الصحافة

زياد الرحباني... حين لا يشبه من يحبّونه

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في يوم وداعه، كان مشهد جنازة الفنان الكبير زياد الرحباني هو الرأي العام بامتياز. كل ما عداه بدا تفصيلًا في يوم لبناني كثيف الرمزية. من الشاشة إلى الشارع، بين الحشود والقاعة، بدت لحظة الإجماع الوطني حول اسم عملاق آخر من عائلة الرحباني يرحل من مسرح الأرض إلى المسرح الأخير. اللبنانيون استعادوا ذكرى شخص ساهم، بعمق وبسخرية وبألم، في تشكيل وعيهم. وبالتأكيد كان الأشدّ وقعًا ظهور والدته السيّدة فيروز، تلك القامة الفنيّة التي خيّم صمتها على السنوات الأخيرة، ففتحت لحظة وداعها بدموعها المخفيّة وصمتها الحزين المدوّي أبواب الذاكرة، ووسّعت مدى الخسارة.


لكنّ الرأي العام لا يعني الرأي الواحد.

فزياد، كما كان في حياته، بقي حتى اللحظة الأخيرة يثير رأيَين أو آراء. كيف لا؟ وهو لم يكن فنّانًا يبحث عن المديح، بل عن المواجهة. لم يكن يسعى لإرضاء جمهوره، بل لهزّه، لإرباكه، لجعله يفكّر ويعيد النظر.

زياد كان أكثر من فنّان، عبّر عن موقفه بوضوح، كان منحازًا للفقراء، للطبقات المهمّشة، للغارقين في عبث لبنان، زياد انتقد السّلطة السياسية وعبّر عن آرائه الصريحة في هذا السياق. لفهم زياد، لا يكفي أن نعدّد مواقفه، بل أن نقرأ في جوهر الفن الذي قدّمه. فهو لم يكن مغنّيًا، ولا ملحّنًا، ولا كاتبًا مسرحيًا فحسب، بل حالة فنية نقدية، مركّبة، تنهض على المزج بين فنونٍ عدّة وخطاب سياسي اجتماعي حاد.

جمع بين المسرح السياسي، والموسيقى الشرقية والجاز، في أعماله تماهى الجمهور مع شخصيات من الحياة اليومية، وفهم معاني اللغة العامية. يمكن أن نقارن بينه وبين المسرحي الألماني "برتولت بريشت" كلاهما سعى إلى زعزعة الجمهور. بريشت أراد من المتفرّج أن يخرج من المسرح محمّلًا بأسئلة، لا مندمجاً في العواطف. هو الذي كان يعتبر المسرح "فنّ اليومي". وزياد، بدوره، كان يفتح المشهد ليس فقط على الحدث، بل على تعليقه عليه، وتفكيكه، والاستهزاء منه.

بريشت جعل من المسرح سلاحًا ضد الفاشية، ومن جمله البسيطة لحظة وعي سياسي. وهو ما فعله زياد عبر الخشبة نفسها من خلال أفكاره ذات الهوى الشيوعي. من الطبيعي أن يأخذ الفنان موقفًا سياسيًا، فهذا لا يُسقط عنه فنّه، بل يؤكّده. فالمعنيّ، بالضرورة، صاحب قضيّة. وصاحب القضيّة لا يكتفي بالتصفيق أو الصمت. بل يبحث عن معنى. يكتبه، يلحّنه، يمثّله، ويصرخ به إن لزم الأمر. كلّ ذلك طبيعي، ولكن ما هو غير طبيعي أن يمثّلَ أحدهم في مشهد دور "الرفيق" على خشبة لا تمتّ إليه بصلة.



في مشهد الجنازة المهيبة، "حزب الله" تماهى مع الشّكل، لكن ينبغي تذكيره بأنّه لا يلتقي مع المضمون.

لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ زيادًا، في مراحل معيّنة، عبّر عن دعمٍ واضح للمقاومة ضد إسرائيل، وتقاطع في بعض لحظات الصراع مع مواقف "حزب الله". لكنّه، في المقابل، لم يتردّد في انتقاد تغييب الشيوعيين عن النضال، وفي التساؤل الصريح عن سبب احتكار النصر باسم جهة واحدة. قال بوضوح: "أعطى الشيوعيون كثيرًا "حزب الله"، لكنهم لم يأخذوا شيئًا"، هو الذي رفض أن يكون فقط "حزب الله هم الغالبون!".

صحيح أنّ النائب إبراهيم الموسوي كان على حقّ حين قال أمس إنّ زيادًا جمع الكلّ، حتى خصومه السياسيين. لكن حتى لو ادّعى الموسوي أنّه لا يريد الحديث بمنطق "الشرقية والغربية"، فقد بثّ في كلماته ذاك الخبث الطائفي المُقنّع، الذي هو جوهر ما حاربه زياد.

زياد، تمامًا كبريشت، كان يساريًّا، ناقدًا، أحبّ أسلوبه الجمهور أم لا، لا يمكن نكران أنّه علّم في مكانٍ ما وساهم في التفكير والحريّة. لكنّ الغريب أن يحبّ "الحزب" الذي قتل الشيوعيين المعارضين له في مرحلة، وكمّم أفواهًا، ورهّب واغتال معارضين آخرين في مراحل تالية، فنانًا كل ما فعله هو التفكير خارج الجوقة! غريبٌ على حزب يخوّن من ينتقده، أن يحبّ فنانًا أساس فنّه النّقد. غريبٌ على حزب رهّب معارضيه بالسلاح، أن يحبّ فنانًا أساس فنّه معارضة السّلطة والميليشيات. غريبٌ أيضًا، أنّ يقول الموسوي: "فيروز أمّ الوطن لا أمّ زياد فقط"، وهو يمثّل حزبًا منع أغانيها في "الجامعة اللبنانية" وفي الباصات المدرسية صباحًا.

إن أحبّ "حزب الله" فيروز فعلًا، ليحبّها بصوتها الكامل لا بنسخة مبتورة على قياس رقابة حزبيّة، وإن أحبّ زيادًا فعلًا، ليحبّه بنسخته الكاملة النقدية، فهو لا يشبه زيادًا بشيء. الأكيد أنّ زيادًا قدّم أكثر منه بكثير إلى هذا الوطن، وهو لا يزال يعتبر خطواته مقدّسة، يدمّر لبنان، لا يعيد قراءة تجربته، ولا يعترف بخطئه. هو حزبٌ ، بينه وبين "النّقد"، سوء فهم!

المصدر: نداء الوطن
الكاتب: ماريان زوين

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا