إهمال رسمي أم تعمّد لضرب القطاع المصرفي بحجة استعادة الودائع؟
مذ أعلنت الدولة في 7 آذار 2020 توقفها عن تسديد سندات اليوروبوندز المستحقة، بدأت للمرة الأولى في تاريخ #لبنان مرحلة إقتصادية سوداء، لم يتوقع أحد أن تصل الى القعر الذي آلت إليه، خصوصا بعدما تلقت الحكومة الكثير من التحذيرات والتنبيهات لعدم الإقدام على هذه الخطوة الخطيرة على الإقتصاد وصدقيته المالية، ومنعاً لانهيار المصارف والشركات المالية، التي كانت تحمل ثلثي سندات اليوروبوندز اللبنانية آنذاك، والبالغة قيمتها 31.1 مليار دولار.
أصيبت المصارف بهذا القرار بشبه مقتل، حيث كانت تراهن على نحو 4 مليارات دولار مستحقة، كانت قادرة على تأمين (الى حد ما) الطلب المتزايد من المودعين على السيولة، وامتصاص الأزمة التي كانت بدأت تلوح سوداويتها عليهم، في ظل وجود ما يقارب الثلاثين مليار دولار في احتياطات مصرف لبنان، والمَيل المبدئي لحاكميته لضرورة دفع المستحقات. راحت المصارف تلملم أذيال الخيبة، ويحاول كل منها بمفرده إنقاذ نفسه والتعامل مع المودعين "كل يوم بيومه" ووفقا لما تستطيع تأمينه من سيولة، تارة من بيع أصول وسندات تحملها، أو بيع إستثمارات مصرفية في الخارج.
لم يتوقف مسلسل استهداف القطاع، لكن حلقات مسلسل القوانين التي تعني المصارف مباشرة، وتساعدها على تثبيت استقرارها مرحليا، لم تنتهِ، إذ إن بعض مَن في هذه الدولة، يعمد في سلوكه اليومي والتشريعي، الى حشر المصارف واستنزاف موازناتها، وتآكل موجوداتها الخارجية، وصولا الى إفلاسها، الامر الذي ربما يبتغيه. هذا "التعمد" المباشر والملتبس الذي يتشارك فيه طَرَفا الحكومة والمجلس النيابي، يحصل من خلال نسف غير مبرر لأي تفاهم سياسي أو تشريعي، حول قانونَي إعادة هيكلة المصارف و"الكابيتال كونترول" وتعمّد خلق ذرائع "غريبة عجيبة" وحجج واهية وملتبسة، لعدم السير بهذين القانونين، بما يفسح في المجال أكثر امام رجال الاعمال والمتمولين والنافذين، لإقامة دعاوى قضائية خارج لبنان، وخصوصا في اوروبا، واستصدار أحكام تمكّنهم من الحصول على ودائعهم كاملة، وآخرها كانت الدعوى التي أقامتها في إحدى محاكم باريس مودعة سورية ضد مصرف لبناني، وصدر الحكم لمصلحة المودعة، وأجبِر المصرف الذي لا يحميه قانون "كابيتال كونترول" في لبنان على رد الوديعة لصاحبتها.
قانصو: تراخٍ مفتعل
لا شك في أن ما يحصل اليوم من ملاحقات قانونية في حق المصارف اللبنانية يشكل بحد ذاته تطورا لافتا ينبغي قراءته بتأنٍ، في وقت لا نزال نعتبر أن استرجاع ودائع اللبنانيين كاملة هو حق مقدس لا غبار عليه، ولكن في الوقت عينه قد يحمل هذا التطور معه تداعيات سلبية على الواقعين المالي والمصرفي عموما من جهة، ناهيك عن أن طريقة معالجة هذه القضية المفتوحة منذ نهاية العام 2019 بهذا الشكل، تشوبها استنسابية واضحة من جهة أخرى، لاسيما أن صغار المودعين، وهم الشريحة الأكبر، لن يقووا على تحمّل تكاليف رفع مثل هذه الدعاوى أكان في محاكم دولية أم لبنانية، وفق ما يقول الأمين العام المساعد لاتحاد أسواق المال العربية الدكتور فادي قانصو لـ"النهار". وبطبيعة الحال، يعتبر قانصو "ان هذا التطور اللافت، قد يشرع الأبواب أمام مزيد من الملاحقات التي قد لا تساهم سوى في تأزيم الواقع المالي أكثر فأكثر، خصوصا أننا لم نتطرق بعد إلى معالجة الاختلالات البنيوية القائمة في القطاع المصرفي، أكان على صعيد الشحّ اللافت في حجم السيولة المتاحة لدى المصارف، أم على صعيد معالجة الخسائر المالية في القطاع المالي ككل. وتاليا، كل ذلك من شأنه أن يساهم في مزيد من فقدان الثقة في القطاع المصرفي، ما يعني فقدان الثقة في النظام المالي ككل، وتاليا عزل لبنان عن النظام المالي العالمي، لاسيما أن وجود قطاع مصرفي موثوق به هو المفتاح لإعادة ربط لبنان مع أسواق الرساميل العالمية، ناهيك عن أن سلامة القطاع المصرفي لها تأثير ملحوظ على المخاطر السيادية وتاليا على أي تصنيف سيادي محتمل للبنان في مرحلة النهوض الاقتصادي".
أمام هذا الواقع، يرى قانصو أن معالجة الخسائر المالية تتطلب توزيعا عادلا ومنصفا لها، وذلك من رأس الهرم، أي الدولة، مرورا بالمصرف المركزي ومن ثم المصارف. في حين أن إصلاح القطاع المصرفي بجهود إعادة الهيكلة لتعزيز وضعيته المالية وحوكمته وقدرته على مواجهة الضغوط، لقطاع ببُعد ضخم مقارنة مع حجم الاقتصاد الوطني، بات يشكل مطلبا أساسيا. من هنا، فإن الإجراءات التي يفرضها مصرف لبنان حيال متطلبات السيولة والرسملة من شأنها أن تساهم في تقليص عدد المصارف التي قد تجد صعوبة في التكيف وتلبية المتطلبات في ظل هذا المناخ السائد حاليا، وسيتعين عليها الخروج من السوق، في حين أن مصارف أخرى ستكون قادرة على البقاء ومواصلة العمل، حتى لو كان ذلك يعني الاضطرار إلى بيع جزء من مؤسساتها التابعة في الخارج من أجل ضخ سيولة كافية بغية تعزيز رساميلها، أو الاندماج مع مصارف أخرى.
توازيا، كان المطلوب بالدرجة الأولى برأي قانصو "إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول من أجل ضبط حركة الأموال من لبنان إلى الخارج، غير أنه بعد مرور 3 سنوات على اندلاع أسوأ أزمة اقتصادية في تاربخ لبنان الحديث، لا تزال المماطلة المفتعلة في إقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول سيدة الموقف، نتيجة التجاذبات السياسية الداخلية المستمرة، ما أفقده اليوم فعليا الدور الأساسي الذي كان يجب أن يلعبه مباشرة بعد نهاية العام 2019، اي ضبط حركة الأموال من لبنان إلى الخارج للمحافظة على حقوق المودعين، بحيث كان يجب أن يقر المشروع إجراءات وتدابير استثنائية ومرحلية مباشرة بعد 17 تشرين 2019، تهدف إلى وضع ضوابط موقتة تشكل في الوقت عينه حماية لحقوق المودعين وتعزيزا لقدرات المصارف على القيام بواجباتها، مع حرية التصرف بالتحويلات الجديدة الواردة من الخارج من دون أي قيود، ما يعيد الثقة تدريجا في القطاع المالي اللبناني. إلا أنه اليوم ومع تبقّي أقل من 10 مليارات دولار من العملات الصعبة لدى المصرف المركزي، فإن إقرار مشروع الكابيتال الكونترول بات، على ما يبدو، حاجة للحد من المخاطر القانونية تجاه القطاع المصرفي أكثر منه للمحافظة على حقوق المودعين الذين تبخّرت ودائعهم بالعملات الأجنبية بما يوازي 90%".
محاومون يفيدون من الدعاوى
في الخارج!
إذا كانت القرارات القضائية في الخارج تشجع الكثير من كبار المودعين، الذين تسمح إمكاناتهم بتمويل تكاليف المحامين في الخارج، على إقامة دعاوى ضد المصارف اللبنانية، بيد انها ايضا تفيد بعض المحامين وخصوصا اولئك الذين يجاهرون بحماية المودعين. إذ تؤكد مصادر متابعة أن هؤلاء يتعاونون مع مكاتب محاماة في الخارج ويشجعون المودعين على اقامة الدعاوى من أجل مكاسب مادية بالـ"فريش" دولار. وتاليا لم يعد مستغربا أن يسعى هؤلاء عبر علاقاتهم مع السلطة الحاكمة الى الدفع باتجاه تطيير إقرار قانون "الكابيتال كونترول" لضمان سير اعمالهم مع مكاتب المحاماة الاجنبية لمصلحة موكليهم وتحقيق مردود مالي بالـ"فريش".
من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور محمود جباعي أن معالجة مشكلة المودعين "تتطلب حلا شاملا بخطة متكاملة. ولكن الاهم أن على الدولة تحمّل مسؤوليتها عن المبالغ التي صرفتها من اموال المودعين والتي لا تقل عن نحو 70 مليار دولار". ولكن في ظل هروب الدولة من تحمل مسؤوليتها، من البديهي، برأيه، "الوصول الى ما نشهده من استنسابية واضحة في التعاطي مع المودعين كافة، إذ يمكن أن يحكم القضاء في الخارج لمودع باسترجاع وديعته بالفريش دولار، وطبعا هذا حقه، ولكنه يربح على حساب مودع آخر في لبنان يلجأ الى القضاء اللبناني الذي يحكم باسترجاع وديعته بشيك مصرفي قيمته 15% من المبلغ المودع، وهذا الامر يؤثر على المودعين عموما والصغار منهم خصوصا بشكل كبير. من هنا يجب أن تكون هناك دقة وسرعة من الحكومة اللبنانية في معالجة هذا الوضع، بدل أن تأخذ وضع المتفرج، فيما الحكومات المتعاقبة سارت بسياسات خاطئة وأجبرت مصرف لبنان على تثبيت سعر الصرف من أموال المودعين. المشكلة ان الطبقة السياسية نأت بنفسها عن كل هذه المواضيع وتحاول أن تضع المصارف بوجه المودعين, وهذا الخطأ الذي يقع فيه المودع ونحاول الاضاءة عليه قدر الامكان، إذ لا يمكننا أن ننكر ان المصارف مذنبة وغامرت باموالنا ولكنها لا تتحمل وحدها المسؤولية، بل ان الجزء الاكبر من المسؤولية يقع على الذين أجبروا القطاع المصرفي على استخدام اموال المودعين بالسياسات الخاطئة".
الحل يقول جباعي "يحتاج الى رجال دولة حقيقيين ينكبون على معالجة شاملة وواعية لمشكلة القطاع المصرفي، وايجاد صندوق تعافٍ لاعادة اموال المودعين، عبر استغلال الواردات التي لدينا وخلق قيمة اقتصادية للمؤسسات والادارات الحكومية بتغيير اداراتها وتوسيع عملها وزيادة انتاجيتها، والتشجيع على التعاون بين القطاعين العام والخاص".مصرف
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|