بيع الذهب في لبنان: ظاهرة صامتة تفضح وضع المواطنين

منذ أن بدأت الأزمة الاقتصادية اللبنانية أواخر العام 2019، تغيّرت الحركة داخل أسواق الذهب في لبنان، ليسيطر في بعض المناطق مشهد بيع "الذهب العائلي"، وهو الذي يعرف في لبنان بأنه مجموعة من قطع الذهب التي تكون في حوزة الأم غالبا، وتضطر إلى بيعه، لا لحاجات استثمارية أبدًا، إنّما من أجل سدّ الحاجات اليومية، أو الإصلاحات الضرورية، سواء داخل المنزل، أو السيارة، أو حتى لسدّ استحقاقات قروض، أو أقساط الجامعات والثانويات، والمدارس. هكذا، تحوّلت عملية بيع الذهب في لبنان من قرار اقتصاديّ طارئ، إلى ظاهرة اجتماعية صامتة، تتكشف تدريجيا على أرصفة الصاغة وفي زوايا البيوت.
قبل عام 2019، كان الذهب يُشترى كهدية في الأعراس، أو كادخار طويل الأمد، أو حتى كجزء من العادات العائلية. أما اليوم، فقد تغيرت الوظيفة جذريا.. الذهب لم يعد رمزًا للزينة أو الوجاهة، بل أداة بقاء. وبحسب تقديرات لتجار الذهب في مدن صيدا، عاليه، وبيروت، ممن تواصل معهم "لبنان24"، فإنّ مبيعات الذهب من قبل المواطنين في بعض المناطق قد تجاوزت 250%، وفي مناطق الاطراف، او النائية تجاوزت 350%. هذه الأرقام لا يجب أن تكون أرقامًا عابرة، إذ على الرغم من العجلة الاقتصادية التي تحسنت قليلا عقب الحرب، إلا أنّ هذه الأرقام تسلط الضوء على الطبقة الاجتماعية الوسطى التي نُسفت بشكل شبه كامل في لبنان، إلا في بعض المناطق المحدودة. والسؤال الأكبر الذي يُسأل هو ماذا سيحدث بعد عمليات بيع مخزون الذهب الكامل الذي تمتلكه هذه العائلات، وما سيكون مصيرها بعد سقوط الامان العائلي الذي كان يوفّره الإدّخار، ولو في أبسط أشكاله؟ انطلاقا من هنا، يتضح أنّ بيع الذهب ليس مجرد سلوك فردي، بل مرآة لانهيار بنيويّ طال ما يُعرف بـ"الطبقة الوسطى" في لبنان. تلك الطبقة التي شكّلت في ما مضى عصب الاقتصاد والمجتمع، فقدت اليوم القدرة على الاستمرار. لم تعد تملك حسابًا مصرفيًا آمنًا، ولا رواتب تكفي، ولا مدخرات للاستعانة بها. الذهب، الذي كان وسيلة الادخار، أصبح آخر ما تبقّى من القدرة على البقاء. في بعض المناطق، بات الحديث عن طبقة وسطى نوعًا من النوستالجيا، إذ انقرضت بفعل الانهيار، مخلفة وراءها طبقتين فقط: فقراء منهكون، وأغنياء محصنون.
الصائغ بديلا عن المصرف
مع غياب القروض المصرفية، وعدم قدرة المواطنين على سحب أموالهم، أو حتى دفع الفوائد التي تطلبها المجموعات المالية المنتشرة على الأراضي اللبنانية كافة ، يمكن القول أن الصائغ يغطي في مكان ما دور المصرف، إذ دفع تراجع القطاع المصرفي في لبنان بالعائلات إلى اللجوء إلى السوق غير المنظم، حيث يخضع الذهب لتسعير يومي فوضوي، ولا رقابة على الأسعار والمعايير. وهذا ما حصل خلال جولة لـ"لبنان24" على متجري ذهب يفصل بينهما عشرات الأمتار، حيث تم رصد فرق تجاوز 15 و20 دولارا، وهذا ما يشير إلى تفلت في التسعير، والمصيبة الأكبر أن الأسعار ترتفع أكثر فأكثر كلما اقتربت من العاصمة أو بعض المدن.
تأنيث الانهيار
اللافت في ظاهرة بيع الذهب أن أغلب من يتوجّهون إلى الصاغة هم من النساء، تحديدًا في الفئة العمرية بين 30 و55 عامًا. فمعظم هذه المجوهرات في حوزتهنّ، وهنّ من يتحمّلن عبء "التضحيات اليومية" للحفاظ على استقرار الأسرة. هذا الواقع يسلّط الضوء على "تأنيث الأزمة"، حيث تتحمّل النساء مسؤولية سدّ الفراغ الناتج عن عجز النظام المالي، ويتحوّلن إلى ضامِن اجتماعيّ غير مرئيّ، يُساهم في دفع الأقساط وتأمين الطبابة وحتى تغطية مصاريف المعيشة. من هنا، وفي ظل غياب المؤشرات الرسمية الشفافة، يبدو أن حركة بيع الذهب باتت تمثّل أحد أصدق المؤشرات عن عمق الأزمة اللبنانية. تمامًا كما تُستخدم مؤشرات الدولار أو العقار لتقدير الحالة الاقتصادية، يمكن اليوم تتبّع "موجات بيع الذهب" كمؤشّر على اشتداد الأزمات الاجتماعية. فكلما ارتفعت نسبة البيع، زادت هشاشة العائلات، وكلما زاد الاعتماد على الصائغ بدل المصرف، اتّسعت رقعة الدولة الموازية. الذهب، الذي كان يُعبّر عن الأمان، صار اليوم يعكس الانهيار.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|