هل تسقط الشرعية حين تغيب الميثاقية؟
في خضم التجاذبات السياسية التي يشهدها لبنان، تبرز الميثاقية ككلمة سر حاسمة ومربكة في آن. يستحضرها البعض كشرط لازم لأي قرار، فيما يتهمها آخرون بأنها تتحول إلى سلاح تعطيل في وجه القرارات الدستورية.
ولكن، إلى أي مدى يمكن للميثاقية أن تكون معيارا لشرعية القرار؟ وهل كل ما هو غير ميثاقي يعتبر بالضرورة غير دستوري؟
يرى وزير سابق وخبير دستوري فضل عدم ذكر اسمه «أن الميثاقية مفهوم سياسي قبل أن يكون معيارا قانونيا صارما. فهي تعبر عن توازنات دقيقة في مجتمع تعددي كلبنان، لكنها لا ترقى إلى مرتبة النصوص الدستورية الملزمة في كل قرار تفصيلي».
ويقول لـ«الأنباء»: «الدستور اللبناني واضح في هذا الإطار، هو لم يسقط الشرعية عن قرارات مجلس الوزراء في حال فقدت هذه الأخيرة غطاء ميثاقيا، ما دامت قد صدرت عن مجلس قائم وشرعي، وضمن الآليات المحددة في النصوص».
ما يثير الالتباس لدى الرأي العام هو الربط غير الدقيق بين فقدان الميثاقية وفقدان الشرعية. فالدستور ينص صراحة في مقدمته على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وليس لأي قرار. وهذه الفروق ليست لغوية أو نظرية، بل هي جوهرية، لأنها ترسم حدود الخلاف السياسي ضمن المؤسسات من جهة، وحدود بقاء المؤسسات من جهة أخرى. فالسلطة التي تنقلب على التوازن الميثاقي أو تحتكره تصبح مشكوكا في شرعيتها، لكن القرار الذي يتخذ ضمن الأطر الدستورية، حتى وإن لم يرض بعض المكونات، يبقى قرارا قانونيا سليما.
في المقابل، لا يمكن إنكار البعد الأخلاقي والسياسي لفكرة الميثاقية. تجاهل هذا البعد قد يدفع نحو تصدع الثقة بين المكونات السياسية والطائفية، ويعمق الإحساس بالتهميش أو العزل. من هنا، فإن الحكمة تقتضي السير بين خطين متوازيين: احترام النص الدستوري بما هو عقد ملزم ونهائي، ومراعاة الروح الميثاقية التي تحفظ تماسك البنيان السياسي.
ولكن، هل الميثاقية تعني الإجماع؟ الإجابة القاطعة للمصدر نفسه ان «الميثاقية ليست إجماعا، ولا يجب أن تكون كذلك. فالدستور نفسه يحدد آليات اتخاذ القرار داخل مجلس الوزراء، ومنها ما يحتاج إلى أكثرية الثلثين، لا إلى إجماع شامل. هذا التنظيم هو، بحد ذاته، تكريس للميثاقية، ولكن ضمن منطق الديموقراطية التوافقية لا المعطلة».
ويوضح «أن التوافق ليس شرطا حتميا لإصدار القرار، بل هو قيمة سياسية تطلب، لكنها لا تفرض قسرا. ففي حالات كثيرة، عقدت جلسات حكومية وصدرت قرارات حاسمة على رغم انسحاب بعض الوزراء، أو امتناعهم عن التصويت. هذا الامتناع، في الثقافة البرلمانية والديبلوماسية، لا يفهم كتعطيل، بل هو نوع من تسجيل الموقف، وليس سحبا للشرعية».
المشكلة ليست في النص، بل في القراءة السياسية له. فهناك من يريد من الميثاقية مظلة حين يكون شريكا في القرار، وعصا حين يكون خارجه. وهناك من يعتبرها بديلا عن الآليات الدستورية، لا مكملا لها. ويشير المصدر إلى ان «هذا التفسير الانفعالي للميثاقية لا يخدم إلا منطق الشلل المؤسساتي، ويحول الميثاق إلى فزاعة تلوح بها الأطراف ساعة تشاء، وتتنكر له ساعة تشاء».
من هنا، يتابع المصدر: «تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة ضبط العلاقة بين الدستور والميثاقية، على قاعدة أن الأولى ملزمة والثانية ملهمة. ومن الخطأ الكبير أن يتحول الالتزام بالعيش المشترك إلى أداة لنسف القرارات المتخذة وفق الأصول، أو إلى حق في الاعتراض الهدام بدل أن يكون مناسبة للحوار والاحتجاج البناء ضمن المؤسسات».
لبنان، في لحظته الراهنة، لا يحتاج إلى المزيد من المزايدات حول الصلاحيات والميثاقيات، بل إلى ترسيخ احترام النصوص التي وضعها اللبنانيون بأنفسهم في لحظة وفاق نادرة، والاحتكام إليها عندما تحتدم الخلافات. فالإنقاذ لا يمكن أن يأتي من خلال تعطيل المؤسسات أو تقويض شرعية قراراتها، بل من خلال الالتزام الصارم بالدستور، وفتح الأبواب أمام التلاقي السياسي، لا عبر الاستقواء بمفاهيم مطاطة.
ويحذر المصدر من «أن الانزلاق نحو تحميل الميثاقية ما لا تحتمله قد يجعل منها وسيلة لتعليق الدستور نفسه، وهذا ما يشكل خطرا فعليا على بقاء الدولة ومؤسساتها. فالميثاق لا يلغي الدستور، بل يستكمل به، ولا يجب أن يتحول إلى مرجعية خارجة عن نص القانون، بل إلى روح تحفزنا على احترامه وتطبيقه بعدالة وإنصاف».
في النهاية، وحده لبنان الموحد، الملتزم بمؤسساته، القادر على الصمود، وعلى لعب أدواره التاريخية. أما لبنان المنقسم، الذي يصادر فيه كل طرف تفسير الميثاقية لصالحه، فهو مشروع تعايش مصطنع، لا مشروع دولة.
داوود رمال - الأنباء الكويتية
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|