الصحافة

التفاصيل اللبنانية وعاصفة الإقليم

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

خطف الهجوم الإسرائيلي الخطير على العاصمة القطرية الدوحة، ومحاولة استهداف قادة حركة حماس هناك، الأضواء في المنطقة، ليحوّل الأنظار عن الساحة اللبنانية التي بدت، في ظل هذا التطور، وكأنها مجرّد تفاصيل أمام واقع جديد وضع الشرق الأوسط، بل العالم العربي بأسره، في موقف بالغ الحساسية والخطورة.

لا يمكن فصل هذا الحدث عن سلسلة تطورات متراكمة ومتفاعلة شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة، وكأنها تشكّل ملامح انهيار تدريجي للأمن القومي العربي، وللمصالح الوطنية والقومية للدول العربية. ويبدو أننا أمام عملية منهجية لتقويض مصالح المجموعة العربية، بل وحتى الإقليمية، من شمال أفريقيا غرباً إلى باكستان شرقاً، ومن اليمن جنوباً إلى تركيا شمالاً.

ويأتي في هذا السياق القرار الأميركي بمنع الوفد الفلسطيني من الحصول على تأشيرات دخول للمشاركة في فعاليات الأمم المتحدة، إضافة إلى زيارة رئيس مجلس النواب الأميركي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، والجهود التي يبذلها الرئيس السابق دونالد ترامب لطرد الفلسطينيين من قطاع غزة، وسط صمت مريب إزاء ما يجري هناك من إبادة جماعية بالنار والجوع، وملاحقة أي صوت معارض لتلك السياسات داخل الولايات المتحدة.

ولا يمكن أيضاً فصل قرار افتتاح سد النهضة في إثيوبيا، من دون أي اعتبار للمصالح الحيوية والاستراتيجية لمصر في مياه النيل، عن هذا المسار التصعيدي، في وقت تتواصل الانتهاكات الإسرائيلية في أجواء لبنان واليمن وسوريا. وفي سوريا تحديداً، باتت الاستهدافات الإسرائيلية تطال المصالح التركية، من خلال رسم خرائط جديدة لسوريا بالنار، في سعي واضح نحو التقسيم والتفتيت الطائفي والعرقي والمذهبي.

وفي ذروة هذه التطورات، نفّذت "إسرائيل" هجوماً على الدوحة، ليغرّد رئيس الكنيست الإسرائيلي معلناً عن بداية "مرحلة جديدة" في المنطقة، قائلاً: "ما حدث هو رسالة إلى كل الشرق الأوسط".

وقبل ساعات فقط من الهجوم على قطر، حيث تتمركز أكبر قاعدة أميركية في المنطقة، كان قائد القيادة المركزية الأميركية يزور "تل أبيب" ما يسهم في حسم حقيقة أن تنفيذ هجوم إسرائيلي من هذا النوع لا يمكن أن يتم من دون تنسيق كامل مع القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة.

لا يمكن لأي خبير مطّلع على طبيعة الأمور أن يتوهم أن هذه التطورات الجارية تحصل بإرادة إسرائيلية مستقلة عن الإرادة الأميركية. فالأميركيون شركاء كاملون في كل ما يحدث، وما جرى وما سيجري لا يمكن تفسيره إلا باعتباره ثمرة إرادة أميركية-إسرائيلية مشتركة، تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة بأسرها، وإدخالها في مرحلة جديدة عنوانها: الهيمنة الأميركية الشاملة من خلال "دويلات وظيفية" منزوعة القوة والتأثير.

المشهد الذي ترسمه الولايات المتحدة في المنطقة يشبه إلى حد بعيد النظام الإقطاعي الذي كان سائداً في العصور الماضية، حيث ارتبط الإقطاعيون بالحاكم المركزي، ولعبوا دوراً أساسياً في جباية المال والمحاصيل، تحت إشراف "الوالي".

في هذا النموذج المعاصر، تريد واشنطن أن تلعب دور الحاكم الأعلى، بينما تضطلع "تل أبيب" بدور "الوالي"، أما حكّام المنطقة فيُنظر إليهم كمجرد إقطاعيين يؤمّنون مصالح الحاكم من خلال الولاء للوالي، وتنفيذ أوامره، وتقديم فروض الطاعة له، بما يضمن تحقيق الأهداف الكبرى للهيمنة الأميركية.

وفي الوقت نفسه، يتولى "الوالي" إدارة الساحة عبر إثارة التناقضات والصراعات بين هؤلاء "الإقطاعيين"، واستغلال الانقسامات الطائفية والعرقية والسياسية بينهم بما يضمن بقاء السيطرة وتفتيت المنطقة.

والأخطر من ذلك أن هذه اللعبة تُمارس اليوم علناً، وبلا أدنى مواربة. فالأميركيون والإسرائيليون يعلنون سياساتهم بصراحة متناهية. ويكفي أن نستمع لتصريحات ممثل "إسرائيل" في الأمم المتحدة، الذي خاطب دولة قطر بشكل مباشر قائلاً: "إذا لم تطردوا قادة حماس، فستقوم إسرائيل بذلك".

قال ذلك من تحت قبة أعلى مؤسسة دولية، ومن داخل مجلس الأمن، وأمام أعين العالم، مخاطبًا دولة من المفترض أنها مستقلة وذات سيادة!

هذا السلوك الوقح بدأ يثير حتى قلق بعض المفكرين الإسرائيليين أنفسهم. فقد عبّر الفيلسوف الصهيوني يوفال نوح هراري عن مخاوفه قائلاً: "نحن نواجه احتمال حملة تطهير عرقي في غزة والضفة الغربية قد تؤدي إلى طرد مليوني فلسطيني أو أكثر، في إطار مشروع إقامة (إسرائيل الكبرى)." وأضاف: "إسرائيل أصبحت دولة تقوم على عبادة القوة والعنف، وستقيم تحالفات مع كل المتنمرين في العالم."

في قلب هذه العاصفة الإقليمية، يعيش اللبنانيون تفاصيلهم الصغيرة والكبيرة في ظل أداء لبعض المسؤولين، وخصوصًا رئيس الحكومة، يوحي وكأنهم لا يدركون أن لبنان ليس استثناءً وسط هذه التحولات، وأنه لن يكون بمنأى عن التداعيات، خاصة إذا استمر الإصرار على علاقات غير متوازنة مع واشنطن، والخضوع التام لإملاءاتها وأوراقها مع التنكر غير المفهوم لحقيقة أن لبنان جزء من الرؤية الإسرائيلية الكبرى، بل قد يكون إحدى بواباتها المحتملة.


وما يزيد من منسوب القلق هو الجهود الإسرائيلية الحثيثة لتكريس "منطقة عازلة" في الجنوب، واستمرار الخروقات المتكررة للسيادة اللبنانية، وتكرار اقتحام عدد من المسؤولين الإسرائيليين الحدود، إلى جانب طرح مقترحات تتعلق بما يسمى "المنطقة الاقتصادية" على نحو مريب.

ومن يراقب تاريخ "إسرائيل" في تعاملها مع الأراضي التي تحتلها، يدرك بسهولة اعتمادها منهجية التدرج: فرض وقائع ميدانية تتحوّل لاحقًا إلى أمر واقع دائم.
هذا ما شهدناه في الضفة الغربية، وفي مزارع شبعا، واليوم يتكرر المشهد في جبل الشيخ والجنوب السوري وقطاع غزة.

لذلك، فإن السلطة اللبنانية مدعوة إلى الارتقاء بأدائها السياسي، والخروج من المتابعة التفصيلية الضيقة، نحو مقاربة أشمل تواكب التحديات الوجودية التي تهدد مصير لبنان ذاته.

في خطابه الأخير، أعلن الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، أن "لبنان وطن نهائي، ولن نتركه".
لم يكن هذا الإعلان مجرد تكرار لمبدأ تبنّاه الثنائي الوطني، بل جاء في توقيت مفصلي، عقب ما تعرضت له الدوحة، وفي خضم العاصفة التي تضرب المنطقة، ليؤكد أن الملاذ الآمن لجميع اللبنانيين هو بقاء لبنان، وأن بقاءه يفرض ألا نتركه عرضة للرياح، بل أن نتبنّى مسؤولية حمايته، والحفاظ عليه، والدفاع عن سيادته ووحدة أبنائه، وأن نترفع عن المصالح الضيقة، وأن نعتمد على الذات، ونتمسّك بكل عناصر القوة الممكنة التي تعزز مناعته.

بقاء لبنان، اليوم، يتطلب البدء سريعاً بحوار حول استراتيجية وطنية للأمن والدفاع تأخذ في الاعتبار الواقع المتفجر في المنطقة، إلى جانب السعي الجدي لتطبيق اتفاق الطائف، بوصفه اتفاقًا وطنيًا شاملًا حسم موقع لبنان التاريخي في هويته العربية، وفي موقعه الطبيعي في مواجهة "إسرائيل".

وبالتالي، فإن أي مسّ بالمقاومة وسلاحها هو بمنزلة فتح الباب أمام مشروع "إسرائيل الكبرى" ليتسلل عبر لبنان.
فهل يدرك المعنيون هذه الحقيقة؟ أم أنهم ما زالوا غارقين في التفاصيل اللبنانية الصغيرة؟

بثينة عليق - الميادين

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا