الحياة في لبنان: قبل ولاية الفقيه وبعدها
من الانفتاح إلى الأدلجة الطائفية… كيف غيّرت الثورة الإسلامية وجه المجتمع؟
في لبنان، لا شيء بقي على حاله. فمن مجتمع متنوع، متصالح مع ذاته، منفتح في عاداته وتقاليده، تحوّل الواقع تدريجيًا إلى مشهد تغلب عليه المظاهر الأيديولوجية والانقسامات العقائدية. لم يكن في شوارع بيروت حضورٌ واسع لما يُعرف اليوم باللباس الشرعي بالشكل الذي نراه الآن، ليس تقليلاً من شأن الحجاب أو انتقاصًا من خيارات فردية مشروعة، بل توصيفًا لتحوّل اجتماعي عميق، نقل الدين من مساحة شخصية إلى مشروع سياسي جامع بين العقيدة والسلاح.
العام 1979 لم يكن مجرد سنة عابرة في التاريخ المعاصر. لقد شكّل انتصار الثورة الإسلامية في إيران لحظة مفصلية في تغيير طبيعة المجتمع الشيعي، ليس في إيران وحدها، بل أيضاً في لبنان، الذي تحوّل تدريجيًا إلى ساحة لتصدير الفكر الثوري الإيراني تحت راية ولاية الفقيه.
أدلجة ممنهجة
قبل 1979، كان الشيعة في لبنان طائفةً كباقي الطوائف، منفتحة اجتماعيًا ومندمجة في النسيج الوطني اللبناني. لكن بعد الثورة، أصبحت الطائفة الشيعية شيئًا آخر. فقد انطلقت عملية أدلجة ممنهجة حوّلت هذه الطائفة إلى بيئة مغلقة، تتغذى على الشعارات العقائدية والتعبئة الدينية تحت ستار «الجهاد» و»مواجهة إسرائيل».
تم تنميط المجتمع الشيعي تدريجيًا، لا فقط على المستوى العسكري والسياسي، بل على مستوى الهوية والانتماء والسلوك الثقافي اليومي. حتى المناسبات الدينية، وعلى رأسها عاشوراء، التي كانت تقتصر سابقًا على إحياء اليوم العاشر، أصبحت لاحقًا منصّة للخطاب السياسي العقائدي، تُستخدم لتلقين الجماهير مفاهيم عقائدية وتعبوية تُغذّي الانتماء الأيديولوجي وتشدّ العصب الطائفي.
الطاعة العمياء
تحت ولاية الفقيه المطلقة، تتحول العلاقة بين الإنسان والعقيدة إلى علاقة استسلام مطلق. فـالولي الفقيه هو «المسدّد بعيون المهدي»، وبالتالي لا مجال لمناقشة ما يصدر عنه. كل من يتلقى هذا الفكر، يتحول إلى متلقٍ بلا نقاش، يسير وفق ما يُؤمر به، لا وفق ما يُقنعه العقل والمنطق.
وليس أجمل أو أفضل من المناسبات الدينية لتلقين الشخص المفاهيم تحت ستارها، فالمناسبة هنا تصبح وسيلة للشدّ الطائفي وتثبيت الولاء، وخلق بيئة تخدم مشروعًا أيديولوجيًا لا يقبل الآخر، ولا يقرّ بالعيش المشترك.
الجهاد لم يكن فقط ضد إسرائيل
نص الرسالة المفتوحة التي وجهها «حزب الله» إلى المستضعفين في لبنان والعالم في 16 شباط 1985، يشكّل مرجعًا واضحًا لهذه المنهجية، إذ ورد فيه تحريض صريح وشدّ للعصب الشيعي، وتحديد واضح للأعداء: إسرائيل، أميركا، فرنسا. كما وردت فيه المفاهيم الثقافية والفكرية لـ «الحزب»، وكيفية العمل على ترسيخ الفكر الإسلامي في لبنان، استنادًا إلى مفهوم ولاية الفقيه المطلقة.
فلم يكن الصراع يقتصر على مواجهة إسرائيل. بل شمل أيضاً ما وصفه «حزب الله» بـ «العدو الصليبي»، في إشارة إلى الكتائب اللبنانية.
تسويق التطرف السنّي
ما هو لافت أيضاً، أن الثورة الإسلامية في إيران لم تكتفِ بأدلجة المجتمع الشيعي فحسب، بل ساعدت في تسويق التطرف السنّي خاصة في الشمال. ففي العام 1987، صادق الموسوي، أحد أبرز العقول التي كانت تقف خلف فكرة إنشاء الجمهورية الإسلامية في لبنان، رشّح الشيخ سعيد شعبان لرئاسة الجمهورية. «حزب الله» جسّد «يوم القدس» و»أسبوع الوحدة الإسلامية»، وبالتالي ساعدث الثورة الإسلامية في إيران في احتضان وتطوير التطرف عند الطائفة السنية.
المرجعية الفكرية المطلقة لولاية الفقيه
ولاية الفقيه المطلقة لم يستحدثها الخامنئي، بل استقاها من مرجع شيعي عاش في القرن السابع عشر في عهد الخراجي، ويدعى المراقي. هذا يعيدنا إلى فهم الجذور الفقهية لهذا المشروع، الذي لم يُبتكر من فراغ، بل بني على منظومة دينية ترى في الفقيه ظلّ الله على الأرض، وبالتالي تحجب عنه النقد والمحاسبة.
فخامنئي، الذي ورث نظرية ولاية الفقيه المطلقة عن مرجعيات شيعية في القرن السابع عشر، لم يكتفِ بتطبيقها في الداخل الإيراني، بل جعل منها مشروعًا عابرًا للحدود، يبدأ من العراق، ويمتدّ إلى سوريا، ويترسّخ في لبنان عبر «حزب الله»، كأنهم يقولون للشعوب: «أنتم كفار، ونحن جئنا نهديكم».
التحوّل في لبنان ما قبل ولاية الفقيه إلى ما بعدها، ليس تحوّلاً في الزيّ أو الشعارات فقط، بل في البنية النفسية والفكرية والثقافية لمجتمع بأكمله.من الشيعة المتصالحين مع التنوع اللبناني، إلى جماعة مؤدلجة تُشدّ إلى مرجعية دينية خارج الحدود، تغيّر وجه لبنان، وانقسمت الهويات، وتحوّل الدين من مساحة روحانية إلى سلاح تعبوي خطير.
إنها قصة أدلجة مجتمع، تبدأ من زيّ شرعيّ، ولا تنتهي بـ»الولاية» أو «الخلافة»، لكنها تمرّ حتماً بتدمير المفهوم الوطني الجامع.
ماريانا الخوري -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|