الصحافة

من نيقوسيا إلى بيروت: تحالف الجوار في زمن التحديات المتوسطية

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في زيارة اتسمت بالرمزية والعمق السياسي والاستراتيجي، حطّ رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في نيقوسيا بدعوة رسمية من نظيره القبرصي نيكوس خريستودوليدس، حاملاً معه تطلعات بلد يرزح تحت أعباء سياسية واقتصادية وأمنية جسيمة، لكنه يبحث عن الأمل من بوابات العلاقات الدولية الراسخة، وفي مقدّمها العلاقة التاريخية مع قبرص.

جاءت المواقف التي أطلقها الرئيسان خلال القمة التي جمعت بينهما لتعكس وعياً مشتركاً بخصوصية الموقع الجيوسياسي للبلدين في شرق المتوسط، وضرورة تعزيز التعاون في مواجهة التحديات المتشابكة التي تضرب المنطقة من غزة إلى الجنوب اللبناني، مروراً بالهجرة غير الشرعية والتقلبات الاقتصادية والأمنية. فالرئيس عون وضع العلاقة مع قبرص في إطار أوسع من مجرد تعاون ثنائي، مقدماً إياها كنموذج لشراكة قائمة على قيم السلام والحرية والازدهار المشترك، مؤكدًا أن لبنان يتطلع إلى قبرص كبلد داعم وثابت، وصديق في السراء والضراء، وقادر على أن يكون شريكاً فاعلاً في مشروع إقليمي يعيد التوازن إلى شرق المتوسط.

أما الرئيس القبرصي فقد تحدث بلغة لا تقل حماسة، مؤكداً أن استقرار لبنان وازدهاره مسألتان استراتيجيتان ليس فقط لقبرص بل أيضاً للاتحاد الأوروبي. وجاء تأكيده دعم جهود الرئيس عون في تنفيذ القرار 1701 ووقف الأعمال العدائية، بمثابة إشارة واضحة إلى أن المجتمع الأوروبي يرى في لبنان ركيزة توازن يجب الحفاظ عليها، لا سيما في ظل اهتزاز المعادلات الأمنية والسياسية على أكثر من جبهة.

وقد بدا أن الزيارة لم تكن مجرّد مناسبة بروتوكولية، بل محطة سياسية رفيعة تنبئ عن انفتاح لبناني على إعادة تموضع استراتيجي في علاقاته الإقليمية والدولية، عبر البوابة القبرصية هذه المرة. فخريطة النقاشات الثنائية التي تطرقت إلى ملفات الأمن والدفاع والطاقة والتجارة والسياحة، كشفت عن نوايا واضحة لإعادة تشكيل شبكة التعاون بين البلدين بما يتجاوز الدعم المعنوي إلى شراكة عملية ملموسة، تترجم بدعم مالي أقره الاتحاد الأوروبي بقيمة مليار يورو للبنان، وتقوم قبرص بدور رئيسي في تسهيل إتاحته.

وتكتسب هذه الزيارة بعدًا إضافيًا في ضوء اعتزام قبرص ترؤس الاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من العام 2026، إذ تعهّد الرئيس القبرصي بأن يكون صوت لبنان داخل أروقة الاتحاد، مشيراً إلى أهمية مشاركة لبنان في القمم الأوروبية كخطوة لعرض رؤيته ومطالبه، ومذكّراً بلقائه السابق مع الرئيس عون في بيروت، والذي جرى غداة انتخاب الأخير، ما يعكس عمق التواصل السياسي بين الجانبين.

وفي التفاصيل المرافقة للزيارة، برزت الرمزية العالية في اختيار الرئيس عون وضع إكليل من الزهر أمام تمثال مكاريوس الثالث، مؤسس الدولة القبرصية الحديثة، في دلالة على احترام الدولة اللبنانية لتجارب الاستقلال والنضال المشترك ضد النفوذ الخارجي. أما الجولة على الخط الأخضر، الفاصل بين شطري الجزيرة القبرصية، فقد عكست وعياً مشتركاً بجراح الماضي والحاضر، حيث يلتقي لبنان وقبرص على درب السعي إلى سيادة كاملة ووحدة غير منقوصة، بعيداً عن التدخلات الخارجية والنزاعات المفتوحة.

وقد شكّلت كلمة الرئيس عون في المؤتمر الصحافي المشترك لحظة استحضار لتاريخ مشترك، حين تحدث عن الجغرافيا والتاريخ المشتركين، وعن القرون التي جمعت الشعبين في دروب التجارة والحروب والهجرات، مؤكداً أن "ما يجمعه التاريخ والجغرافيا لا تفرّقه الأرقام والحسابات"، ومشدداً على المصالح المشتركة في قضايا الطاقة، والاتصالات، والتعليم، ومصير المهاجرين العالقين في عبور يائس نحو أوروبا.

أما الرئيس القبرصي، فقد كان حاسماً في رسالته إلى بروكسل: لبنان ليس مجرد جار بل ركيزة للاستقرار، ولا يمكن للاتحاد الأوروبي تجاهل مكانته أو التخلي عنه. وهو إذ دعا إلى دعم جهود الرئيس عون في التهدئة وتثبيت الاستقرار، فقد قدّم قبرص كقناة دبلوماسية حيوية قادرة على ربط لبنان بمصالح الغرب، وبعالم يستمر في التغيّر السريع.

باختصار، أتت زيارة العماد جوزاف عون إلى قبرص لتؤكد أن لبنان لا يزال قادراً على الانفتاح والانخراط في محيطه القريب والبعيد، وأن علاقاته التقليدية، إذا ما أُعيد تفعيلها بحكمة وجرأة، قد تشكل بوابة لتثبيت حضوره، ورافعة لاستعادة دوره، ومتنفساً في زمن الانهيار. ولعل الأهم، أنها جاءت لتقول إن لبنان، على رغم الحصار والانقسام والأزمات، لم يفقد بعد صوته في الساحة الدولية، ولا صداقاته الصادقة، حين يلتقي الثبات القبرصي مع تصميم اللبنانيين على البقاء.

داود رمال  - "اخبار اليوم"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا