آخر معارك وليد جنبلاط
لم يسلّم وليد جنبلاط الراية بعد لتيمور. عندما يحضر يترأّس الجلسة. صحيح أنّه صار رئيسًا سابقًا لـ "الحزب التقدمي الاشتراكي" والـ "اللقاء الديمقراطي" النيابي، ولكنّه يبقى صاحب الرأي الأول الذي يفرض الطاعة ويحدّد المسار ويأخذ القرار. من لبنان إلى سوريا والأردن وفلسطين تتمدّد تحركاته. آخر ما فاجأ به اللبنانيين كان إعلانه الخميس 26 حزيران في كليمنصو وإلى جانبه تيمور، الذي جلس صامتًا، تسليم سلاح "الحزب" إلى الجيش اللبناني. بعده بقليل كان أمين عام "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم يعلن تمسكه بالسلاح وبتبعيته لنظام ولاية الفقيه في إيران ويؤكد "لن نسكت إلى الأبد وقادرون على هزيمة اسرائيل".
لم يكن من الممكن بالنسبة إلى وليد جنبلاط أن يطالب "حزب الله" بتسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني بينما يحتفظ هو بكميات من الأسلحة. وهو واظب، منذ بدأ "حزب الله" حرب المساندة بعد طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023، على مطالبته بوقف هذه الحرب وبالعودة إلى اتفاق الهدنة الموقع عام 1949 بين لبنان وإسرائيل، وبتطبيق الطائف لجهة قرار حلّ جميع الميليشيات ومن بينها "حزب الله" حكمًا. ولكن ما فاجأ جنبلاط اللبنانيين به هو كشفه عن كميات الأسلحة التي كانت لديه وعن تسليمها إلى الجيش اللبناني.
بين الشيخ والبيك
بين وليد جنبلاط والشيخ نعيم قاسم انقسم المشهد في لبنان بين اتجاهين متناقضين: ناس راجعة من الحرب وناس رايحة عالحرب. بينما ظهر جنبلاط وكأنّه راجع من كل الحروب القديمة التي خاضها في لبنان، بدا قاسم وكأنّه متأهب لخوض حروب جديدة غير مكترث بما يريده اللبنانيون الآخرون، أو بالكوارث التي جرّتها الحروب التي جرّ حزبه لبنان إليها.
قد يكون جنبلاط تخلى عن ورقة السلاح حتى لا تثار ضده وتتحوّل إلى حجّة وذريعة عند "الحزب" لكي لا يسلّم سلاحه. وقد يكون حاول استباق أن تكشف جهة أخرى وتسرّب معلومات مثلًا عن هذا السلاح، فتضعه أمام موقف محرج. ولذلك اتجه إلى الكشف بطريقته الخاصة عن هذا الأمر الذي يبدو أنّه تم بطريقة سرية تقريبًا بينه وبين رئيس الجمهورية جوزاف عون وبين قيادة الجيش والعماد رودولف هيكل.
مدافع وبنادق لم يعد لها لزوم
ولكن اللافت في كلام جنبلاط أمور عديدة لا بد من التوقف عندها:
• إعلانه أنه بحث موضوع السلاح مع رئيس الجمهورية عندما زاره في 27 شباط الماضي مهنئًا في قصر بعبدا. يومها قال جنبلاط: "كما فهمت سابقًا خلال لقاءاتي مع بعض المسؤولين العرب والسفراء، هناك جدول أعمال مقرون بإصلاح لنيل المساعدات التي اعتدنا الحصول عليها في مرحلة معينة من التاريخ. وبالتالي، لا أعتقد بأننا سنحصل عليها من دون إصلاح لا بد منه، وقد أتى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بفريق عمل، اعتقد انه يستطيع القيام بهذه الأمور". وردًّا على سؤال عما إذا كان السلاح من ضمن الشروط؟ أجاب: "هو من ضمن اتفاق الطائف، واتفاق الهدنة هو من أهم البنود التي وردت في خطاب القسم. واعتقد أن لبنان سيتعرّض لضغوط من أجل تغيير هذا الاتفاق، فيما أنصح وأتمسك شخصيا به". وهو كأنه كان يعيد التأكيد على هذا الكلام مرة جديدة.
• قال جنبلاط إنّ الأسلحة كانت مخزّنة في "موقعٍ ما في المختارة"، وأنّه طلب من الرئيس أن يتسلّمها وأنّ التسليم تمّ قبل نحو ثلاثة أسابيع، لكنّه آثر التكتّم حفاظًا على الاستقرار، "إذ كانت الحروب مشتعلة شرقًا وغربًا، وها هي قد هدأت الآن بحمد الله". والسؤال هو لماذا حصلت هذه العملية بمثل هذه السرية؟ أما كان الإعلان عنها وتصوير عملية التسليم يخدمان استراتيجة العهد الجديد بأنّ قرار حصر السلاح بيد الدولة نهائي ولا رجوع عنه وعلى الآخرين أن يمتثلوا لهذا القرار؟
• كشف جنبلاط لماذا وكيف أتى هذا السلاح. وقال إنه أتى تدريجيًّا بعد أحداث أيّار 2008، عندما كان هناك توتّر كبير وحرب محدودة بين "الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ" و"حزب الله". وأنه عمل جاهدًا مع الجميع، ومع الدولة، بل ومع "الحزب" نفسه لوقف تلك الحرب. ومن دون أن يفصح قال "السلاح وُجِد؛ فقسم منه جرى شراؤه، والقسم الآخر كان منتشِرًا في بعض المناطق. عملت على تجميع هذا السلاح مركزيًّا، فجمعت غالبيّتَه. سلاحًا خفيفًا ومتوسّطًا، وبعض الرشّاشات الثقيلة عيار 23 وما سواها، وسلِّم هذا السلاح إلى الدولة". السؤال هنا كيف تمّ شراء هذا السلاح وتجميعه بعد أحداث 7 أيار؟ وهل دخل من خارج لبنان؟ أم تم الحصول عليه من تجار أسلحة في الداخل؟ وماذا كانت أجهزة الدولة تعمل حتى لا تكشف عن هذا الأمر؟
سلام وسلاح في أرض واحدة
• اللافت أيضا في هذا المجال أنّ جنبلاط كان يخرج منذ آب 2009 من صفوف 14 آذار ويعلن تموضعه في الوسط، ويسمي الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة بعد الانقلاب على حكومة الرئيس سعد الحريري مطلع عام 2011، بينما كان حزبه يشتري السلاح ويجمعه للدفاع عن مناطقه. وقد كشفت بعض الأحداث عن مثل هذا الأمر من خلال بعض الإشكالات التي حصلت، وخلال جولة رئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل في قبرشمون، كما انكشف موضوع تدريبات يقوم بها الحزب بعد مقتل أحد عناصره خلال التدريب.
• ربط جنبلاط خطوة تسليم السلاح بتطورات الحرب في المنطقة حيث اعتبر أنّ إيران خسرت وأن أميركا وإسرائيل ربحتا. "الجولة اليوم انتصرت فيها إسرائيل والغرب وأميركا... هناك اليوم صفحة جديدة فُتِحت في الشرق الأوسط، ووسائل المواجهة السابقة طُويت وما عادت صالحة. يجب أن يكون كلّ السلاح في يد الدولة. لذلك، إذا كان هناك حزب لبنانيّ أو أحزاب لبنانيّة، أو حتى أحزاب غير لبنانيّة، تمتلك سلاحًا، أتمنّى أن يُسلَّم هذا السلاح بالشكل والطريقة المناسبين إلى الدولة". وهذا الأمر سيجعل "حزب الله" يتّهمه، كما يتّهم غيره، بأنّه يراهن على نتائج الحرب الإسرائيلية، وأنّه مؤيّد للشرق الأوسط الجديد الذي تعمل له إسرائيل.
• لم يربط جنبلاط بين تسليم سلاح "الحزب" وبين احتلال إسرائيل لعدد من المواقع داخل لبنان مطالبًا بتسليم سلاح "الحزب" أولًا لأنّه لا يؤثر على مسألة انسحاب إسرائيل من عدمه، مؤكدًا صداقته وتحالفه مع الرئيس نبيه بري. وهو في هذا المجال قد يكون يعكس موقف الرئيس بري أيضًا الذي حرص خلال حرب الأيام الإثني عشر بين إيران وإسرائيل على التأكيد أن "حزب الله" لن يتدخل في هذه الحرب 200 بالمية. وقد أعاد جنبلاط التأكيد على تنفيذ القرار 1701 الذي ينصّ على نزع سلاح "الحزب" بالعودة إلى ما نصّ عليه اتفاق الطائف أيضًا.
• القنبلة التي فجّرها جنبلاط لم تكن في الكشف عن السلاح وعن تسليمه فقط، بل بتأكيده أن مزارع شبعا سورية. وبالتالي أراد أن يقطع أي ربط بين بقاء إسرائيل في هذه المزارع، وبين حجّة بقاء السلاح مع "حزب الله". كان قاطعا في المسألتين.
أسباب كثيرة للتكفير
إذا كانت الردود الأولى على جنبلاط ركّزت على مسألة تكفيره لأنه "تخلّى" عن مزارع شبعا فإن التشكيك بدوره ومواقفه سيتمدّد إلى اتّهامه بأنه يعيش حالة انتظار لمشروع إسرائيل بتقسيم الشرق الأوسط. وهذا ما كان قاله بعد زيارة الرئيس عون في شباط عندما طلب إليه استلام السلاح. كما قد يقال إنّ جنبلاط لم يسلّم السلاح وإنّ ما قاله كان مجرّد كلام غير مثبت، وإنّه لا يزال يحتفظ بسلاحه، خصوصًا أنه قال إنه لم يجمع السلاح كله بل معظمه. فهو أعلن بعد الحرب عام 1991 أنّه سلم سلاحه للدولة، وأنّه أعاد إلى سوريا السلاح الذي استلمه منها، وها هو اليوم يعلن مرة جديدة عن تسليم سلاح جمعه بعد أحداث 7 أيار، أو كان عنده. وبالتالي قد يكون هذا الكلام حجّة حتى لا يقوم "حزب الله" بتسليم سلاحه.
قد يكون هذا الإعلان الجنبلاطي عن تسليم السلاح خوفًا من أن يقوم أي شخص، أو أي مجموعة قريبة منه ومن البيئة الدرزية، بافتعال أحداث أمنية، أو الانجرار إلى إشكالات على الأرض، يرفضها ولا يريدها ويدرك أنّها تشكّل خطرًا على الدروز الذين يواجهون أوضاعًا صعبة في سوريا أيضًا. خصوصا على ضوء الإختلافات في التوجهات بينه وبين شيخي العقل في سوريا وإسرائيل، حكمت الهجري وأمين طريف، اللذين تلاقي مواقفهما المطالبة بحماية إسرائيلية أو دولية للدروز، مؤيدين داخل البيئة الدرزية. وهو أراد أن تكون المعارك السابقة التي خاضها، أو تلك التي خاف من وقوعها بعد عام 2008 وتحضّر لها، آخر المعارك التي تُفرض عليه، وهو يحاول أن ينصرف فعلًا إل تقاعده السياسي والعسكري، وتسليم الراية إلى وريثه تيمور. ذلك أن ما تسنّى له أن يفعله مع ابنه من خلال مواكبته في مسار تدرّجه في قيادة الطائفة والحزب والعمل السياسي، لم يتسنَّ له أن يعيشه مع والده كمال جنبلاط الذي انتهى باغتيال صاعق في 16 آذار 1977. كأنه يريد أن يضع خطًّا فاصلًا بين الماضي والحاضر والمستقبل وأن يترك لتيمور أرضاً نظيفة من دون ألغام.
إعلان جنبلاط تسليم السلاح جاء بعدما كان استقبل في 19 حزيران في كليمنصو الموفد الأميركي توم برّاك الذي ينتظر من السلطة اللبنانية ردًّا على مطلب واشنطن نزع سلاح الحزب بالتزامن مع الإنسحاب الإسرائيلي. خطوة جنبلاط تدخل ضمن الإستراتيجية الأميركية ويمكن أن تكون داعمة لتوجه السلطة في ردها على المطلب الأميركي. وكان لافتا تخصيص برّأك لجنبلاط بهذه الزيارة دون غيره من السياسيين اللبنانيين بعدما كانت انتزعت علاقته مع الموفدة السابقة مورغن أورتاغوس. لقاء يوحي بأنه حتى لو فكر وليد جنبلاط بالتقاعد فهناك من يعتبر أنه لا يمكن أن يتقاعد. بسلاح ومن دون سلاح يبقى له دوره وحضوره.
نجم الهاشم - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|