إقتصاد

الفجوة الماليّة: بين وهم الحلّ وحقيقة التّصفية

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

منذ خمس سنوات واللبنانيّون يعيشون تحت ثقل انهيار ماليّ هو من بين الأشدّ في التاريخ الحديث. ملايين المودعين وجدوا أنفسهم فجأة أمام أبواب مصرفيّة مغلقة، وودائع محتجَزة، ووعود رسميّة فارغة. تخلّفت الدولة عن سداد ديونها، وتحوّل المصرف المركزيّ من مؤسّسة نقديّة إلى أداة بيد السلطة السياسيّة، والمصارف التجاريّة التي أغدقت أرباحاً في سنوات الطفرة أصبحت عاجزةً عن ردّ أموال الناس. في قلب هذه الفوضى يطلّ مشروع جديد يُسوَّق على أنّه “الحلّ”: قانون الفجوة الماليّة، لكنّ قراءة متأنّية تكشف أنّه أقرب إلى صندوق لتصفية الودائع لا استعادتها.

الفجوة الماليّة هي ببساطة الفرق بين ما تدين به المصارف للمودعين وما تملكه فعلاً من أصول. هذا الفارق يُقدَّر اليوم بأكثر من سبعين مليار دولار. لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة سياسات متعمَّدة: إفراط المصارف في إقراض الدولة التي أهدرت مواردها، وهندسات ماليّة غامضة أجراها مصرف لبنان لتغطية العجز، وتثبيت مصطنع لسعر الصرف لسنوات طويلة، وغياب متعمَّد لقانون الكابيتال كونترول سمح بهروب الرساميل. لم تكن الأزمة قدَراً، بل صناعة مشتركة بين سلطة سياسيّة ومصرفيّة ونقديّة أدارت ظهرها لمصالح الناس.

مشكلة أخلاقيّة وسياسيّة

تأتي السلطة لتقول إنّها وجدت “الحلّ”. لجنة من وزيرَي المال والاقتصاد وحاكم المصرف المركزي صاغت مشروعاً لتوزيع الخسائر. على الورق، تتقاسم الدولة والمصارف والمصرف المركزي والمودعون هذه الخسائر. لكن في الحقيقة يتحمّل المودع الحصّة الكبرى، بينما الدولة والمصارف تكتفيان بمساهمات محدودة، أي أنّ الضحيّة الأولى، وهو المواطن، يُطلب منه أن يكون المموّل الأساسيّ لعمليّة “الإنقاذ”.

يقترح المشروع، وفق التسريبات، شطب ما يقارب أربعة وثلاثين مليار دولار من الودائع. يُشطب جزء منها باعتباره “ودائع غير شرعيّة” أو مجهولة المالك، وجزء آخر عبر إعادة احتساب الفوائد السابقة واعتبارها مبالغاً فيها وغير مستحَقّة. أمّا القسم الأكبر فيُشطب عبر تحويل “الدولار المصرفي” إلى “فريش دولار” وفق أسعار صرف السوق، أي بحسومات ضخمة تصل إلى ثمانية وسبعين في المئة بحسب تاريخ الإيداع. بهذه العمليّة يُشرعن القانون ما كان المصرف يفعله قسراً منذ سنوات، ويحوّل الخسارة إلى نصّ قانونيّ محميّ من أيّ طعن.

في المقابل، يَعِد القانون المودعين باسترجاع واحد وعشرين مليار دولار على أقساط تمتدّ بين ثلاث وخمس سنوات. المودعون الذين خُصّص لهم التعميم 158 سيحصلون على ألف ومئتي دولار شهريّاً لثلاث سنوات، والمستفيدون من التعميم 166 على خمسمئة دولار شهريّاً للفترة نفسها، فيما أصحاب الودائع التي تقلّ عن مئتي ألف دولار سيحصلون على ثلاثة آلاف وثلاثمئة دولار شهريّاً لخمس سنوات. على الورق يبدو ذلك تعويضاً، لكن في الواقع هو إعادة جدولة لخسارة مؤكّدة، إذ إنّ قيمة الدولار الشرائيّة اليوم ليست كما كانت قبل خمس سنوات، وأقساط السداد لن تعوّض قيمة المدّخرات التي تبخّرت.

لم يكتفِ المشروع بالشطب والتسديد الجزئيّ، بل أضاف خياراً ثالثاً: تحويل اثنين وثلاثين مليار دولار من الودائع إلى أسهم في المصارف أو إلى سندات طويلة الأجل بلا فائدة تُعرف بـ”Zero Coupon” تستحقّ بعد خمس عشرة سنة. هكذا يجد المودع نفسه مستثمراً بالإكراه في مصارف فقدت الثقة الشعبيّة، أو حاملاً لسندات جامدة لا تدرّ عليه أيّ عائد طوال سنوات طويلة، أي أنّ القانون يفرض على المودع أن يتحوّل من دائن يطالب بحقّه إلى مساهم في مؤسّسة متعثّرة.

أمّا حصّة الدولة فتقتصر على ثمانية مليارات وسبعمئة مليون دولار، معظمها لتغطية صغار المودعين. تساهم المصارف بأقلّ من أربعة مليارات، أي أقلّ من عشرين في المئة من كلفة السداد، بينما يساهم مصرف لبنان بثمانية مليارات أخرى. هكذا يُظهر القانون أنّ المنظومة تسعى إلى إلقاء العبء الأكبر على الناس، مع إعفاء الدولة والمصارف من تحمّل مسؤوليّة مباشرة عن الكارثة.

لكن خلف الأرقام تكمن مشكلة أخلاقيّة وسياسيّة أعمق. فالقانون يضع المودع في موقع المذنب، إذ يُطلب منه إثبات شرعيّة أمواله أو القبول باقتطاع الفوائد السابقة، وكأنّه هو من تلاعب بالماليّة العامّة وأدار الهندسات. الدولة، المَدين الأكبر، تتنصّل من مسؤوليّتها ولا تعرض أيّ جزء من أصولها العامّة كضمانة أو مساهمة جدّية. أمّا التدقيق الجنائي الذي وُعد به الناس منذ سنوات فلا يزال بلا نتائج واضحة، وهو ما يجعل حجم الفجوة الحقيقيّ غامضاً، والذنب موزّعاً على الجميع، وبالتالي على لا أحد. وفي حين تحمّلت دول أخرى واجهت أزمات مصرفيّة مشابهة مسؤوليّاتها عبر تحميل المساهمين في المصارف الخسائر أوّلاً، يختار لبنان أن يبدأ بالمودع.

امتحان لشرعيّة الدّولة

الوقت أيضاً عامل قاتل. ففي عام 2020 قُدّرت الفجوة بين أربعين وخمسين مليار دولار، وكان يمكن لإعادة هيكلة سريعة وجدّية أن تحدّ من الخسائر. لكنّ المماطلة والشلل السياسيّ والإنكار سمحت للفجوة بأن تتضخّم إلى أكثر من سبعين مليار اليوم. لم يضاعف هذا التأخير الخسائر فقط، بل دمّر ما بقي من ثقة الناس بالمؤسّسات. والمفارقة أنّ السلطة التي أهملت الحلول في وقتها المناسب تعود اليوم لتقدّم قانوناً يحمّل الضحايا ثمن التأجيل.

على الرغم من أنّ القانون يتعامل مع الودائع والدَّين كأرقام، فإنّ الأزمة في جوهرها إنسانيّة. لبنان ليس جدول بيانات ولا أعمدة أرقام. إنّه بلد ينهار اجتماعيّاً: الفقر يتّسع، الهجرة تتزايد، المدارس تُقفل أبوابها، المستشفيات تعمل بالحدّ الأدنى، الكهرباء والدواء مفقودان. أيّ معالجة لا تضع الإنسان في قلب الحلّ محكوم عليها بالفشل. المطلوب أن يُربط أيّ قانون لإعادة هيكلة الودائع بضمان استمرار التمويل الصحّي، بقاء الأطفال في المدارس، استقرار برامج الحماية الاجتماعيّة، وتوفير حدّ أدنى من الكهرباء. هذه ليست رفاهية، بل شروط بقاء وطنيّ.

في ظلّ كلّ هذا، يُسوَّق لمشروع “الفجوة الماليّة” كحلّ. لكنّ الحقيقة أنّه محاولة لشرعنة الخسائر، خطوة لتبييض سياسات فاشلة وإعفاء المسؤولين من المحاسبة. إنّه مشروع يحافظ على مصالح النخبة الماليّة والسياسيّة، ويفرض على الناس أن يتحوّلوا إلى دائنين لمصارفهم لأجل طويل، ويبرّئ الدولة من مسؤوليّتها التاريخيّة. بكلمات أخرى، هو قرار تصفية مموّه بعبارة الحلّ.

إذا أردنا أن يكون “قانون الفجوة الماليّة” فعلاً مدخلاً للحلّ، يجب أن يختلف جذريّاً عمّا يُطرح اليوم. يجب أن يبدأ بتسلسل عادل للخسائر يتحمّل فيه المساهمون وكبار الدائنين النصيب الأكبر، وأن تساهم الدولة بأصولها العامّة وإصلاح ماليّتها لا بتحميل العبء للمواطنين، وأن يُكشف حساب مصرف لبنان والمصارف عبر نشر نتائج التدقيق الجنائي، وأن تُشرف هيئة مستقلّة محايدة على التنفيذ بعيداً عن “الطبخة” السياسيّة. هذه معايير ليست مثاليّة بل معايير عالميّة مطبّقة في كلّ الأزمات المصرفيّة الكبرى.

ليس النقاش في قانون الفجوة الماليّة نقاشاً تقنيّاً فحسب، بل هو امتحان لشرعيّة الدولة اللبنانية. فالدولة التي تعجز عن حماية مواطنيها من الاستغلال الماليّ، ثمّ تجبرهم على دفع ثمنه، تفقد حقّها في التحدّث عن الإصلاح. والمجتمع الدولي، وعلى رأسه صندوق النقد، يعرف أنّ أيّ قانون لا يقوم على العدالة والشفافيّة لن يكون سوى عمليّة تجميل فاشلة لانهيار مستمرّ.

مشروع قانون الفجوة الماليّة كما يُطرح اليوم ليس حلّاً، بل هو مرآة تعكس فشل السلطة في تحمّل مسؤوليّتها. وحدها إعادة صياغة القانون بروح إنسانيّة قائمة على المحاسبة والإنصاف يمكن أن تفتح الباب أمام تعافٍ حقيقيّ للبنان. وما لم يحصل ذلك، سيبقى المشروع وثيقة رسميّة لإعادة إنتاج الظلم، وتوزيع الخسائر على الضحايا، بدل أن يكون بداية لعقد اجتماعي جديد يؤسّس لإعادة بناء الوطن.

* باحث مقيم لدى كلّية سليمان العليان لإدارة الأعمال (OSB) في الجامعة الأميركيّة في بيروت (AUB).

محمد فحيلي- اساس

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا