الضاحية الجنوبية لبيروت... نزوحٌ صامت وسط ضجيج السيناريوهات القاتمة
جاء، غادَرَ وسيعود. إنه الموفد الأميركي توماس براك الذي صارت الساعة اللبنانية تُضبط على توقيته، لمعرفة مآل لعبة «الحرب والسلم» بين لبنان وإسرائيل في ضوء الأخذ والردّ حيال مصير سلاح «حزب الله» والمدّ والجزْر في توقعاتِ انفجارٍ عسكري كبير.
وفي ظل هذا المناخ الذي يَستحضر حرباً لم تنتهِ ويُخشى أن تعودَ باندفاعةٍ أدهى، رُصدت حالات نزوح من الجنوب وربما أكثر وطأة من الضاحية الجنوبية لبيروت تَحَوُّطاً من تكرار السيناريوهات المدمّرة التي لا ترحم، لا البشر ولا الحجر، خصوصاً أن مَظاهر الفواجع لم تُمْحَ بعد.
فثمة إشارات واضحة لحركةِ نزوحٍ صامتة تشقّ طريقَها في الضاحية وسط الأحياء المكتظة التي مازالت عماراتها شاهدةً على ما حصل وعلى ما يمكن أن يَحدث في أي لحظة، مع تزايد التوقعات باندفاعة جديدة للحرب في حال فشلتْ مَهمة الموفد الأميركي.
عائلاتٌ كثيرةٌ أَنْهَكَها الخوفُ، بدأت تفكّر جدياً في البحث عن مأوى بديلٍ، ولو موقتاً، في مناطق تَرى فيها ملاذاً أكثر أمناً. فبين صوت المسيَّرات الذي يكاد لا يفارق أجواء الضاحية، والخطاب السياسي العالي النبرة لقادة «حزب الله» والمهل الافتراضية لتوماس براك التي يفرضها، تعيش المنطقة على وقع تهديد دائم وخطرٍ داهِمٍ وخوفٍ يجثم على صدور أهلها ويحضّ القادرين منهم على إيجاد مساكن بديلة.
مَن يتجول في الضاحية الجنوبية تطالعه على شرفات العمارات إعلاناتٌ لشققٍ برسم البيع أو الإيجار، ويتكرر هذا «العرض» في شكل واضح في الأحياء الأكثر تضرراً. وبدأت السوق العقارية في «مناطق الطوق» التي تحوط بالضاحية تشهد حركةَ طلبٍ متزايدة من سكان الضاحية، بعضهم يسعى للشراء، وآخَرون يكتفون بالاستئجار، أو حتى بنقل أولادهم إلى مدارس أبعد عن دائرة الخطر المحتمل. حركة نزوح وقائية لا تشبه موجةَ الهجرة القسرية التي شهدتها المنطقة في الأيام اللاهبة، مدفوعة بهاجس هو... عودة الحرب.
في حضن الخطر
على ألسنة الأهالي تتردد هَمْساً عباراتٌ تعكس القلقَ الذي يعتمل داخلهم: «أعصابنا ما عادت تتحمل الخضات، كل صوت قوي يصيبنا بنوبة هلع فكيف بالانفجارات والقصف... بيوتنا غالية على قلوبنا لكنها ليست أغلى من أرواحنا وأولادنا». بعضهم يعضّ على الجرح على وقع مُفاضَلَةٍ مؤلمة بين الصمود في الأرض، أو النجاة بحد أدنى من الطمأنينة.
ليست البيوت وحدها ومَن يسكنها من عائلات هي التي تعيش هاجس عودة الحرب بل معها القطاعات التجارية والتربوية. التجار يبحثون عن مستودعات لبضائعهم في المناطق الآمنة كما روى لـ «الراي» أحد السماسرة العقاريين في منطقة الحازمية القريبة من الضاحية. لا يهمّهم أن تكون الإيجارات هناك أغلى في شكل مضاعف... همُّهم الأكبر الحفاظ على بضائعهم ورأسمالهم ليتمكّنوا من الاستمرار. بعضهم وجد الحل في افتتاح فروع جديدة لتجارتهم خارج حدود الضاحية وفي مناطق ما كانوا يفكرون سابقاً في العمل فيها: في بيروت، عرمون، بشامون، الدوحة، الحازمية، بعبدا، الحدث، المنصورية، الدكوانة وسواها، فيما آخَرون يكتفون بببيع الستوك الموجود لديهم من دون السعي إلى تجديد بضائعهم.
المدارس بدورها تعاني في استعادة أعداد الطلبة التي كانت مسجَّلة فيها سابقاً، ويقول أحد مديري المدارس: «نعيش حالة من فقدان الوزن، لا نعرف إن كنا قادرين على فتْح أبوابنا في مطلع السنة الدراسية المقبلة ونحن غير متأكدين كم سيكون عدد طلبتنا. الخوف يجعل الأهالي مترددين في معاودة تسجيل أبنائهم. المنطقة باتت ميتة، نصف الأهالي هارب ونصفهم مستعدّ للهروب في أي لحظة. حتى إننا نجد صعوبةً في التعاقد مع أساتذة جدد، وباتت لدينا فراغات في المواقع التربوية. لكننا صامدون وسنفتح أبوابنا ولو بعشرة طلبة».
الناس، أهل الضاحية وسكانها، ما عادوا ذاتهم، الحربُ أَنْهَكَتْهُم والاستهدافاتُ المتنقّلة التي تلتْها كانت أصعب منها وأشدّ وطأة على أعصابهم وآمالِهم بهدوءٍ يعيد إليهم استقرارَهم. يعيشون يومَهم ويدُهم على الحقيبة. حقيبة طوارئ تحوي عمرهم مركونة قرب الباب وجاهزة لتقودهم في رحلة البحث عن الأمان.
«بعد كل استهداف للضاحية تنهال عليّ الاتصالات من السكان بحثاً عن شقة للإيجار»، يقول أحد السماسرة العقاريين في منطقة المتن. ويضيف: «ثمة عائلات تقرر اليوم الرحيلَ عن المنطقة، وثمة عائلاتٌ لم تَعُدْ إليها بعد الحرب وفضّلت البقاءَ حيث هي في المناطق التي لجأتْ إليها واستأجرت فيها بيوتاً وتأقلمتْ مع الحياة في بيئتها الجديدة. كثير من سكان الضاحية يبحثون عن شقق يشترونها في المناطق القريبة، لكن أصحاب الأملاك والشقق في هذه المناطق متخوّفون من بيع الشقق لأهل الضاحية خوفاً من استهدافات إسرائيلية محتمَلة، كما يترددون في بيع الأراضي خوفاً من تحويلها مجمعات سكنية تغيّر الوجهَ الديموغرافي لهذه المناطق. وحتى المستودعات يتم استئجارها أحياناً باسم أشخاص من المنطقة لتكون في الواقع لآخَرين من الضاحية».
خوف مبرر
حقائق مؤلمة في وطنٍ واحدٍ يُفترض أن يتقاسَم أهلُه السراء والضراء. لكن الخوفَ والقلق الدائميْن يدفعان أهل الضاحية لمواجهة الاستغلال والإساءة أحياناً فيبدون مستعدّين للتضحية بأموالهم واندماجهم من أجل الأمان. ولم يَعُدْ خافياً أن الشققَ تصبح أغلى حين تؤجَّر لهؤلاء وبَدَلَ الـ 100 دولار يَطلب أصحابها 500 مع دَفْعٍ مسبقٍ لمدة سنة، فيذعن الفارون نحو الأمان ويرضخون للمطلوب لتأمين سقفٍ يبعدهم عن أهوال الاستهدافات ومخاطرها.
هذه الهجمة رفعت من أسعار العقارات، سواء أراضٍ أو شقق، وجعلتْ العائلات المتوسطة الدخل من سكان الضاحية غير قادرة على إيجاد منزلٍ للإيجار، فيما المقتدرون يَدفعون الضعف وهم أصلاً يملكون منازل أخرى في مناطق بعيدة عن الخطر. كذلك نشأ في الضاحية ما يُعرف بـ «تجار الأزمات» الذين باتوا يستغلون حاجة الناس إلى بيع منازلهم ليشترونها بأسعار أقلّ من ثمنها الحقيقي ليعمدوا إلى بيعها في ما بعد لمَن فقدوا منازلهم.
لكن يبقى السؤال الأهمّ: هل خوف أهل الضاحية مبرَّرٌ إلى هذا الحد وهل ثمة مَخاطر من عودة الحرب أو من استمرار الاستهدافات المتكررة؟
العميد المتقاعد الباحث الإستراتيجي الدكتور خليل الحلو يقول لـ «الراي»، إنه «وبحسب المعطيات الموضوعية فإن عودةَ الحرب كما شهدها لبنان العام الماضي وبالكثافة ذاتها أمرٌ غير محتمَل. لكن مِن جهة أخرى فإن الاستهدافات المتكررة لن تتوقف سواء في الضاحية الجنوبية لبيروت أو في غير الضاحية، ولا رادع لها حتى اليوم ولا سبب لتوقُّفها حتى ولو تعهّدت الحكومة اللبنانية بإزالة سلاح حزب الله وبدأت التنفيذ ببطء. ولن تتوقف الاستهدافاتُ لأن لا إدانة واضحة تجاهها صدرتْ عن أي جهة سوى من الحكومة اللبنانية. لا إدانة عربية أو روسية أو أميركية، فلماذا يتوقف الإسرائيليون ما دام أحد لا يطلب منهم التوقف عن الاستهدافات، ناهيك عن أن الوضعَ مُناسِبٌ لهم وهو الأقلّ تكلفة عليهم. يستهدفون مسؤولي حزب الله بهدوء وبعيداً عن أي كلفة ديبلوماسية أو بشرية أو عسكرية بالنسبة إليهم، استهدافاتٌ من بعيد تؤذي الداخل ولا تسبّب أي ضرر في الخارج».
من هنا يقول الحلو إن «حركة النزوح من الضاحية مبرّرة، والخوفُ من الاستهدافات له ما يغذّيه. فسكان الضاحية لا يعرفون إذا كان المبنى الذي يسكنونه يضمّ أحد قادة حزب الله أو يحوي مركزاً عسكرياً يمكن أن يُستهدف. وقد تكررت الاستهدافاتُ أكثر من مرة في الضاحية، وفي المرة الأخيرة (5 يونيو الماضي) كانت عنيفةً وأحدثتْ أضراراً كبيرة».
ويضيف: «صحيح أن حجمَ النزوح غير واضح، ولكن المناطق القريبة من الضاحية تشهد وصولَ أفرادٍ وليس جماعات للبحث عن شقق في أمكنة بعيدة عن وجود جمهور الحزب لأنهم يعتقدون أنها بذلك تكون محمية وبعيدة عن الاستهدافات. لا يمكن الحديث عن نزوح، ولكنه بحثٌ عن الأمان».
البحث عن بيئة بديلة
في شهادةٍ حيةٍ، يصف الإعلامي والناشط السياسي المعارض لـ «حزب الله» السيد علي الأمين حياةَ أهل الضاحية بعد الحرب الأخيرة، ويرسم صورةً للواقع الجديد قائلاً لـ «الراي»: «الحربُ أحدثتْ تهجيراً. وبعد انتهائها، جزءٌ ممن يملكون الخيارَ الصعب والمُكْلِف بالبقاء في مناطق أخرى لم يَعُدْ إليها. حتى داخل الضاحية بعض مَن تدمّرت بيوتهم استأجروا شققاً من أشخاص قرّروا البقاء بعيداً عن الضاحية».
يضيف الأمين: «لا شك في أن الخوفَ كان الدافعَ الأساسي للابتعاد، لكن ثمة عاملاً اجتماعياً آخَر ساهم في بقاء السكان حيث هم في مناطق الطوق، وهو الشعور بعدم انتماءٍ مجتمعي إلى الضاحية. فسكانها غالبيتهم من قرى ومناطق أخرى نزحوا إليها على مرّ العقود لأسباب مختلفة، فنَمَتْ الضاحية وتوسّعت لكنها لم تشكل عند البعض هوية اجتماعية، ولذا لم يجدوا حَرَجاً في ترْكها، بل شعروا وكأنهم يتركون مكاناً كان يثقل عليهم ولا سيما بعد المقارنة بين حالة الفوضى التي تعيشها الضاحية وما تعيشه المناطق الأخرى ولا سيما إثر ازدياد ظاهرة انتشار الفوضى بعدما تقلّصت قبضةُ«حزب الله»ولم يقابلْها دخولٌ للدولة بحيث بات المواطن يشعر وكأنه متروك نهائياً».
تعقيداتٌ كثيرة تواجه أهلَ الضاحية الجنوبية القاطنين كما الراغبين بالمغادرة. كثر من القاطنين - بحسب الأمين - يستفيدون من الاقتصاد الموازي الذي أَنْتَجَه «حزب الله» إما بتقاضي رواتب يعتاشون منها وإما بالتعامل مع الشبكات الاقتصادية التي تدور في فلكه وشبكات المصالح المرتبطة به (ويُقدر عدد الذين يعتاشون من الحزب وشبكات مصالحه بما بين 600 ألف و 700 ألف شخص، الكتلة الأساسية منهم في الضاحية). وهذا ما يصعّب عليهم الخروج من هذه الدائرة. وكذلك مَن لديه مصالح اقتصادية في الضاحية صار مضطراً للبقاء وإن كان يسعى لإسكان عائلته بعيداً عن المنطقة.
إلا أن الإشكالية الأكبر التي تواجه مَن يرغب بالمغادرة هي صعوبة استئجار الشقق في مناطق خارج الضاحية حيث يتم النظر إليهم بعين الحذَر والريبة أمنياً واجتماعياً ما يدفعهم للبقاء في أمكنتهم. لكن مَن لديه إمكانية اجتماعية ومالية للمغادرة حتى من داخل بيئة «حزب الله» فقد عَمَدَ إلى ترك الضاحية.
الهروب إلى الأمام
لكن لماذا مازال أهل الضاحية يشعرون بالخوف والقلق فيما لبنان يستعدّ لموسم سياحي واعِد ينشغل اللبنانيون بالإعداد له والاستفادة منه بعدما انطفأ فتيل الاشتعال (الإسرائيلي – الإيراني) الذي اندلع في المنطقة؟ يجيب الأمين أن «الخوف الحقيقي مُنْطَلِقٌ من خطاب حزب الله ومن الصورة الحقيقية للناس المستفيدين من اقتصاد الحزب. فكأن الشيخ نعيم قاسم (الأمين العام للحزب) يقول في خطابه نحن رابحون في كل الأحوال فإن متْنا نكون رابحين وإن ربحنا نكون انتصرنا. ما يعني أن ثمة حرباً مقبلة، فإما نربحها وإما نموت فيها. هو يرفض تسليم السلاح، وبذلك ازداد الشعور عند الناس بأن ثمة مواجهة آتية وغير معروف شكلها بعد. ومن هنا فإن الخوفَ حقيقيّ ومبرَّر ويجعل الناس في الضاحية يَحسبون حساب الرحيل. الكل بات تحت ضغط الوضع القائم: لا تقديمات من أي جهة، ولا حتى وعود بالإعمار، و«القرض الحسن»أرجأ الدفعَ الى أَجَلٍ غير مسمى. وهذه المخاوف يتم الهروب منها إلى الأمام عند البعض، أي بمزيدٍ من التشبث بالخيار الوحيد الباقي ومحاولة استعراض قوة لإخفاء هذا القلق».
الناس في الضاحية ليسوا بخير وكأن حياتهم الطبيعية مؤجَّلة... في أي لحظةٍ يمكن أن يحصل ما يقلب أوضاعهم رأساً على عقب. فالاستهدافات اللاحقة للحرب كانت أشدّ وطأة عليهم منها إبان المواجهات. فبعدما رمّم البعض بيوته وعاد إليها، ضُربت من جديد وبات إمكان التصليح مجدداً أكثر صعوبة ولا سيما أن لا ثقة بأنها لن تتعرض لخراب جديد.
الضاحية الصامدة كما تبدو من الخارج يغادرها سكانها في شكل تدريجي كما يصفه الأمين، ويكاد أحد من خارجها لا يجرؤ على التوجه إليها، وإن كان أهلها مازالوا يتشبّثون بأسلوبِ حياةٍ عهدوه وتم العمل عليه بإصرار وجدية ليشكل اللحمةَ التي تجمع الجميع في بوتقة البيئة الواحدة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|