تطور طبي لافت.. اللقاح الروسي ضد سرطان المثانة بات قيد الاستخدام
إصلاح المصارف ينتظر قانون الفجوة المالية
منذ انفجار الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان نهاية العام 2019، بدا واضحاً أن أسبابها تعود إلى إخفاقات متراكمة في السياسات المالية والنقدية على مدى عقود من الزمن. ورغم فداحة الانهيار وخطورة المآل الذي وصل اليه الوضع، امتنعت السلطة السياسية، ممثَّلة بالحكومة والمجلس النيابي، عن اتخاذ الإجراءات التشريعية الضرورية والملحّة لمعالجة الأسباب البنيوية للأزمة والحد من تداعياتها، ما أدى إلى تفاقمها وإطالة أمدها.
فمنذ بدايات الأزمة وحتى انطلاق العهد الجديد، ظلت مشاريع القوانين الإصلاحية تتعثر داخل أروقة المجلس النيابي، تارة بسبب التجاذبات السياسية، وتارة أخرى نتيجة غياب الإرادة الجدية في مواجهة المنظومة المالية التي راكمت أرباحاً طائلة لعقود على حساب الدولة والمجتمع. أما المبادرات الحكومية، فغالباً ما افتقرت إلى رؤية متكاملة ورغبة صادقة في الحل في ظل الانقسام السياسي العميق وتضارب المصالح.
واليوم، وعلى الرغم من تعهد الحكومة الجديدة بالسير في مسار الإصلاح وإيجاد حلول للأزمة المتفاقمة، إلا أن ما تحقق حتى الآن لا يرقى إلى مستوى الآمال والتطلعات، ويعكس استمرار حالة التردد والعجز في مقاربة الانهيار بشكل فعّال وجذري.
وأبرز ما أنجزته الحكومة حتى الآن هو تعديل قانون السرية المصرفية، الذي أقرّه المجلس النيابي في 24 نيسان/أبريل 2025، وشمل تعديلات جوهرية شكّلت تطوراً ملحوظاً في النظام المالي اللبناني. وقد هدفت هذه التعديلات إلى استعادة ثقة المودعين والمانحين الدوليين، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى تلبية مطالب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومن خلفهما المجتمع الدولي في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
كما أحالت الحكومة إلى المجلس النيابي مشروع قانون إصلاح المصارف، الذي أقرته لجنة المال والموازنة بعد تعديل نسخته الأولية في لجنة برلمانية فرعية، تمهيداً لإقراره في الهيئة العامة. ويُعدّ المشروع إطاراً قانونياً حديثاً يتماشى مع المعايير الدولية، كان النظام المصرفي اللبناني يفتقر إليه، ويوفّر أدوات قانونية لمصرف لبنان والحكومة للتعامل مع الأزمات المالية الراهنة والمستقبلية، خصوصاً بعدما ألقت الأزمة بظلالها الثقيلة على المودعين والاقتصاد الوطني.
لكن المفارقة تكمن في أن مشروع قانون إصلاح المصارف، ورغم أهميته، لن يدخل حيّز التنفيذ ما لم يُقرّ قانون آخر مكمّل له. إذ تنص المادة 37 من مشروع قانون الإصلاح على أن تطبيق أحكامه مرتبط بإصدار قانون معالجة الفجوة المالية، وهو القانون الذي يُفترض أن يُشكل ممراً إلزامياً نحو إعادة الانتظام المالي، من خلال تحديد حجم خسائر القطاع المصرفي المتراكمة، وتحديد مصير الودائع وتسديدها.
وبينما كان من المفترض أن يُقر كل من مشروع قانون اصلاح المصارف ومشروع قانون الفجوة المالية قبل نهاية تموز الحالي، على اعتبار أن اجتماعات الخريف لصندوق النقد الدولي تُعقد في شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، ويُفترض بالوفد الرسمي اللبناني الذي سيشارك في هذه الاجتماعات أن يحمل معه هذين القانونين، للتأكيد على تلبية لبنان الإصلاحات المطلوبة منه من المجتمع الدولي، إلا أن قانون الفجوة المالية لا يزال غائبًا بالكامل عن طاولة الحكومة.
ذلك انه حتى اللحظة، لا توجد لدى الحكومة مسودة رسمية لهذا القانون، والمسودات السابقة التي تم تسريبها لا ترتقِ إلى مستوى الإصلاح أو تأمين العدالة. وتجدر الإشارة الى أن كل تأخير في إعداد المشروع وإحالته إلى مجلس الوزراء يهدد بتأخير درسه ومن ثم إقراره في المجلس النيابي، خصوصاً مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، ويؤدي بالتالي الى تأخير إضافي في انطلاق ورشة الإصلاحات.
في المقابل، تشير المعلومات إلى أن مصرف لبنان بدأ إعداد مشروع قانون لمعالجة الفجوة المالية وتوزيع الخسائر والمسؤوليات، مستفيداً من التعديلات الأخيرة على قانون السرية المصرفية، التي منحته صلاحية الاطلاع على حسابات المصارف وكبار المودعين، لتكوين صورة دقيقة عن حركة الأموال وتحديد معايير إعادة هيكلة القطاع وتوزيع الخسائر وكيفية استعادة الودائع.
يمكن تعريف الفجوة المالية على مستويين متكاملين:
أولاً، على مستوى العلاقة بين المصارف والمودعين، حيث تمثل الفجوة الفرق بين إجمالي الالتزامات تجاه المودعين وقيمة الأصول القابلة للتسييل في المصارف، بعد احتساب الخسائر.
وثانياً، على مستوى العلاقة بين المصارف من جهة، ومصرف لبنان والدولة من جهة أخرى، إذ إن جزءاً كبيراً من أصول المصارف موظف لدى مصرف لبنان وسندات خزينة، التي تعرضت بدورها لخسائر حادة جراء الانهيار المالي.
ما يعني أن الودائع لا يمكن استعادتها من طرف واحد فقط، بل أن مسؤولية ردها موزعة فعلياً بين الدولة، المصرف المركزي، والقطاع المصرفي.
وقد قُدّرت هذه الفجوة المالية بحوالي 73 مليار دولار، ويعود السبب الأساسي لها إلى عوامل عدة، أبرزها:
- توسع المصارف بإقراض الدولة التي اعتمدت على الاستدانة لتمويل نفقاتها، ما أدى إلى تجاوز خدمة الدين العام لمجمل إيرادات الدولة.
- سياسات تثبيت سعر صرف الليرة التي استنزفت احتياطات مصرف لبنان.
- الهندسات المالية التي اعتمدها مصرف لبنان وتسببت بزيادة التزاماته تجاه المصارف واخفت حجم الازمة واسبابها.
- سياسة دعم الاستيراد التي اعتمدت بعد الانهيار المالي، وتسببت بخسارة الجزء الأكبر من احتياطات مصرف لبنان المتبقية من العملات الأجنبية.
وعلى أهمية تحديد الأسباب التي أدت الى الفجوة المالية، إلا أن الأهم يكمن في كيفية ردم هذه الفجوة وسبل معالجة أسبابها وضمان عدم تكرارها. سيما وأن ارتدادات هذه الفجوة طالت المودعين أولاً، دون غيرهم من سائر الأطراف الاقتصاديين وخاصةً المصارف ومصرف لبنان بالإضافة الى الدولة. ما يستدعي أن يُشكّل المودعين ولا سيما منهم أصحاب الودائع الصغيرة، أولوية مطلقة في أي حل مرتقب.
كما لا يمكن القبول باستمرار المصارف في وضع يدها على أموال المودعين دون سند قانوني، أو تمسّكها بمكتسباتها السابقة دون ابداء ادنى استعداد لتحمل جزء من الخسائر، متجاهلة مسؤوليتها الأساسية في التوسع المفرط بإقراض الدولة، في مخالفة واضحة لمعايير إدارة المخاطر ومبادئ بازل المتعلقة بالانكشاف السيادي. إن استعادة الثقة بالقطاع المصرفي تتطلب مساهمة فعلية من المساهمين والدائنين الكبار في امتصاص الخسائر، لضمان عدالة توزيعها واستدامة دور المصارف في الاقتصاد الوطني.
وفي المقابل، فإن الدولة اللبنانية مطالبة بتحمّل مسؤولياتها في حماية الودائع واصحابها، فمسؤولية الدولة تجاه مواطنيها ودورها كمنظّمٍ للعلاقات بين الأطراف الاقتصادية وضامنٍ للحقوق، تتخطى مسألة استفادتها من الودائع من عدمه ولا يمكن التنصل منه، وخصوصاً في زمن الانهيارات. الامر الذي يسمح باستعادة الثقة المفقودة بالدولة أولاً وبالقطاع المصرفي ثانياً، ويعيد بالتالي انتظام العمل المالي في لبنان.
٢٩/٧/٢٠٢٥
غازي محمود، كاتب وباحث في الشؤون الاقتصادية.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|