لماذا يستمر اقتصاد "الكاش" في رفع الأسعار في لبنان؟

رغم استقرار سعر صرف الليرة نسبياً في السوق الموازية منذ النصف الثاني من عام 2023، ورغم أن التضخم العالمي لم يتأثر بعد بحرب الرسوم التجارية التي أطلقها دونالد ترامب، لا تزال الأسعار في لبنان في ارتفاع مستمر.
فوفقاً لمؤشر أسعار الاستهلاك (CPI) الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي يوم الإثنين، فإن ارتفاع الأسعار بين أيار وحزيران بلغ فقط 0.76%، إلا أن النسبة السنوية لا تزال عند 15% (مقارنة بـ14.44% في أيار)، وهو مستوى يعادل توقعات البنك الدولي لمعدل التضخم في لبنان لعام 2025. ومع استثناء قطاع الاتصالات (-3.27%)، شهدت معظم القطاعات الأساسية ارتفاعاً في الأسعار، لا سيما التعليم (+30.60%)، والصحة (+21.70%)، والغذاء (+20.79%).
«فائض» في التضخم
كيف يمكن تفسير استمرار هذا التضخم السنوي المرتفع؟ العوامل المعتادة – كالتوترات في الأسعار العالمية، والجشع من قبل التجار، و"مافيات" الوقود والمياه – كانت موجودة حتى قبل خريف 2019، ومع ذلك بقي التضخم معتدلاً (4.5% في 2017، و6.1% في 2018، و2.9% في 2019). نقطة التحول جاءت مع انهيار نظام سعر الصرف بين 2020 و2023، ما أدى إلى موجة تضخمية هائلة.
لكن حتى بعد الاستقرار النسبي منذ النصف الثاني من عام 2023، فإن معدل التضخم التراكمي في 2024 تجاوز 45%. ما يعني أن تأثير سعر الصرف لم يعد كافياً لتفسير هذا التضخم المستمر.
في وزارة الاقتصاد والتجارة، يعجز الخبراء عن تفسير «فائض» يتراوح بين 8 و10 نقاط مئوية لا تبررها العوامل الكلاسيكية. «إذا كانت الأسعار العالمية تتراجع، فلماذا لا تتراجع أسعارنا؟» يتساءل أحد الموظفين.
يقول الوزير الأسبق للاقتصاد ناصر سعيدي إن هناك عدة عوامل جديدة تغذي التضخم:
الحد من التهريب عبر المطار والمرافئ أعاد بعض التدفقات إلى القنوات الرسمية، ما أدى إلى زيادة التكاليف.
تطبيق الرسوم الجمركية بصرامة أكبر رفع أسعار الواردات.
ضعف المنافسة سمح لبعض المستوردين الكبار برفع أسعارهم تحت ذريعة رسوم جمركية أميركية جديدة مفترضة.
المصارف تفرض رسوم تحويل تصل إلى نحو 11% على التحويلات.
وجود شبكات غير رسمية في قطاعات الكهرباء والماء والوقود والنقل يزيد التكاليف النهائية.
ارتفاع الأجور الاسمية في بعض القطاعات انعكس جزئياً على الأسعار.
أزمة الثقة المصرفية ودائرة مفرغة
الاقتصاد النقدي المتضخم بفعل انهيار الثقة في المصارف – المشلولة منذ خمس سنوات – يُعد اليوم أحد العوامل الأساسية في تفسير التضخم. وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي في أيار 2023، فإن الاقتصاد النقدي في لبنان يمثل أكثر من 45% من الناتج المحلي الإجمالي.
هذا الحجم الكبير من التداول النقدي خارج النظام المصرفي يعطل آليات التسعير، ويقوض فعالية أدوات السياسة النقدية (مثل الاحتياطي الإلزامي، وأسعار الفائدة، والتدخل في السوق). كذلك، كلما ارتفعت نسبة التعامل النقدي، أصبحت البيانات الرسمية أقل دقة، ما يصعب من وضع سياسات فعالة للضرائب، والدعم، أو تحسين الدخل. وهكذا تصبح مكافحة التضخم عمياء.
يؤدي أيضاً إلى زيادة الطلب: فمع انعدام الثقة بالمصارف، ينفق المواطنون دخولهم بسرعة، ما يعزز التضخم. في اقتصاد أوليغوبولي يعتمد بشدة على الاستيراد، فإن من يتقاضى راتبه بالدولار يمتلك قدرة شرائية أكبر ويدفع الأسعار للارتفاع أكثر. ويتضح هذا من ارتفاع قيمة الواردات من 11.5 مليار دولار في 2020 إلى 17 ملياراً في 2024.
الدورة التضخمية مستمرة
منذ انهيار النظام المصرفي، يقوم الأفراد والشركات بتخزين النقد والعملات الأجنبية خارج المصارف، مما يعزز اقتصاد «الكاش»، ويعقد أي محاولة لإعادة رسملة البنوك أو إعادة تفعيل الدور التمويلي للقطاع المصرفي.
في هذا السياق، تظل مسألة الرواتب حساسة. كل زيادة يحصل عليها الموظفون في القطاعين العام والخاص تتآكل بسرعة بفعل ارتفاع الأسعار، ما يثير مطالب جديدة. ومن دون إصلاح شامل للقطاع المصرفي – يشمل إعادة هيكلة الميزانيات، معالجة الودائع، وضمان السيولة – ستبقى الرقمنة محدودة، وسيظل الاقتصاد النقدي يغذي دوامة التضخم ودورة الأجور والأسعار بلا نهاية.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|