الدولة تخذل فقراءها: أين تبخّرت أموال الحماية الاجتماعية؟
لا يكاد اللبنانيون يتخطّون محنة حتى تصدمهم محنة جديدة. وليس بالأمر مبالغة إذا قيل أنّهم لم بعرفوا خلال السنوات الستّ الأخيرة، فترة هادئة. فمن أزمة اقتصادية ونقدية إلى تفجير مرفأ بيروت وصولاً إلى حربٍ إسرائيلية مدمِّرة، كانت التداعيات السلبية تتراكم مسبّبة أزمة اجتماعية لا يمكن تجاوزها بسهولة، خصوصاً في ظل نقص الإيرادات الكافية لتمويل برامج المساعدات الإجتماعية.
أمّا الدولة، فلم تتمكّن طيلة هذه السنوات من بلورة خطة فعّالة لتأمين الإيرادات والتحكّم بها وتوجيهها بشكل صحيح نحو محتاجيها، بل على العكس تماماً، أُهدِرَ المال في غير محلّه، وأصبحت الدولة أمام عقبة تأمين تمويل مستدام لبرامج الحماية الاجتماعية. فهل خذلت الدولة فقراءها؟.
واقع الحماية الاجتماعية
بين العامين 2019 و2024 تركت الأزمات المتتالية بصماتها على كاهل اللبنانيين، فأفرزت ارتفاعاً لمعدّلات البطالة إلى نحو 43 بالمئة، وازداد الفقر بمعدّل 3 أضعاف ما كان عليه قبل الأزمة الاقتصادية، في حين طرحت كلفة احتياجات التعافي وإعادة الإعمار بعد الحرب، والمقدّرة بنحو 11 مليار دولار، التساؤلات حول القدرة الفعلية للبنان على تخطّي ما يمرّ به بسهولة. وما يزيد الأمر تعقيداً، هو إشارة تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ لبنان خسر أكثر من عقدٍ من مكتسبات التنمية البشرية، خصوصاً في مجالات الطبابة والصحة والتعليم. وهذه المؤشّرات تعني بأنّ مروحة اللبنانيين الذين يحتاجون لمساعدة اجتماعية، تتّسع.
أمام هذا الاتّساع، تقف مالية الدولة عاجزة عن تمويل برامج الحماية الاجتماعية بشكل كافٍ. ويُقرّ وزير المالية ياسين جابر خلال عرض تقرير لمعهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، يهدف إلى تحليل كيف أنفقت الحكومة على الحماية الاجتماعية خلال السنوات من 2017 إلى 2024، بأنّ "التحدي الأكبر أمامنا هو أنّ قدرتنا المالية محدودة للغاية، مع هامش ضيّق جداً للإنفاق التقديري، يذهب معظمه اليوم لتلبية الاحتياجات الطارئة". ويلفت النظر إلى أنّ "نسبة ما خصّص للحماية الاجتماعية في موازنة العام 2024 لم يتجاوز الـ4 بالمئة، وهذه نسبة لا تعكس حجم الحاجة، ولا تتناسب مع طموحنا ولا حقّ الناس علينا".
ورغم إقرار مجلس الوزراء في شباط 2024، الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية، والتي تقوم على تقديم المساعدات لمن هم أكثر حاجة. توسيع شبكات التأمينات الاجتماعية. تعزيز خدمات الرعاية الاجتماعية. دعم فرص العمل للفئات الأكثر هشاشة. تكريس حق كل لبناني ولبنانية في التعليم والصحة من دون تمييز أو عائق. إلاّ أننا ندرك أنّ هذه الاستراتيجية تصطدم بواقع صعب ومعقّد، فالواقع يقول لنا بوضوح أنّ أزمتنا الاقتصادية أعمق وأقدم".
كشف الأرقام
ضعف الإمكانيات المالية للدولة راهناً لا يعطيها صكّ براءة عن عدم تأمينها الحماية لمواطنيها قبل الأزمة وعدم احترازها للأزمة، وبالتأكيد يفتح المجال أمام ترقُّب ما ستقوم به في القريب العاجل لتدارك ما فاتها.
مليارات الدولارات تبخّرت بلا حماية اجتماعية حقيقية. هذا ما أظهرته أرقام التقرير. وبالاعتماد على الموازنة العامة، فإنّ "الاعتمادات المرصودة للحماية الاجتماعية كانت نحو 6.9 آلاف مليار ليرة في العام 2017 وارتفعت لأكثر من 50 ألف مليار ليرة في العام 2014"، لكن هذا الارتفاع لا يعكس بالضرورة أمراً إيجابياً يطال التغطية الاجتماعية، لأنّ قيمة هذه الزيادة بالدولار تبيِّن انخفاض التقديمات. وعليه "تراجعت قيمة التقديمات من 6.6 مليار دولار إلى نحو 1.3 مليار دولار"، ما يعني تراجع قدرة الدولة على الإنفاق على الحماية الاجتماعية.
حاولت الدولة تأمين الإيرادات الكافية لتغطية برامج الحماية الاجتماعية التي تشمل تقديمات وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة... ففي موازنة العام 2024 "نجد أنّ 42 بالمئة من الموازنة مخصّصة للتغطية الاجتماعية. 21 بالمئة من هذه النسبة ذهبت للحماية الاجتماعية ومثلها ذهب للتغطية الصحية، ما يعكس إنفاق الدولة على الصحة خصوصاً بعد موجة كورونا وتفجير المرفأ. وظهر هذا الإنفاق في مخصصات وزارة الصحة التي ارتفعت من 3.4 بالمئة في العام 2020 إلى 13 بالمئة في موازنة 2024".
الجدير ذكره، أنّ تخصيص الاعتمادات في الموازنات، لا يعني أنّها أنفِقَت حكماً. فبموجب التقرير "انخفضت نسبة الحماية الاجتماعية من الناتج المحلي الإجمالي من 6 بالمئة قبل الأزمة الاقتصادية إلى 2 بالمئة بدءاً من العام 2021. فالدولة لم تعد تستطيع صرف الاعتمادات بسبب نقص السيولة مع انخفاض الايرادات. فبات تركيز إدارة الخزينة على صرف النفقات الطارئة وغير القابلة للتأجيل".
الإنفاق على الشيخوخة
بغضّ النظر عن حجم الإنفاق على الحماية الاجتماعية، فإنّ تبويب الإنفاق عكسَ أزمة بنيوية، إذ أنّ "60 بالمئة من إجمالي الإنفاق على الحماية الاجتماعية جاء على شكل مخصّصات الشيخوخة والصحة للمواطنين. و77 بالمئة من هذه المخصّصات كانت عبارة عن معاشات للمتقاعدين في القطاع العام، و11 بالمئة للقطاع الخاص على شكل تعويضات نهاية الخدمة التي يقدّمها الضمان الاجتماعي".
وأظهرَ التقرير أنّ "موظفي القطاع العام هم أكثر الفئات استفادة من الإنفاق على الحماية الاجتماعية، وخصوصاً القوى العسكرية والأمنية، ويأتي بعدها موظفو القطاع الخاص. أمّا مَن استفاد من باقي المواطنين، فهم نسبة ضئيلة جداً". وبالتركيز على الإنفاق المتعلّق بالقطاع العام، فإنّ "معدّل 11 بالمئة من الإنفاق في الموازنة، على مدى 7 سنوات، ذهب لتغطية احتياجات 2.5 بالمئة من السكّان فقط".
ورغم كشف هذه الأرقام، إلاّ أنّ "الموازنة العامة لا تحمل تصنيفات واضحة تبيِّن الإنفاق على الحماية الاجتماعية"، وفق ما أكّدته الخبيرة الاقتصادية في معهد باسل فليحان المالي، سابين حاتم، التي أشارت في حديث لـ"المدن"، إلى أنّ "غياب التصنيف الواضح يؤدّي إلى إخفاء أموال قد تكون رصدت للحماية الاجتماعية لكن تحت بنود أخرى مثل التربية والصحة وغيرها. فمثلاً، هناك 40 بالمئة من الإنفاق على الحماية الاجتماعية، لا يظهر فعلياً تحت هذا البند في الموازنة، بل مخبَّأ تحت وظائف أخرى 15 بالمئة منها لا تهدف إلى الحماية الاجتماعية". ولفتت حاتم النظر إلى أنّ "التصنيف الصحيح للنفقات، يؤدّي إلى متابعتها والتدقيق بها". وقد أوصى المعهد، بحسب حاتم "في اعتماد تصنيفات أكثر وضوحاً للموازنة".
التمويل المستدام
أرهقت الدولة خزينتها بأموال استنزفت تحت شعار الحماية الاجتماعية، لكنّها في الواقع لم تبنِ شبكة أمان اجتماعي فعلي. وعلى سبيل المثال "أنفقت الدولة 60 بالمئة من أموال حقوق السحب الخاصة SDR لدعم المحروقات والقمح والأدوية، وهي ضمن الحماية الاجتماعية"، لكنها لم تحقّق الفائدة المرجوة. وفي السنوات الـ4 الأخيرة، باتت سلف الخزينة هي السبيل الأبرز لتأمين الحماية الاجتماعية "وفي العام 2023 كان هناك 32 بالمئة من سلفات الخزينة هي الممول لبرامج الحماية الاجتماعية، من دون الأخذ بالاعتبار المساعدات الاجتماعية لموظفي الدولة". وبالنتيجة، فإنّ التمويل المحلّي المتاح لتغطية الحماية اليوم "يعادل بين 9 إلى 10 بالمئة مقارنة بما كان عليه قبل الأزمة الاقتصادية". فكيف نؤمِّن تمويلاً مستداماً؟.
لتأمين استدامة مالية تعمل الحكومة اليوم، برأي وزير المالية "على تعبئة الإيرادات المحلية من خلال إصلاح السياسات الضريبية وترشيد الإعفاءات من ضريبة القيمة المضافة، وفرض ضرائب انتقائية جديدة... وغير ذلك".
الحديث عن الاستدامة المالية "أمر جدّي"، برأي حاتم، لأنّ التركيز الأساسي اليوم هو على عاتق التمويل من الجهات المانحة، لكن ماذا إذا توقّف التمويل؟. لذلك كانت توصية المعهد بالبحث عن تمويل مستدام لبرامج الحماية الاجتماعية".
وبالتاوزي، فإنّ التمويل المستدام ليس وحده الحلّ الأنسب. فبنظر وزيرة الشؤون الاجتماعية حنين السيّد، هناك ضرورة لـ"الدمج الاقتصادي، عبر توجيه المستفيدين من خدمات وزارة الشؤون الاجتماعية، نحو الوظائف". وبالنسبة إلى السيّد "المسألة لا تتعلّق بتقديم المساعدة فقط على المستوى النقدي أو الخدمات، بل في إيجاد فرص عمل لمحتاجي المساعدة ليتمكّنوا من الوقوف على أقدامهم". وانطلاقاً من أهمية هذا الأمر، كشفت السيّد أنّ "هناك 800 ألف لبناني يحصلون على مساعدات نقدية تتراوح بين 100 و120 دولار شهرياً. وسنعمل في غضون 5 سنوات على زيادة التمويل الحكومي لمواكبة نقص التمويل الخارجي. ومن خلال خلق فرص العمل، سيتراجع عدد محتاجي الدعم المالي خلال 5 سنوات. وعبر فرص العمل سيتراجع معدّل الفقر".
ما أنفقته الدولة في السابق، وعجزها اليوم عن إنفاق ما يكفي، يظهر أنّ الدولة خذلت فقراءها. أمّا الحديث عن خطوات لتأمين إنفاق إضافي، فيحتاج إلى إعادة بناء الثقة التي فقدت بين الدولة ومواطنيها، وهو أمر صعب في الوقت الراهن، ما يُبقي الفقراء أمام حاجة ملحّة للحماية.
خضر حسان - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|