الضحيّة هي... الضحيّة هو
25 تشرين الثاني و10 كانون الأول. تاريخا بدء حملة الـ16 يوماً العالمية لمناهضة العنف القائم على النوع الإجتماعي وانتهائها. رأس حربة الحملة عندنا: الأمم المتحدة وفريق العمل المعني بالعنف القائم على النوع الإجتماعي ومجموعة العمل الجندري والهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية. «خلق الوعي والزخم الضروريين لمنع العنف ضد النساء والفتيات والقضاء عليه وتحفيز التغيير» أكثر من واجب. لكنّ التعنيف مصاب بعمى الألوان الجندري. وتفعيل مختلف جبهات النضال ضدّه واجب أيضاً. فضحاياه وجلّادوه رجال ونساء على حدّ سواء. والأمثلة كثيرة.
قصة مريم ياغي كانت في الأشهر الأخيرة على كل شفة ولسان. هي واحدة من الناجيات اللواتي تعرّضن للعنف والضرب المبرح على أيدي أزواجهنّ قبل وقوع الانفصال. ياغي خاضت معارك شرسة للحصول على حضانة ابنتها بعد أن أخذها زوجها من بين أحضانها وتوجّه بها إلى العراق. الأم ممنوعة من رؤية ابنتها، ليس إلّا. والأم نفسها فضّلت التحدّث إلينا بصفتها الأخرى كصحافية وناشطة نسوية. الموضوع بالنسبة إليها أبعد من قضية شخصية. فماذا تركت التجربة القاسية فيها من أثر؟
مريم ياغي
تقول ياغي إن «الحركة النسوية لم تُخلق من عدم ولا هي وُجدت بين ليلة وضحاها. فالمرأة في مجتمعنا ليست بالمجمل وليدة بيئة أرستقراطية منحتها كافة الحقوق والامتيازات، بل هي لم تُعطَ الفرصة أصلاً في كثير من الأحيان لتوجد لنفسها واقعاً أفضل». العنف ضد المرأة لا ينحصر بالتعنيف الجسدي، برأيها، بل يتعدّاه ليشمل الشقّ العاطفي والمعنوي والجنسي. وأضافت «كي نحمي النساء، علينا الاعتراف بوجود العنف أصلاً... طالما نحن أسرى منظومة بطريركية أبوية ذكورية لا تعترف بتعنيف النساء، لن يكون هناك تعاطٍ حقيقي وجدّي على صعيد تفعيل القوانين».
بالمختصر المفيد، النساء غير محميّات. هذا أقلّه في نظر معظم الحركات النسوية، إن لم يكن جميعها. فضرورة إعلاء الصوت علّه يرتقي إلى مستوى الألم والاضطهاد والحرمان الذي تعاني منه المرأة لا تعلوها ضرورة، من ذلك المنظار. لكن ثمة من يسأل – بخبثٍ أو عن براءة: ألا يقوم بعض الحركات بدفاع أعمى عن المرأة حتى لو هي كانت في موقع المعنِّفة أحياناً؟ هناك من يفضّل عدم جلد النساء وتوجيه أصابع الاتهام واللوم إليهنّ حتى لو كنّ شريكات في التعنيف – ضد رجال أو حتى نساء أخريات. السبب ليس اعتباطياً ويعزوه هؤلاء إلى إمكانية تبنّي العقلية البطريركية الذكورية من قِبَل رجل أو امرأة، لا فرق. وهكذا، مثلاً، تكون المرأة المعنِّفة لامرأة أخرى ضحية البيئة البطريركية تلك. وهنا لبّ المعركة، بحسب ياغي. المعركة مع الشخص الذي كبّلها في ذلك الإطار وأحالها عاجزة عن الخروج منه. فهل تعني النسوية أنّ الرجال دوماً مذنبون؟
ليست دائماً ضحية
عن هذا السؤال تجيبنا الاختصاصية في العمل الاجتماعي والخبيرة في مجال حماية الطفل، رنا غنوي. فقد اعتبرت في اتصال مع «نداء الوطن» أن النسوية لا تعني بالمطلق أن الرجال مجرمون وأنهم ليسوا على حق في أحيانٍ كثيرة كما أن المجتمع المناهض للعنف ضد النساء يُبنى بسواعد النساء والرجال معاً بمختلف أدوارهم ومواقعهم. «انطلاقاً من مبدأ حقوق الإنسان، لم تميّز الأخيرة بين الرجل والمرأة. ونحن كعاملين في الصفوف الأمامية في مجال إحقاق تلك الحقوق، لا نعتمد هذا التصنيف». على أي حال، العبرة هي في تحقيق توازن دائم بين حقوق الفرد من جهة ودوره في المجتمع من جهة أخرى، بحسب غنوي التي تتساءل: «كيف يمكن للمرأة تربية أولادها على مفاهيم المساواة وهم لا يقصدون مدرسة مختلطة مثلاً؟». ليس عدو المرأة امرأة أخرى بل كيانها وطريقة تنشئتها المرتكزة على التمييز الجندري وعدم المساواة.
المفهوم والمقاربة الصحيحان يصحّحان المسار بدورهما. من هنا تطالب غنوي بعدم استغلال النسوية للتشهير والقيام بحملات غير منطقية على وسائل التواصل الاجتماعي. «مهمّتنا مناهضة العنف والتوعية والمواكبة والدعم، وليس من حق أيّ امرأة أن تحمل الجرّة على كتفيها وكأنها جرّتها. ففي قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، هناك ما يسمّى بالمقاربة المبنية على آراء الناجية. علينا احترام رأيها بعيداً عن إصدار الأحكام والتدخّل في قراراتها»، كما تشير. أما الرجل، فاعتبرته شريكاً أساسياً في وضع حدّ لممارسات العنف ضدّ المرأة لكن من غير المنطقي تحويل النسوية إلى حالة متطرفة غايتها «التشطيب» على كافة الرجال، ظنّاً بأن المساحات الآمنة مكوّنة فقط من النساء. فمن قال، كما تختم غنوي، إن المرأة لا تمارس عملية التحرّش الجنسي بامرأة أخرى، مثلاً، ولا تقوم بتلفيق القضايا لأخريات قاضية على مستقبلهنّ المهني والعائلي على السواء؟
العنف ضد الرجل
تعنيف... بنيران صديقة
وهذا السؤال بالذات ينقلنا إلى قصة محمّلة بالأسى. حكاية سناء (اسم مستعار) بألف حكاية. هي بدأت يوم اكتشفت أن لدى ابن الرجل الذي كانت تنوي الارتباط به سلوكيات تحمل إيحاءات جنسية. وكونها متخصّصة في هذا المجال، لم تصعب عليها ملاحظة التفاصيل وإماطة اللثام عن تلك الحالة. وهذا ما تبيّن: الطفل البالغ من العمر سبع سنوات كان ضحية تحرّش جنسي منذ طفولته من قِبَل والدته. سناء لم تجد خياراً سوى إخبار خطيبها بالموضوع. لكن خلال التحضير للزفاف، ما كان من الأمّ إلّا أن تقدّمت في محكمة الأحداث بدعوى ضدها متّهمة إياها بالتحرّش بابنها. انقلاب للأدوار أو شيء من هذا القبيل. سناء قرّرت المواجهة. تمكّنت من إثبات سلوكيات الطفل الجنسية الخاطئة. هي سلوكيات اكتسبها منذ الصغر. والتسجيلات والمقاطع المصوّرة المرسلة من هاتف الوالدة إلى هاتف الولد شكّلت إثباتاً لا مناص منه. ثبتت الوقائع، وجاء دور الأم مجدّداً للإمعان في لعبة الأدوار المعكوسة. تواصلت مع إدارة عمل سناء وادّعت – هكذا بسهولة – بقيام الأخيرة بالتحرّش بطفلها. النتيجة: طرد سناء من العمل. الأم لم تكتفِ بذلك. أشاعت الخبر في أوساط الجمعيات محاولة إظهار سناء بمظهر «بائعة الهوى التي تحاول سرقة ولد من أمّه». تَعاطُف المجتمع مع الوالدة لم يكن مفاجئاً. هناك حالات كثيرة تستدعي ذلك التعاطف وعن وجه حق. وفي حالات مشابهة يكون حرمان الأمّ من حضانة ولدها سلاح هجومها المضاد الأنجع.
أوزار الماضي
تفشّى الخبر. والجميع حارب سناء. لكنّ سمعة ولد لا ذنب له جعلتها تعتصم بالصمت. أما الأفكار الانتحارية التي كانت تراوده دوماً فحوّلت صمتها أكثر إطباقاً. «المرأة تؤذي أكثر من الرجل لأنها تستخدم جيشها وعديده من جميع الفئات. اعتبروني ضحية زوجي. شخّصوا وحلّلوا وحاكموا وقاصصوا فقط لأنهم لم يتجرّأوا على الاعتراف بأن ثمة أماً تحرّشت بطفلها». نسمع سناء تنطق بتلك الكلمات بصوت متهدّج ونسأل: هل حقّقت الحركات النسوية في هذه الحالة بالتحديد مصلحة الطفل؟ هل هي أعطت الأم حقوقها التي كانت تطالب بها؟ لِمَ لم تُعتبر سناء ناجية مثلها مثل الأم؟ وهل كون «المرتكب» امرأة يعفيها من الحساب؟ الدكتور في علم النفس العيادي والمعالج النفسي إيلي أبو شقرا يلفت في اتصال معه إلى أن تعنيف المرأة للمرأة قد يكون مصدره في الغالب ناتجاً عن الخبرات التي مرّت بها المعنِّفة في خلال فترة نموّها. وأهمها اثنتان: أولاً، المقارنة التي نجدها بين فتاة وأخرى من نواحٍ متعدّدة مثل الشكل، الذكاء والنجاح. وتلك المقارنة تولّد لدى الفتاة أنماطاً دفاعية تحاول فيها تحقير المنافِسة كي تشعر بقيمتها الشخصيّة. أما ثانياً، فهناك تكريس نمطية المفاضلة والتفوّق على مبدأ المغايرة والتمايز. فليست قيمة الشخص في أفضليته على آخر بل في تمايزه وإظهار بصمته الذاتية
سيناريو معاكس
نغوص أكثر في غياهب التعنيف. سليم (اسم مستعار) رجل معنّف من قِبَل زوجته. تماماً كذلك. الزوجان عاشا قصة حب مثالية قبل الارتباط الرسمي والعيش تحت سقف واحد. لكن تصرّفات الزوجة ما لبثت أن بدأت تتغيّر. «لاحظت تغييراً مفاجئاً بعد الزواج. راحت تقلّل من احترامي وتتلفّظ بكلمات لم أكن أسمعها منها سابقاً»، كما يخبرنا. إبصار مولودهما الأول النور لم يزد الأمور إلّا سوءاً. اهتمام سليم بالطفل وإطعامه والعناية بنظافته أصبح فرضاً واجباً. «وإلّا بتبلّش تضرب وتسبّ وتقول أنا منّي مجبورة... إنت قوم اشتغل». تطوّرت الحالة أكثر فأكثر. سليم صار مسؤولاً عن الغسيل والكوي والتنظيف في حين أن الزوجة غالباً ما تكون خارج البيت عند رفيقاتها أو داخله مشدودة إلى المسلسلات التلفزيونية. «في إحدى المرّات، كنت عائداً إلى المنزل بعد يوم عمل شاق. كنت قد تأخّرت بعض الشيء، فما إن دخلت حتى صفعتني وشتمتني بأبشع النعوت لأنها تريدني أن أمكث مع ابني كي تلاقي صديقتها». أين المسلسلات التلفزيونية من سيناريو كهذا. ويكمل: «الاستفاقة متأخّراً في أيام عطلتي كانت كافية لتهجّمها الجسدي وتوجيهها الأوامر لي للقيام بواجبات التنظيف والتربية». نكتفي بهذا القدر ولكم تخيّل بقية المشاهد.
الفعل وردّ الفعل مدانان
هذه حالة من مئات، إن لم يكن آلاف الحالات. المرأة ضحية طبيعية للتعنيف والشواهد كثيرة. لا لبس في ذلك. لكن التعنيف ليس طريقاً باتّجاه واحد والشواهد كثيرة أيضاً. الاختصاصية في علم النفس الدكتورة كارول سعادة تشرح أن أشكال العنف متعدّدة لكن الأكثر انتشاراً هو العنف النفسي. وهذا يصعب تأكيده أو رؤيته أو حتى ملاحظة آثاره واضحة وملموسة على الضحية. أي نوع من النساء يمارسن هذا العنف؟ «إجمالاً اللواتي يعانين مشاكل نفسية ناتجة عن شخصيات مرضية يمكنها التأثير بشكل سلبي على الرجل. فتصيبه بالاكتئاب أو بحالات مرضية تحوّله إلى شخص عنيف هو الآخر»، تجيب سعادة. ليس هذا طبعاً تبريراً لردود فعل الرجل تجاه المرأة. لكن لا بدّ من الاعتراف أن العنف أشكال ومنها تعنيف المرأة للرجل.
لأنماط التفكير دورها بإصدار الأحكام المسبقة. فالصورة المجتمعية النمطية تدفع إلى التعاطف مع المرأة حتى لو كانت على خطأ. وهذه الأنماط تعود إلى النظرة التاريخية التي ترى الرجل مسيطراً والمرأة خاضعة. تعنيف نفسي مباشر واعٍ وإرادي لإشعار الرجل بالذنب وتدمير ثقته بنفسه أو حتى التحكم به اقتصادياً أو اجتماعياً. وأشكال أخرى غير مباشرة سببها عقد نفسية أو شخصيات مرضية. عنها تقول سعادة: «من سمات شخصية المرأة ذات التأثير السلبي على الرجل، الشك الدائم الذي يلامس الهذيان، الخروج بتفسيرات واستنتاجات غير مبنية على وقائع والشخصية الهستيرية المتعطّشة للاهتمام المتواصل».
نعود ونكرّر. كل ما سبق لا يشرّع تعنيف الرجل للمرأة. فالسبب الكامن خلف انتشار الحركات النسوية ودفاعها عن المرأة هو عدم حصولها على كافة حقوقها خاصة في المجتمعات العربية، بحسب سعادة. كما قد يكون ردّ فعل غير واعٍ وتعويضاً عن كبت معيّن في محاولة لإثبات الذات والانتفاض على الواقع. كل ذلك صحيح. لكن تبقى الرسالة الأبرز: نعم لنبذ العنف على اختلاف أسبابه... وتنوّع ضحاياه.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|