في لبنان : باع كليته لينقذ أولاده… وسوق الأعضاء سرق صحته!
في أحد أزقة بيروت الفقيرة، يجلس شاب في منتصف الثلاثينات على كرسي متهالك أمام باب منزله الضيق. يضع يده على خاصرته حيث يمتد أثر جرح طويل، ويميل بجسده كما لو أن الألم ما زال حاضرًا بعد شهور من العملية. بصوت خافت وكأنه يخشى أن يسمعه أحد، يقول لـ "نداء الوطن": "ما كنت بدي أعملها، بس ما كان في غيرها… يا الكلية يا أولادي بيموتوا من الجوع". هذه ليست جملة عابرة، بل اعتراف مرير يعكس واقعًا صارخًا في لبنان، حيث الأزمة الاقتصادية الخانقة دفعت الفقراء إلى خيارات يائسة، وتحول الجسد الإنساني إلى سلعة قابلة للبيع والشراء في سوق تقوده شبكات منظمة.
سوق عالمي… ولبنان في قلبه
سوق الأعضاء البشرية غير الشرعي ليس ظاهرة لبنانية فقط. تقارير الأمم المتحدة تقدّر أن هذه التجارة القذرة تدر عالميًا ما بين 600 مليون ومليار دولار سنويًا، وأن نحو 40 % من عمليات زراعة الأعضاء في العالم تتم خارج القوانين المعترف بها. في هذا السوق، تصبح الدول المنهكة اقتصاديًا أو الممزقة بالحروب أرضًا خصبة للعمل غير القانوني، ولبنان، بكل ما يحمله من انهيار مالي وسياسي واجتماعي، بات حلقة مثالية في هذه السلسلة القاتلة.
الفقر يبيع الجسد قبل الروح
وسط هذا الواقع، يجد الفقر طريقه ليغري الضحايا بعروض مغرية على الورق وقاتلة في الحقيقة. أكثر من 70 % من اللاجئين في لبنان يعيشون تحت خط الفقر، ما يجعلهم الهدف المفضل للوسطاء الذين يجيدون اصطياد اليائسين. تبدأ القصة عادة من لقاء بسيط في مقهى شعبي أو زقاق مهمل، حيث يقترب وسيط بابتسامة مطمئنة ويعرض صفقة: "كلية مقابل مبلغ بالدولار الطازج". لكن الحقيقة أن معظم من يوافقون على هذا العرض لا يحصلون إلا على جزء من المبلغ الموعود، إن حصلوا عليه أصلًا، ليجدوا أنفسهم بعد العملية بلا صحة، وبلا مال، وبلا أي وسيلة للمطالبة بحقوقهم.
شهادات تكشف المستور
في العام 2017، كشفت تحقيقات إعلامية عن شبكة كانت تعمل داخل بيروت وضواحيها تستهدف بالأساس لاجئين سوريين. إحدى القصص التي هزت الرأي العام آنذاك تعود لفتى في السابعة عشرة من عمره باع كليته مقابل 8,300 دولار، قبل أن يُترك في الشارع بعد ساعات من الجراحة. اليوم، لا يبدو أن شيئًا تغير كثيرًا. علي (اسم مستعار)، لاجئ سوري يعيش في أحد أحياء العاصمة، يروي قصته لـ "نداء الوطن" بمرارة: "قالولي العملية سهلة وبتخلص بساعة، بعدين رح تعيش طبيعي. رجعوني موجوع وما عطوني إلا جزء صغير من المبلغ. كيس دم وكيس مصاري، وهي حياتي صارت مقسومة نصين". شهادته ليست حالة فردية، بل هي نموذج لعشرات وربما مئات القصص التي لا تصل إلى الإعلام.
قوانين بلا أنياب
القانون اللبناني رقم 164 لعام 2011 يجرّم الاتجار بالبشر، بما في ذلك بيع الأعضاء، لكن الحماية الفعلية شبه غائبة. الضحايا، خصوصًا من اللاجئين غير المسجلين، يخشون التوجه إلى الشرطة خوفًا من الترحيل أو الاحتجاز. وهناك مستشفيات خاصة يُشتبه في غضّها الطرف أو حتى تورطها المباشر، لكنها تبقى بمنأى عن الملاحقة بفضل نفوذ سياسي أو مالي يحصنها من أي مساءلة.
من المأساة الإنسانية إلى شبكة إقليمية
ما يجعل القضية أكثر خطورة هو أن هذه المأساة الإنسانية لا تتوقف عند حدود لبنان. علي، الشاب السوري، ليس مجرد رقم في إحصائية محلية، بل هو جزء من حلقة في شبكة أوسع تمتد عبر المنطقة. الأعضاء التي تُستأصل هنا غالبًا ما تُنقل إلى دول الخليج وأوروبا، حيث الطلب على الأعضاء مرتفع والأسعار خيالية. الطريقة التي تُدار بها الشبكات تتطلب خبرة ومعرفة بالحدود، المستندات المزورة، وعلاقات سياسية تغطي العملية، لتبدو كأنها تبرع قانوني بينما هي تجارة مأسوية.
شبكات عابرة للحدود
تقول الخبيرة القانونية الدكتورة ليلى الخوري لـ "نداء الوطن" إن "لبنان ليس نقطة النهاية، بل محطة عبور". فالأعضاء التي تُستأصل من الضحايا هنا، سواء كانوا لاجئين أو مواطنين معدمين، نادرًا ما تبقى داخل البلاد. غالبًا ما يتم تهريبها عبر قنوات معقدة، تبدأ من غرف عمليات سرية أو عيادات خاصة في بيروت وطرابلس وصيدا، ثم تُنقل إلى دول أخرى لإجراء عمليات الزرع، مستفيدة من ضعف الرقابة الطبية والقانونية هناك.
هذه الشبكات لا تعمل بشكل عشوائي، بل هي جزء من منظومة منظمة تمتد عبر دول النزاع والمناطق الفقيرة في الشرق الأوسط وصولًا إلى وجهات نهائية في الخليج وأوروبا، حيث الطلب على الأعضاء مرتفع والأسعار خيالية. وفي بعض الحالات، يتم استخدام جوازات سفر مزورة وأوراق طبية مُلفقة لإدخال الأعضاء إلى المستشفيات وكأنها تبرعات قانونية، بينما الحقيقة أنها سُرقت أو بيعت تحت ضغط الحاجة.
لبنان، بسبب موقعه الجغرافي وشبكات التهريب النشطة فيه، يشكل حلقة وصل مثالية لهذه العمليات. فالمهربون يستغلون ضعف المراقبة على الحدود والمرافئ، بالإضافة إلى وجود مراكز طبية خاصة قادرة على إجراء العمليات الأولية أو تجهيز الأعضاء للشحن. هذه الديناميكية تضع البلاد في قلب منظومة إجرامية عابرة للحدود، تتداخل فيها مصالح مافيات محلية ودولية، ويصعب على السلطات ملاحقتها أو تفكيكها في ظل الفساد المستشري والنفوذ السياسي الذي يحمي بعض المتورطين.
من يحمي الفقراء من أن يصبحوا سلعة؟
تبقى الأسئلة مفتوحة، وربما أكثر قسوة من أي وقت مضى: هل يمكن للبنان، العاجز عن ضبط حدوده ومنع تهريب السلع والمخدرات، أن يوقف تهريب الأعضاء البشرية؟ من يحمي الفقراء من أن تتحول أجسادهم إلى مصدر للربح السريع؟ وهل يمكن أن يكون هناك رادع حقيقي لشبكات تعرف كيف تتحرك في الظل وتحتمي بنفوذ لا تصل إليه يد القانون؟ في بلد فقد القدرة على حماية كرامة إنسانه، يصبح الجسد آخر ما يملكه الفقير… وآخر ما يُباع.
شربل صفير - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|