المجتمع

"هيداك المرض"... هل الأرقام حقيقية؟

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

صديق، قريب،أمّ، شقيق، جارة، زميلة، طفل... لم يعد أحد منا في منأى عن حالة سرطان أو أكثر في محيطه المباشر، نعيش في قلق من أن يصيبنا ما أصاب أحد هؤلاء المقربين. فالسرطان في لبنان لم يعد حالة فردية نادرة، بل تحوّل إلى معضلة صحية واجتماعية تؤرق العائلات وتثقل النظام الطبي...

جاء صادماً تقرير صحيفة «دايلي مايل» البريطانية الذي صنّف لبنان في المرتبة الأولى عالميًا من حيث ارتفاع نسب الوفيات بسبب الإصابة بالسرطان خلال الثلاثين عامًا الماضية التي بلغت 80 %. فهل تعكس هذه الأرقام حقيقة ما يجري على الأرض، أم أنها مبالغ فيها؟ لكنها بلا شك تفتح السؤال حول الأسباب وحجم الكارثة الصحية المقبلة.

التقرير المرعب أثار بلبلة وذعرًا في المجتمع اللبناني، واستدعى التوقف عنده ودراسته بشكل دقيق من قبل المراجع الرسمية كما من قبل أطباء السرطان في لبنان والرأي العام. المخاوف مبررة في ظل بيئة محمّلة بتلوث الهواء والمياه، ومثقلة بأزمة النفايات المزمنة، وتشهد ضعفًا في الرقابة الغذائية وتراجعًا في المنظومة الصحية، لكن رغم ذلك، يبقى التساؤل مشروعًا حول دقة التقرير الصادر عن نشرة Lancet Global Burden Of Disease وهي المرجع العلمي الذي استندت إليه الصحيفة البريطانية في تقريرها.

السجل الوطني للسرطان التابع لوزارة الصحة الذي يوثق حالات الإصابة بالسرطان في لبنان، توقف عن نشر أرقام الإصابات منذ العام 2016. ومن يراجع هذه الأرقام، يجد أنه في العام 2005 مع بدء آلية التسجيل، كان العدد 7406 إصابات (دون احتساب حالات سرطان الجلد غير الميلانيني) ووصل إلى 8734 في العام 2009 ليبدأ بعدها بالتصاعد فيصل إلى 11392 في العام 2016. وفي تموز 2023 أطلقت وزارة الصحة الخطة الوطنية الجديدة لمكافحة السرطان التي أعادت تفعيل السجل، وتم تحديث الأرقام التي استمرت بالتصاعد لتبلغ مثلًا 14035 حالة في العام 2019 وتنخفض إلى 13390 في العام 2022 وهو آخر عام وارد في السجل.

ملاحظات فراس الأبيض
وتستعد وزارة الصحة في لبنان  لإصدار رد مفصل على تقرير «الدايلي ميل». ومن جهته، وفي محاولة منه لتوضيح ما ورد في التقرير، قال وزير الصحة السابق فراس الأبيض في تغريدة مفصلة له على موقع إكس «إن ثمة نقاطًا ثلاثًا تستحق التوقف عندها:

النقطة الأولى، المخاطر القابلة للتعديل حيث يُعتبر لبنان من الدول ذات أعلى معدلات التدخين في العالم، ويُضاف إلى ذلك التلوث، استهلاك الكحول، والأنظمة الغذائية غير الصحية. ورغم إقرار قانون مبكر لمكافحة التدخين، فإن تطبيقه تعثر. وخلال فترة عملي، (يؤكد الوزير السابق) فشلت محاولات تعزيز سياسات الوقاية على مستوى مجلس الوزراء والبرلمان. هذا الفشل في معالجة عوامل الخطر القابلة للتعديل يبقى السبب الرئيسي وراء هذا الاتجاه المقلق.

النقطة الثانية، صحيح أن قدرة الحصول على علاج السرطان والأدوية تضررت بشدة بين عامي 2020 و2023 بسبب الأزمة المالية، إلا أنّ ذلك لا يشكّل إلا جزءًا صغيرًا  فقط من فترة الثلاثين عامًا التي يغطيها التقرير. وبالتالي، فإن الارتفاع الحاد لا يمكن تفسيره بمشكلات الوصول إلى الدواء الحديثة وحدها.

وتبقى النقطة الثالثة وهي الأبرز المتعلقة بالبيانات والمنهجية المعتمدة في التقرير، فلبنان توقف عن نشر السجل الوطني للسرطان بعد عام 2016. وفي غياب بيانات محلية حديثة، تعتمد الهيئات الدولية على نماذج لتقدير عبء السرطان، وهي تقديرات تحمل هامشًا واسعًا من عدم اليقين. وحدها البيانات المحدّثة المنتظرة من وزارة الصحة ضمن خطتها الوطنية الجديدة لمكافحة السرطان ستوفّر صورة أوضح على المستوى الوطني».

توضيح كرك لـ «نداء الوطن»
ما قاله الوزير الأبيض يؤكده لـ «نداء الوطن» البروفسور فادي كرك الاختصاصي في أمراض الدم والأورام في أوتيل ديو دو فرانس وجامعة القديس يوسف وعضو اللجنة الوطنية لسجل السرطان. فيقول شارحًا إن التقرير ذكر ارتفاعًا في عدد الوفيات وليس الإصابات فيما وزارة الصحة اللبنانية تسجل فقط عدد الإصابات ولم تصدر أية معلومة حول عدد الوفيات. من هنا يطرح السؤال: ما هي المراجع التي استند إليها التقرير لتقدير تزايد عدد الوفيات؟

من العام 2016 إلى العام 2024 لم ترتفع أرقام الإصابات التي بدأت الوزارة نشرها بشكل دراماتيكي رغم وجود حوإلى مليوني سوري في لبنان . والمنطق يقضي بأن يكون عدد الإصابات أكبر لأن الاتجاه عالميًا هو لازدياد حالات الإصابة في السرطان. لكن اللافت في الأمر، يؤكد د. كرك، أن زيادة الحالات جاءت أقل مما كنا نتوقع علمًا بأننا نعتمد تقنية دقيقة تعرف باسم Capture and recapture لرصد الحالات التي تتوجه إلى المستشفيات من جهة والمختبرات التي تجري الفحوصات والصور من جهة أخرى. قد يفوتنا 10 % من الإصابات التي لم نتمكن من رصدها، لكن مع ذلك تبقى نسبة الزيادة ضعيفة لا تتعدى 10 % من العام 2016 حتى اليوم. ومن يراقب السجل الوطني للسرطان، يلاحظ بدء الارتفاع مع العام 2012 وذلك بسبب اعتماد دقة أكبر في رصد الإصابات بحيث بات السجل قادرًا على توثيق أكثر من 90 % من إصابات السرطان في لبنان.

مجلة لانسيت التي صدر عنها التقرير، يقول د.كرك إنها قامت بما يعرف بعملية تقدير أو إسقاط. أي أنها عادت إلى الأرقام المنشورة حتى العام 2016، وقدّرت أن هذا المسار التصاعدي سوف يستمر في الارتفاع، واحتسبت نسبة الوفيات التي تترافق عادة مع عدد الإصابات، لتستنج بشكل حسابي أن لبنان هو الأول من حيث ارتفاع عدد الوفيات، علمًا أن لا إحصاءات موثقة في وزارة الصحة اللبنانية حول عدد الوفيات. من هنا، تصبح هذه الإسقاطات خاطئة ولا يمكن اعتبارها مرجعًا موثقًا، بسبب عدم اعتمادها على تسجيل واضح لعدد وفيات السرطان في لبنان. اليوم ولتصحيح هذا الخلل في الإحصاءات، تعمل اللجنة الوطنية للسرطان منذ بداية السنة على وضع الرقم الطبي الموحد لمريض السرطان قيد التنفيذ وربطه ببطاقة الهوية في وزارة الداخلية حتى في حال حدوث وفاة يتم تسجيلها على الفور.

الآتي أعظم
ربما تكون أرقام التقرير أقرب إلى الإسقاطات منها إلى الواقع، لكن هذا لا ينفي مطلقًا ازدياد حالات السرطان في لبنان، وهو ما نلحظه جميعًا. وفي هذا الإطار، نسأل أطباء السرطان المختصين عن الأسباب المحلية المؤدية إلى هذه الزيادة .

يتوقع البروفسور كرك زيادة كبيرة في نسب الإصابة بالسرطان في المستقبل، لأن مريض السرطان لا يصاب به خلال سنة أو سنتين من تعرضه للمسببات، بل عبر تراكم زمني، ولبنان سيدفع مستقبلاً انطلاقًا من العام 2030 ثمن ما يعيشه اليوم من أضرار بدءًا بالمولدات وصولاً إلى فوضى التدخين وتلوث المياه والحروب المستمرة. ففي السابق مثلًا، كان مولد واحد في الحيّ يعمل أربع أو ست ساعات يوميًا، لكن اليوم تملأ المولدات  الأحياء، وهي تعمل أحيانا 20 ساعة في اليوم، ما يعني تراكم الجزئيات الكيميائية الملوثة والمسرطنة. بعدها، يأتي قانون التدخين الذي لم يتم احترامه. فالسجائر والأركيلة والسجائر الإلكترونية في الأمكنة المقفلة تسبب الأذى لمدخنيها وكل من يتعرض لها. هذا من دون أن ننسى التعرض المزمن للمياه الملوثة بالمجارير والتي تستعمل لري الخضار والمزروعات وحتى للاستعمال الشخصي .

وتعتبر الحروب التي عاشها لبنان، وما استخدم فيها من أسلحة مثل القذائف الفوسفورية وربما الكيميائية والحرائق التي نتجت عنها ومعظمها لمواد كيميائية متواجدة في الأبنية والبيوت، من أبرز العوامل المسببة للسرطان وسوف تظهر نتائجها بعد سنوات. ويقول د. كرك إن ما يعرف باسم  «سرطانات ما بعد الحرب» أمر موثق عالميًا، حيث شهدت البلدان التي عاشت حروبًا حالات سرطان أكبر وأكثر عدائية ظهرت بعد 15 سنة من الحرب.  ولبنان لن يشذ عن هذه القاعدة حيث ستظهر نتائج الحرب التي نعيشها اليوم بدءًا من العام 2030.

من جهته،  يعتبر د. جورج شاهين الاختصاصي في أمراض الدم والأمراض السرطانية، أن نسبة السرطان بشكل عام ترتفع مع التقدم في السن؛ ومنذ أربعين سنة، كانت نسبة من هم فوق الخامسة والستين في لبنان لا تتخطى 9 % فيما وصلت اليوم إلى 20 % ما يعني أن نسبة السرطان سوف تزداد. منذ العام 2010 وحتى اليوم، بيّنت الأرقام ازديادًا في نسبة الإصابات، ولكن هذا يعود بجزء منه وفق د. شاهين إلى كون السرطان سابقًا كان يعتبر مرضًا معيبًا ونوعًا من التابو لا يتم الحديث عنه والإفصاح عن الإصابة به، فيما اليوم بات الحديث مفتوحًا، لا بل تتم المبالغة فيه من قبل بعض الأشخاص للحصول على مساعدات من الجمعيات المختصة.

الكشف المبكر
بعيدًا من اية أحكام أخلاقية، يعرض الطبيب المختص سببًا أساسيًا لزيادة الحالات وهو الكشف المبكر. ويركّز على ضرورة تنظيم عملية الكشف المبكر بحيث يتم إرسال الناس إلى مراكز مؤهلة تستطيع رصد الحالات المبكرة وتسجيلها ووضع الإحصاءات اللازمة. إذ لا تكفي حملات التوعية والحملات الإعلانية وحدها لدفع الناس إلى الكشف المبكر، بل يجب وضع مراكز مختصة مؤهلة بتصرفهم. لا شك، أن ما مر به لبنان من أزمات لا سيما بالنسبة للوصول إلى الدواء وحتى في مواكبة أحدث علاجات السرطان، كان له تأثير على ازدياد حالات السرطان وتفاقم أوضاع المرضى، إضافة بالطبع إلى التلوث البيئي الذي يشهده لبنان وربما تكون له تداعيات على زيادة حالات السرطان في لبنان. ولكن حتى اليوم، لا أرقام دقيقة حول عدد الإصابات. وأسهم وجود السوريين والعراقيين في لبنان وتسجيل المصاب الواحد مرتين، قد يكون ساهم في الوصول إلى أرقام غير دقيقة.

ويعتبر د. شاهين أن سرطان الثدي الأول بالنسبة للنساء في لبنان. أما عند الرجال، فسرطان البروستاتا عند الكبار في السن، وسرطان الرئة والمثانة عند الأصغر سنًا،  لا سيما المدخنين،  وكذلك سرطان المصران عند الجنسين. ولكن تبقى هذه حالات عادية غير استثنائية يمكن رصدها في معظم البلدان. واليوم، بدأت تظهر أدوية مثل HER2 Positive الذي يشكل نقلة نوعية في علاج سرطان الثدي وهو الأكثر تفشيًا بين النساء، والذي يشكل نسبة 30 إلى 35 % من مجمل أنواع السرطانات في لبنان حسب د. شاهين. وقد يساعد هذا الدواء في زيادة نسبة الشفاء والتقليل من نسبة الوفيات وتحسين وضع المرضى.

الوقاية ثم الوقاية
لا يقر د. كرك  بأن اختفاء أدوية السرطان كان له تأثير مباشر على الوفيات. وبحسب قوله، إن مدة اختفاء الأدوية كانت قصيرة واستطاع معظم المصابين الحصول على أدويتهم. لذا، لا يمكن اعتبار الدواء سببًا في ارتفاع نسبة الوفيات، فقلة قليلة لم تستطع الحصول على العلاجات المناسبة. ثمة عاملان يلعبان دورهما في ارتفاع نسبة الوفيات وهما: الكشف المتأخر وعدم اعتماد الوقاية الضرورية. وبرأيه، لا بد من تعزيز التوعية حول أهمية الكشف المبكر لأنه عامل حاسم في ارتفاع نسب الشفاء والحصول على العلاج المناسب، لا سيما لأكثر أنواع السرطانات انتشارًا مثل الثدي والكولون والرئة والمثانة. أما اعتماد الوقاية من الأسباب، فباتت معروفة مثل التدخين، اللحوم المدخنة، المعلبات، الملونات، ويضاف إليها في لبنان الملوثات ولا نزال نحتاج إلى الكثير من الوعي في لبنان. وهنا يشير د. كرك، إلى أهمية نوعية الفحوصات المعتمدة في الكشف المبكر ، إذ لا يمكن الوثوق بكل المختبرات التي تجري هذه الفحوص حيث يمكن في بعض الأحيان أن تكون القراءة خاطئة أو الأجهزة المستخدمة غير دقيقة. لذلك، خلال حملات الكشف المبكر المقبلة، سيتم اختيار 20 % من الفحوصات عشوائيًا من كل لبنان لإعادة تقييمها وقراءتها لمعرفة مدى دقتها، وفي حال تبيّن وجود ثغرات ما، يصار إلى لفت انتباه المصدر لتصحيح أوضاعه.

في النهاية، المطلوب من الحكومة، ليس الحد من الذعر الذي أحدثه التقرير الصادم، بل اتخاذ الإجراءات التي تحفظ سلامة الناس: طبقوا قانون منع التدخين في الأماكن العامة بصرامة، أوقفوا المولدات أو حددوا ساعات استخدامها، إمنعوا تلوث الأنهر والمياه الجوفية وحاسبوا كل من يقوم به، طبقوا الرقابة الغذائية على المنتجات اللبنانية وامنعوا مصانع «تحت الدرج»، أوجدوا حلًا نهائيًا للنفايات وامنعوا حرقها، راقبوا المختبرات وفعالية فحوصاتها... وقبل كل شيء أوقفوا الحروب والاعتداءات الإسرائيلية لتحفظوا مستقبل البلد وتحموا أهله من انتشار السرطان...

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا