لن تنغمس معه استراتيجيّاً، فهي تعرف مصالحها، فرؤيتها الاستراتيجيّة في المنطقة، بالرغم من سعيها الدائم لتوازُنٍ مع الولايات المتحدة، مبنيّة على الاستقرار وضمان الممرات المائيّة، وهنا يدخل دورها في اتفاقات الشراكة التي وقّعتها مع السعوديّة، وفي الاتفاق الذي رعته بين السعوديّة وإيران، كدليل عميق وذكيّ على البعد الاقتصادي لهذه الاستراتيجيّة البراغماتيّة التي لن تغامر مع “بلطجي” في الإقليم.
من هنا أيضاً لا يمكننا فهم التحوّل المفاجئ في المواقف الغربية، والذي أدى إلى تأييد العمليّة العسكرية الأخيرة ضد إيران، بمعزل عن هذه المتغيرات الجيوسياسية المرتبطة بمضيقي هرمز وباب المندب.
ما حصل رسالة للعهد وللحكومة اللبنانيّة
سقط سلاح حزب الله، (كما سلاح الأذرع في المنطقة)، مع سقوط سماء طهران، فلقد سقط دوره الاستراتيجي في الدفاع عن النظام الإيراني، وأضحى عبئاً على الداخل اللبناني.
نحن، إذا كنا نقدّر عدم اشتراك حزب الله في موجة الحرب الأخيرة، و”الواقعيّة” لديه تغلّبت على الـ”الإيديولوجيّة” هذه المرة، ونتفهّم، بعتب ربما، تأنّي العهد، والحكومة اللبنانيّة في سحب السلاح تطبيقاً للقرارات الدوليّة حتى لا ينزلق لبنان إلى حرب أهليّة، فإنّ ما آلت إليه الحرب الإسرائيليّة الإيرانيّة من نتائج تحتّم على لبنان الحزم، وتطبيق نزع السلاح، كل السلاح، ومن كل الفصائل، فالتسويف أضحى مرفوضاً، لأنّ الفرصة الإقليميّة والدوليّة سانحة، فلننتهزها، وإيران ليست في وضع فرض الشروط، فمع سقوط وظيفة السلاح سقط “لبنان الساحة” للآخرين!
استهداف “الباسيج” وبوّابة سجن “إيفين”: دعوةٌ للخروج من السجن الكبير
أذكر حين انتُخب أبو الحسن بني صدر، في 25 كانون الثاني 1980، كأوّل رئيس للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران بعد الثورة، بدا كمفكّر إسلامي مُثقّف، مُعتدل، واقتصادي مُتخصّص، مُتخرّج من جامعات فرنسا، مُؤيّد للخميني ومُقرّب منه، وأوحى لـ”الثوّار” والعالم بأنَّ إيران على عتبة تجربةٍ إسلاميّةٍ قد تصبح نموذجاً للحركات الإسلاميّة الساعية إلى الحكم. لكن، سرعان ما طوّقه رجال الدين المتشدّدون، فتمّ عزله من قبل البرلمان الإيراني، وبدعم من الخميني، في 21 حزيران 1981 (هرب إلى باريس ومات فيها عام 2021).
منذ عزل بني صدر استحكمت التيوقراطيّة، بأبشع صورها الديكتاتوريّة، واستحالت الديمقراطيّة صُوريّة، وجنح النظام نحو ازدواجيّة بين “صُوريّة” المؤسسات، وسلطة المرشد المدعومة من أهم، وأكبر، وأفعل تنظيم إرهابي عالمي، أي الحرس الثوري.
مع عزل بني صدر بدأ الشعب الإيراني في الدخول إلى السجن الكبير، ولمّا يزل!
كم هو مُشين بحق هذا النظام الإيراني، قامع الحريّات، وواضع المعارضين في السجون، ومعلق المشانق للأحرار في الليالي خلسةً، ومغتصب حقوق الشباب والمرأة، أن تقوم إسرائيل بضرب بوابة سجن “إيفين” ومراكز الباسيج، لتحمل رسالة تحرر للشعب الإيراني من الدكتاتور!
إنّه الزمن الرديء، حيث ينبلج صبحُ الحريّة من سلاح “عدوّ”.
المصدر: جريدة الحرة
الكاتب: الياس كساب
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|