هل تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان ..وتحت أي ظروف؟
منذ عام 1978 تحوّل جنوب لبنان إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية أولاً، ثم "حزب الله" لاحقاً. ولم تنعم تلك البقعة الجغرافية منذ ذلك التاريخ حتى اليوم باستقرارٍ دائمٍ، فمنذ عملية الليطاني مروراً باجتياح بيروت في عام 1982، وصولاً إلى الانسحاب عام 2000، ظل المشهد يتكرر، اجتياح إسرائيلي يعقبه انسحاب تحت ضغوط دولية أو بفعل الاستنزاف العسكري. وبين منصةٍ لصواريخ الآخرين، ومرتعٍٍ لـ"مقاومة" وصلت عام 2000 إلى "التحرير" لكنها لم تعرف أن تنتصر، بعدما حسم لها المرشد الإيراني الأعلى وجهتها المستقبلية، بقي الجنوب ومعه لبنان كله ساحة مفتوحة في مواجهة دائمة في خدمة مشروع ما صار يعرف بمحور "الممانعة". في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وبعد حرب "الإسناد" التي أعلنها "حزب الله"، فرضت إسرائيل واقعاً جديداً عبر سيطرتها على خمس نقاط حدودية، قوامه اتفاق لوقف إطلاق نار، أعطاها حرية استكمال عملياتها وضرباتها إذا لم يطبق لبنان القرار الأممي رقم 1701 ولم ينته الوجود المسلح لـ "حزب الله" بدءاً من جنوب الليطاني وصولاً إلى كل لبنان. وبات السؤال اليومي هل ينتهي الاحتلال الإسرائيلي هذه المرة أم أن إسرائيل دخلت لتبقى؟ وهل تكرر التجارب السابقة بانسحابها بعد كل اجتياح ووفق أي سيناريوهاتٍ هذه المرة؟
دروس من التاريخ
تُظهر التجارب السابقة أن انسحاب إسرائيل من لبنان لم يكن يوماً خياراً استراتيجياً ذاتياً، بل جاء دائماً تحت مزيج من الضغوط. كان الاجتياح الأول عام 1978، وتحت عنوان إبعاد تهديد منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تمسك بقرار المواجهة من الداخل اللبناني، نفذت إسرائيل ما يعرف بـ "عملية الليطاني" ولم تخرج من لبنان إلا بعد تدخل أميركي وضغط دولي سريع أدى إلى صدور القرار الدولي رقم 425 وانتشار القوات الدولية لحفظ السلام "يونيفيل"، ما أجبر إسرائيل على انسحاب نسبي سريع. وفي عام 1982 كان الاجتياح الثاني الذي هدف إلى إخراج "منظمة التحرير الفلسطينية" من بيروت، وعلى رغم نجاحها في إخراج رئيس المنظمة ياسر عرفات، إلا أن احتلالها استمر لسنوات ونفذت عام 1985 انسحاباً جزئياً نحو الشريط الحدودي في محاولة لإيجاد منطقة أمنية عازلة. وبعد 15 عاماً من الاستنزاف المتواصل من قبل "حزب الله"، اتخذت حكومة إيهود باراك عام 2000 قراراً بالانسحاب الكامل والسريع من دون اتفاق مع لبنان وسوريا ما أعطى الحزب شرعية داخلية وعربية.
هل تنسحب إسرائيل ولأي سبب؟
في قراءة للتجارب السابقة يمكن تحديد سيناريوهات ستة للأسباب التي قد تدفع إسرائيل إلى الانسحاب من جنوب لبنان.
أولاً: الخروج العسكري بالقوة بحيث يتكرر سيناريو مشابه لعام 2000 عندما انسحبت إسرائيل من الجنوب نتيجة ضربات "المقاومة" والخسائر المستمرة. لكن ما كان يصح عام 2000 لم يعد ممكناً اليوم والاستنزاف الأمني صار مستحيلاً بعد تراجع قدرات "حزب الله" واستعادة الدولة اللبنانية سيادتها عبر الإمساك بقرار الحرب والسلم والتزامها حصر السلاح واعتمادها الحل الدبلوماسي.
ثانياً: حصول تسوية سياسية، فيكون انسحاباً مشروطاً في إطار اتفاق مع لبنان قد يشمل ترتيبات أمنية في الجنوب على قاعدة القرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار ونزع سلاح "حزب الله" وتوسع انتشار الجيش اللبناني وضمانات بعدم استخدام الجنوب كقاعدة ضد إسرائيل، لكن هذا الاحتمال الذي حاولت تسويقه أميركا اصطدم بربط لبنان استكمال تنفيذ حصر السلاح بانسحاب إسرائيل من النقاط الخمس وهو ما ترفضه تل أبيب.
ثالثاً: أن يحصل ضغط دولي فيصدر قرار من مجلس الأمن يفرض على إسرائيل الانسحاب من الأراضي اللبنانية كما حدث مع القرار 425 عام 1978 والذي تأخر تطبيقه. لكن هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحركت قوى كبرى مثل الولايات المتحدة أو فرنسا أو روسيا، بجدية. مع العلم أن إسرائيل تصف معركتها اليوم بالوجودية، وهي، ومعها الدول الكبرى المعنية، تنظر إلى "حزب الله" ليس فقط كقوة محلية بل كجزء من مشروع إقليمي تقوده إيران، وهي تدفع جميعها باتجاه نزع سلاحه، ما قد يجعل قرار الانسحاب أكثر تعقيداً، أو مرتبطاً بصفقة إقليمية أكبر وليس حصراً بميزان القوى على الأرض في جنوب لبنان.
رابعاً: أن تنفذ إسرائيل انسحاباً أحادي الجانب شبيه بما جرى عام 2000، بسبب ضغط داخلي وخسائر عسكرية، لكن هذا الاحتمال مستبعد إن لم يكن مستحيلاً لأنه قد يترك فراغاً أمنياً يُرجّح أن يملأه "حزب الله" إذا لم تكن خطة حصر السلاح قد نُفذت بعد، ما قد يعيد أمن إسرائيل على حدودها الشمالية إلى نقطة الصفر.
خامساً: سيناريو تسوية إقليمية شاملة حيث يتم الانسحاب أيضاً من مزارع شبعا والجولان ضمن اتفاق موسع يشمل سوريا وينص على التهدئة مع إيران، لكن حظوظ هذا الاحتمال لا تزال ضعيفة أو معدومة.
سادساً: أن يحصل الانسحاب نتيجة تغيير داخلي في إسرائيل أو لبنان، عبر وصول حكومة إسرائيلية تتبنى استراتيجية "تقليص الصراع" والانسحاب لتقليل الأخطار، أو في لبنان من خلال تنفيذ الدولة اللبنانية قرار حصر السلاح وبسط سيادتها بقواها الشرعية وسحب الذريعة من أمام إسرائيل.
بين فرضية "إسرائيل الكبرى" وأمن الشمال
يعتبر المؤرخ اللبناني الدكتور عماد مراد أن "إسرائيل تسعى إلى تأمين منطقتها الشمالية"، ويستبعد نظرية "إسرائيل الكبرى"، مشيراً إلى أن "إسرائيل لو كانت تسعى للتوسع الجغرافي، لما كانت انسحبت من سيناء، وكانت بنت مستوطنات في جنوب لبنان طوال الاحتلال الذي استمر 22 عاماً، وأعلنته جزءاً من أراضيها كما فعلت بعد احتلالها الجولان الذي أعلنته رسمياً تابعاً لإسرائيل بقرار من الكنيست الإسرائيلي". بحسب رأيه إن "إسرائيل لا تريد البقاء في لبنان ولا تسعى إلى احتلاله، إنما هدفها الوحيد يتمحور حول أمن حدودها الشمالية لا أكثر، ولو كان تحقق لها ذلك في مرحلة الوجود الفلسطيني السياسي والعسكري في لبنان منذ عام 1962 مروراً بعام1978 ، لما كانت احتلت لبنان وكررت اجتياحها له في عام 1982 حين وصلت إلى العاصمة بيروت قبل أن تنسحب مجدداً إلى المناطق الحدودية". وفي عام 2000 يضيف مراد "انسحبت إسرائيل بشكل كامل لمصلحة 'حزب الله' وسمحت له بتعزيز قوته لأنها رأت فيه أداة لضبط التوازن الداخلي اللبناني، في ظل رفض الموارنة عقد سلام معها، واستحالة التحالف مع السنّة الداعمين للقضية الفلسطينية. فلو كانت تريد إسرائيل التوسع في لبنان يضيف مراد لما كانت تركت الشيعة منذ 2006 وحتى 2023 يصبحون بهذه القوة ولما راهنت عليهم لحماية حدودها". ويجزم بأنه "لحظة يتحول 'حزب الله' إلى حزب سياسي ويسلم سلاحه فإن إسرائيل ستنسحب من جنوب لبنان.
سلاح الحزب يعطل الانسحاب
الباحثة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت رندة حيدر لا ترى انسحاباً إسرائيلياً قريباً من لبنان طالما "حزب الله" يحتفظ بسلاحه. وتذكر بأن إسرائيل شككت منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في قدرة الجيش اللبناني على نزع سلاح الحزب من منطقة جنوب الليطاني، ولهذا الغرض تمسكت باحتلالها للنقاط الخمس على رغم عدم جدواها العسكرية على حدّ زعم الإسرائيليين في الدفاع عن المستوطنات بالقرب من الحدود. وترى حيدر أن "الهدف من بقاء إسرائيل في الجنوب كان منع 'حزب الله' من إعادة بناء البنى العسكرية التي دمرتها في المنطقة المحاذية لحدودها، واستخدام هذا التواجد العسكري في قلب الأراضي اللبنانية كورقة ضغط على الحكومة اللبنانية لدفعها على تطبيق بنود اتفاق وقف النار والقرار 1701 وانتشار الجيش اللبناني". وتضيف، "كان هدف ملحق اتفاق وقف النار الذي أعطى إسرائيل الحرية في القيام بهجمات داخل لبنان ضد أهداف تابعة للحزب". وتعتبر أن "موافقة لبنان على خطة باراك لنزع سلاح 'حزب الله' وقرار الحكومة حصر السلاح بيد الدولة أشاع أجواءً إيجابية داخل إسرائيل حول تطبيق القرار 1701 ما دفعها إلى تنفيذ انسحابات تدريجية، لكن مواقف 'حزب الله' ورفضه تسليم سلاحه للدولة وصورة العجز التي ظهرت فيها الحكومة، من شأنها تعزيز فرضية استمرار الاحتلال للنقاط الخمس لوقت غير محدود ما يضع اتفاق وقف إطلاق النار في موضع شك".
الاحتلال مستمر حتى التفاوض
من جهته، يوضح العميد المتقاعد فادي داوود أن "بقاء إسرائيل في النقاط الخمس ليس هدفاً عسكرياً صرفاً". ويشرح أن "العمليات العسكرية في المطلق يكون لها هدف وتُنفَذ لتحقيق غاية، قد تكون في بعض الأحيان تدمير العدو أو احتلال أرض أو جمع معلومات. أما النقاط الخمس التي احتلتها إسرائيل فهي تُصنَّف تحت خانة ما يُعرف بالنقاط الحاكمة التي تُحدَد في أي قتال بين جيش وآخر، ومن يتمركز على هذه النقاط الواقعة بين لبنان وإسرائيل يستطيع حكم الأرض المحيطة والمطلة عليها". لكن لإسرائيل بحسب داوود "أهدافاً أخرى، خصوصاً أن التفوق النوعي الذي تتمتع به يسمح لها بأن تسيطر على هذه النقاط الخمس عبر الجوّ ساعة تشاء، وهو ما يؤكد أن الهدف من بقائها في لبنان ليس لاحتلال أرض بقدر ما هو إنتاج واقع جديد على الأرض يلزم الدولة اللبنانية الحديث معها. فالدولة لا تملك إلا الحل الدبلوماسي وسترى نفسها مضطرة إلى التفاوض لإخراج إسرائيل من أرضها".
لا يمكن الجزم يضيف داوود "بعدم وجود أطماع إسرائيلية توسعية في لبنان لكن الأكيد أن من يمتلك كل هذه القدرات التقنية ومن لديه مراكز استراتيجية في الجولان ومن يملك الجو ليس بحاجة إلى النقاط الخمس لتثبيت سيطرته، إضافة إلى أن هذه النقاط الخمس لا تكفي وحدها لإنشاء منطقة عازلة حدودية.
وعلى رغم الحديث المتكرر عن "مشروع إسرائيل الكبرى" يذكّر داوود بمعضلة أساسية: "عدد سكان إسرائيل بالكاد يكفي لملء الأراضي داخل حدودها الحالية، فمن أين ستأتي بالناس لملء ما يُسمّى بإسرائيل الكبرى؟".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|