الصحافة

الشّرع وبوتين: بحرٌ من الدّم والقلق والمصالح

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

هل يأمن النظام الجديد في سوريا تقلّبات الرئيس فلاديمير بوتين بحسب مصالحه المتذبذبة وعلاقاته المعقّدة مع واشنطن وتل أبيب؟ وما الذي يمكن أن تقدّمه موسكو لدمشق في زمن الفراغ الاستراتيجيّ الذي تعيشه سوريا والمنطقة إثر تغوّل إسرائيل وكسرها كلّ القوانين الدولية، وكلّ القواعد الدبلوماسية، وكلّ الأعراف السياسيّة؟ هل يعني الاقتراب من موسكو ابتعاداً من واشنطن، أم محاولة للموازنة؟ وهل تنجح في تحقيق استقرار سوريا ونهضتها من الأزمات الهائلة التي تعاني منها؟

كان مشهداً دراميّاً غير متوقّع أواخر تمّوز الماضي، حين استقبل الرئيس الروسي أعداءه الألدّاء في الكرملين، وهو الذي ألقى عليهم أطنان القنابل قرابة عشر سنوات، كاسراً البروتوكول، محتفياً بوزير الخارجية السوريّ أسعد الشيباني ومن معه، كأنّه لقاء الرفاق القدامى. وفي العام الماضي فقط، كان بوتين يستقبل بشّار الأسد ببرودة لافتة، وهو من أكبر المدافعين عنه ضدّ الشيباني ورفاقه.

لم تتأخّر موسكو في الردّ بالمثل، فأرسلت إلى دمشق وفداً رفيع المستوى يرأسه ألكسندر نوفاك نائب رئيس الوزراء الروسيّ، والتقى وزير الخارجية السوري الشيباني برفقة مسؤولين آخرين. بعد ذلك، استقبل الرئيس أحمد الشرع الوفد الروسيّ، في خطوة موازية لما فعله بوتين قبل ذلك. فماذا يعني هذا الغزل الدبلوماسي بين أعداء الأمس؟ هل تستعيد موسكو دورها الاستراتيجيّ في سوريا؟ وهل تقدّم للنظام الجديد الغطاء العسكريّ والأمنيّ الذي كانت توفّره لنظام الأسد تقييداً للتفلّت الإسرائيلي في الجنوب السوري وفي كلّ ناحية، حفاظاً على قواعدها العسكرية ومصالحها الاقتصاديّة في سوريا؟

لماذا تدخّلت موسكو عام 2015؟

لا بدّ من رسم خارطة المصالح المتوقّعة والآمال غير الواقعيّة، لرصد الإمكانات الحقيقية لعلاقة مثمرة مع الاتّحاد الروسيّ بقيادة بوتين. لكن من المفيد التذكير قبل ذلك بالأسباب الجيوسياسية التي دفعت بوتين إلى التدخّل العسكري المباشر في سوريا عام 2015، وبالتأكيد ليس اقتناعاً ببشّار الأسد.

  • أوّلاً: رأت موسكو في الثورة السوريّة امتداداً لما سُمّي بثورات الربيع العربي أواخر عام 2010، التي هي النسخة العربية للثورات الملوّنة التي ضربت بعض دول أوروبا الشرقية بعد تحرّرها من الاتّحاد السوفيتي، وأصابت بلداناً مجاورة لروسيا الاتّحادية، لا سيما جورجيا وأوكرانيا. ففي جورجيا، قامت “ثورة الورود” عام 2003، فأطاحت بالرئيس الجورجي السابق إدوارد شيفرنادزه المدعوم من موسكو، وأوصلت إلى الحكم ميخائيل ساكاشفيلي المدعوم غربيّاً، وزعيم المعارضة الجورجيّة سابقاً. فردّت موسكو بإرسال قوّاتها إلى جورجيا عام 2008 دعماً للانفصاليّين في إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.

في أوكرانيا، اندلعت الثورة البرتقالية عام 2004، لكنّها لم تحسم الصراع بين مؤيّدي الغرب ومناصري روسيا من الأوكرانيّين المتحدّثين بالروسيّة. حتّى كان عام 2014، حين وقع الانقلاب الشعبي على الرئيس المؤيّد لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، فردّت روسيا بضمّ شبه جزيرة القرم، ودعم المتمرّدين في شرق البلاد. ومن هنا يُفهم التدخّل الروسيّ في سوريا أنّه محاولة لإجهاض موجة إسقاط النُّظُم السياسية بالثورات الشعبية أو الانقلابات العسكرية، على غرار ما حدث في ليبيا مثلاً عام 2011. فموسكو نفسها كانت مؤهّلة لثورة ملوّنة أيضاً، وهي تدافع عن نفسها.

  • ثانياً، لا ترتاح روسيا لوصول إسلاميّين سُنّة إلى السلطة، لا سيما إن كانوا من التيّار السلفيّ. وقد عانت الأمرّين من ثورة الشيشانيّين على الحكم المركزيّ، وكان أصلب معارضيها من السلفيّين الجهاديّين، في الحربين المتعاقبتين: (1994-1996)، و(1999-2009). ولم تستطِع التغلّب على المعارضة الشيشانيّة إلّا بالاستناد إلى الزعيم الصوفيّ رمضان قديروف، الذي أثبت ولاءه المطلق لبوتين بمشاركته الفعّالة في الحرب ضدّ أوكرانيا عام 2022. وفي سوريا خلال الثورة على الأسد، كان أشرس المقاتلين ينتمون إلى التيّار السلفيّ، ومنهم الرئيس الشرع، ووزير الخارجية الشيباني، ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة. وإلى جانبهم مقاتلون شيشانيّون وتركستانيون وغيرهم. لذلك كان الهجوم الروسيّ جزءاً من عمليّة دفاعيّة استباقيّة، خشية رجوع العدوى إلى الاتّحاد الروسيّ، والنار تحت الرماد.

هل تغيّر الشّرع أم بوتين؟

لكنّ ما الذي تغيّر في السببين المشار إليهما، حتّى تعود العلاقات الروسيّة السوريّة إلى دفئها السابق؟ هل زال خطر الثورة الملوّنة في روسيا، بعد نقل بوتين المعركة إلى ميدان العدوّ في أوكرانيا المدعومة من الولايات المتّحدة وأوروبا الغربيّة؟ وهل يثق بوتين الآن بالسلفيّين الجهاديّين، أم نجح هؤلاء في تغيير الانطباع السابق عنهم، وبرهنوا عن براغماتيّة غير مسبوقة، وربّما تتجاوز براغماتيّة بوتين نفسه؟ لا إجابات حاسمة بحوزة الكرملين في المسألتين:

  • أوّلاً: الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها روسيا في جبهة القتال مع أوكرانيا، وما تتعرّض له من استنزاف خطير في نقطة ضعفها، وهو تراجع عدد السكّان، واستطراداً، الحاجة الملحّة إلى مقاتلين أجانب، حتّى لو كانوا من كوريا الشمالية، إضافة إلى أبناء آسيا الوسطى، ومناطق أخرى في العالم، تجعلها في حالة لايقين من مخرجات تلك الحرب، وهي في حاجة إلى موقع استراتيجيّ كسوريا.
  • ثانياً: نجح الرئيس الشرع ورفاقه، على نحوٍ غير متوقّع، في إقناع دول رئيسة في العالم، بحقيقة تحوّلهم إلى مسار آخر. فرُفعت عقوبات أميركية، وتدفّق مستثمرون، وصمد النظام الجديد أمام تحدّيات جمّة، بسبب التفاف الأكثريّة السنّية خلف الرئيس الشرع، مع هاجس عودة إيران وحلفائها، أو نجاح الأقليّات في زعزعة الاستقرار، وتهديد الثورة نفسها بعدما فازت في نهاية العام الماضي. فلم يعد خيار أمام موسكو سوى اللعب بالأوراق الموجودة. وكانت الخطوة الأولى من دمشق تجاوزاً لشروط سابقة لتحسين العلاقات، وأهمّها: تسليم بشّار الأسد ورفاقه، والأموال التي نهبوها قبل رحيلهم.

لكنّ ماذا يستفيد النظام الجديد من التقرّب من عدوّه السابق، من دون تحقيق الشرطين المشار إليهما، وهما مطلبان شعبيّان بامتياز؟ وما الذي يفيد بوتين اعترافه بالواقع الجديد، وتعامله معه بجدّية على جميع المستويات؟

من المستفيد الأكبر؟

بقراءة سريعة، يتبيّن أنّه لن تكون واقعيّةً رغبةُ دمشق بالحصول على دعم أو غطاء روسيّ أمام التوغّلات الإسرائيلية أو الغارات الجوّية المتنقّلة. فروسيا لم تكن سدّاً منيعاً أمام الهجمات الإسرائيلية زمن بشّار الأسد، وإن كانت زوّدت دمشق بوسائل دفاع ذات مدى محدّد، وكانت تسلّح الجيش بمعدّات كثيرة لقتال الثورة، لا إسرائيل. وهي بالتأكيد لن تزوّد النظام الجديد بعُشر ما كانت تعطيه للأسد. والسبب واضح، وهو أنّ بوتين يريد تحييد إسرائيل عن حرب أوكرانيا قدر المستطاع، وهذه حسابات شائكة كانت سبباً في تخاذل الروس عن دعم الأسد قبيل السقوط، وعن دعم طهران نفسها بالسلاح الدفاعيّ المناسب.

في المقابل، يستفيد بوتين أكثر من الشرع بالعودة إلى سوريا لاعباً استراتيجيّاً. وكلّما تعرّضت سوريا للعدوان الإسرائيلي، كانت الحاجة أكبر إلى المساعدة الروسيّة المحدودة. والفائدة الروسيّة الكبرى ستكون في الاقتصاد عامّة، وفي مجال الطاقة خاصّة، وفي إعمار البلاد بعد دمار وتهجير عميمين كانت روسيا نفسها من عواملهما. إنّها باختصار محاولة سوريّة لتخفيف القلق الإسرائيليّ، بالتقرّب من عدوّ استراتيجيّ للثورة، وفق تكتيكات ظرفيّة غير مضمونة.

هشام عليوان -اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا