لا عودة عن إسقاط مادورو.. واشنطن تعيد رسم خريطة نفوذها في الكاريبي من فنزويلا
لم يعد التصعيد في فنزويلا موضوعًا مؤجلًا بالنسبة للولايات المتحدة، فمع تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بأن "أيام نيكولاس مادورو معدودة"، دخل الملف الفنزويلي مرحلة جديدة من الوضوح العلني في مواقف واشنطن، بعد أسابيع من مؤشرات متصاعدة في الميدانين الأمني والدبلوماسي داخل منطقة الكاريبي.
ويبدو أن واشنطن لم تعد في طور إدارة الأزمة الفنزويلية، إنما باتت على عتبة إعادة صياغة مسارها، فليست المسألة الآن في ما إذا كانت الإدارة الأمريكية ستتحرك، ولكن في الكيفية والتوقيت والحدود.
هذا التحوّل يصدر عن قراءة واقعية تقول إن فنزويلا في صيغتها الحالية أصبحت مأزقًا داخليًّا يتكاثر خارج حدوده، وأن تأجيل الحسم بات يكلف أكثر من صعوبة الحسم ذاته.
التحرك الأمريكي المرتقب، إن وقع، سيكون على الأرجح عنوانًا لمرحلة انتقال سياسي ضروري في بلد تراكمت فيه الأزمات، وفُقدت فيه آليات التصحيح الداخلي.
تحوّل في تقييم واشنطن
وأفاد مصدر دبلوماسي أمريكي مطّلع، في حديث لـ"إرم نيوز"، بأن التحركات العسكرية الأمريكية في محيط فنزويلا لم تعد مجرّد رسائل ضغط، إنما تعبّر عن قراءة سياسية ترى أن الهيكل الحاكم في كاراكاس بلغ نقطة الانسداد، وأن استمرار الوضع الحالي يُنتج أخطارًا متزايدة لا تتعلق فقط بالداخل الفنزويلي، بل بتوازن الإقليم كله.
لذا فإنه "يمكن القول إن المؤسسة التنفيذية في واشنطن باتت تنظر إلى حكومة نيكولاس مادورو بوصفها سلطة فقدت شروط البقاء المستقر، وأصبحت جزءًا من معادلة إقليمية مُكلفة وغير قابلة للاحتواء"، وفق المصدر.
وأضاف المصدر، الذي شارك في محادثات مغلقة بين وزارتي الخارجية والحرب، أن "الرئيس ترامب لم يتخذ القرار العسكري النهائي بعد"، لكن السيناريو الأوضح داخل فريقه هو أن استمرار الجمود لن يُنتج سوى مزيد من الفوضى الاقتصادية والاجتماعية على حدود أمريكا الجنوبية، بما في ذلك موجات الهجرة غير النظامية، وتوسع الأسواق السوداء، واستخدام الاقتصاد الفنزويلي كمساحة للفكاك من الأنظمة الرقابية الدولية.
ولفت إلى أن الملف الفنزويلي لم يعد ملفًا سياسيًا مؤجلًا داخل الإدارة الأمريكية، موضحًا أنه "خلال الأيام الماضية، حُسمت نقاشات حول جدوى الإبقاء على سياسة الضغط غير المباشر، وتمت الموافقة على خطة عملياتية أولية يمكن تنفيذها خلال أسابيع، إذا لم يحدث تغيّر جوهري في موازين القوى داخل كاراكاس.. الأمر يتعلق بإعادة رسم خطوط النفوذ الأمريكي في الكاريبي".
وتابع المصدر: "نقطة التحوّل تمثلت في توفر القناعة لدى واشنطن بأن تغيير طبيعة السلطة القائمة في فنزويلا بات ضروريًا من أجل إعادة إدماج هذا البلد في النظام الإقليمي والدولي بشروط أكثر استقرارًا".
وأكد أن "الإدارة الأمريكية لا تسعى إلى إسقاط الدولة الفنزويلية، بل إلى فتح طريق سياسي يكون قابلًا للتنفيذ من دون بقاء القيادة الحالية".
خطة تكتيكية جاهزة
وأوضح المصدر أن "الخطط المتداولة حاليًا تتراوح بين توجيه ضربات مركزة للبنية الأمنية، وتعطيل نقاط السيطرة الحيوية في العاصمة، وتنفيذ عمليات محدودة، دون أن تتورط واشنطن في عمل بري شامل"، لافتًا إلى أن "جزءا من التفكير داخل الإدارة يدور حول خلق فراغ مدروس على مستوى القيادة، يدفع إلى إعادة تنظيم السلطة".
وبيّن أن "ما يجري الآن ميدانيًا هو انتقال فعلي من مرحلة الردع إلى مرحلة التحضير التكتيكي، عبر وضع القوات البحرية والجوية في حالة تأهب قصوى، واستكمال ترتيبات لوجستية في قواعد بورتو ريكو وكوراساو وجزيرة غونتانامو، تتعلق بتأمين مسارات الطيران والإسناد الإلكتروني".
وأكد المصدر أن "هناك توافقا واسعا على أن النظام في فنزويلا فقد القدرة على الصمود الاقتصادي والسياسي، وأن أي تأخير في الحسم سيُعقد المشهد أكثر، ويزيد من كلفة إعادة الاستقرار".
وكشف أن "الخيار المفضل الآن هو عملية محدودة النطاق، دقيقة الأهداف، تستهدف بنى القيادة والسيطرة، وبعض مراكز الدفاع الجوي ومخازن السلاح قرب العاصمة".
وختم المصدر الدبلوماسي بالقول إن الخطة المحدثة التي اطلع عليها الرئيس ترامب تقوم على ما يُعرف داخل البنتاغون بـ"نموذج بنما المُعاد تصميمه"، أي تدخل سريع، خاطف، يعيد صياغة الوضع من دون احتلال.
وأشار إلى أن "الفرضية المركزية، هي أن توجيه ضربات محددة لمواقع القيادة العليا سيخلق تصدّعًا داخليًا كافيًا لإطلاق مرحلة انتقال سياسي داخلية".
صدمة محسوبة
من ناحيتها، تعتبر الخبيرة في السياسات الدفاعية، ميغان كولير، التي عملت سابقًا في وحدة تحليل التهديدات العابرة للحدود في وزارة الحرب الأمريكية، (الدفاع سابقًا)، أن العملية التي تُناقش في دوائر القرار الأمريكي هي تدخل محدود محسوب، يجري تطويره على أساس "ضربة قيادية دقيقة"، هدفها شلّ قدرة السلطة القائمة على إعادة إنتاج ذاتها، دون تحطيم مؤسسات الدولة أو إشعال الفوضى.
وترى كولير، خلال حديثها لـ"إرم نيوز"، أن الفرضية الأساسية داخل الإدارة الأمريكية حاليًّا تقوم على ما يُعرف عسكريًّا بـ"التأثير المركّز بزمن قصير"، أي أن تتحقق مكاسب سياسية داخلية وخارجية من دون استنزاف ميداني أو تورّط استراتيجي مفتوح.
وتضيف أنّ "الرهان هو على صدمة محسوبة تُعيد هيكلة الساحة السياسية في فنزويلا.. والهدف خلق تحول داخلي من خلال تدخل محدود ومدروس، وليس فرض نموذج خارجي بالقوة".
وتوضح كولير أن من الخطأ النظر إلى العملية المحتملة في فنزويلا كتحرك منفصل، إنما يجب قراءتها كجزء من "معمار استراتيجي أمريكي متعدد الطبقات"، يعاد بناؤه حاليًّا على امتداد نصف الكرة الغربي.
وتابعت أنّ "ما يتشكل الآن ليس مجرد رد فعل على حالة محلية، بل تصميم لمنظومة ردع مرنة، يمكن تفعيلها عند الحاجة في بقع التوتر، دون تحمّل تبعات الانخراط الشامل.. في فنزويلا، تتوفر شروط مثالية لاختبار هذا النموذج؛ من حيث نظام هش، دعم شعبي متآكل، وانقسام دولي غير قادر على التدخل".
وبحسب كولير، فإن التحرك الأمريكي يستند إلى تطور نوعي في العمل الاستخباراتي والتكنولوجي، ما يقلل الحاجة إلى عمليات واسعة، ويزيد من احتمالات إصابة الأهداف دون وقوع في الاستنزاف.
وتقول إن "الحديث عن نموذج بنما المعدّل هو انعكاس لتغير أدوات التفكيك السياسي في العالم المعاصر. بدلًا من الإنزال البري والاحتلال، هناك هندسة لصدمات تُفكك القيادة، وتُعيد ترتيب مراكز القرار دون تفجير الهيكل".
وتُنبّه كولير لضرورة عدم المبالغة في تصوير العملية كـ"تغيير نظام"، مؤكدة أن الأهم من الإطاحة هو كيفية إدارة اللحظة التالية، بحيث لا يتم استبدال العطب القائم بفراغ جديد.
وختمت كولير قائلة، إن "أي تحرّك عسكري أمريكي، لن يكون خطوة معزولة، بل جزء من محاولة لتثبيت حضور سياسي - أمني في فضاء يشهد تحولًا في أولوياته ومراكز ثقله، خصوصًا بعد تراجع أدوات التأثير التقليدية خلال العقد الأخير".
التوازن الإقليمي
بينما يُحذّر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة الأنديز في كولومبيا، إدواردو ألفاريز، من اختزال الأزمة الفنزويلية بمجرد مواجهة بين واشنطن وكاراكاس، معتبرًا أن المشهد أكثر تعقيدًا من منطق التصعيد الثنائي.
وقال ألفاريز، في حديث لـ"إرم نيوز": "المسألة تتجاوز موقع نيكولاس مادورو في السلطة، وتتصل بانهيار طويل الأمد في قدرة الدولة الفنزويلية على تأمين شروط الاستقرار الداخلي".
وأضاف أن "هذا الفراغ المستمر منذ سنوات هو ما يدفع أطرافًا خارجية، ومن ضمنها الولايات المتحدة، إلى اعتبار أن استمرار الوضع على ما هو عليه يُنتج ارتدادات عابرة للحدود يصعب التحكم بها".
وأكد أن واشنطن تنظر إلى فنزويلا كاختبار مصغر لتحولات أوسع في الإقليم، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التدخل سيحل المشكلة من جذورها، بل ربما يعيد ترتيبها وفق موازين جديدة.
وقال ألفاريز: "قد تملك واشنطن القدرة على إحداث صدمة سياسية، لكن أثر هذه الصدمة على الداخل الفنزويلي سيعتمد على ما إذا كانت هناك بنية قادرة على التقاط لحظة الفراغ وإعادة إنتاج الاستقرار".
وأشار إلى أن بعض دول الجوار تنظر بقلق إلى فكرة الحسم العسكري، ليس دفاعًا عن مادورو، بل خشية من التداعيات المفتوحة، سواء على صعيد الهجرة أو الأمن الحدودي أو اضطراب الأسواق.
وتابع: "لا أحد يريد استمرار الأزمة، لكن ما يُقلق كثيرين هو أن يتم تفكيك المشهد دون وجود آلية واضحة لإعادة تركيبه. التغيير ليس معضلة في حد ذاته، بل كيفية إدارته وسط فراغ سياسي واجتماعي واسع في فنزويلا".
واعتبر أن "الولايات المتحدة تُدرك أنها فقدت الكثير من أدوات التأثير الناعم في المنطقة خلال العقد الأخير، خصوصًا بعد صعود حكومات يسارية أو قومية في دول من أمريكا اللاتينية. وبالتالي، فإن استعراض القوة في فنزويلا قد يُفهم أولًا كرسالة للداخل الأمريكي المتحفز انتخابيًّا، وثانيًا لحكومات الإقليم بأنها لا تزال قادرة على فرض وقائع حين تقتضي الحاجة".
وشدد ألفاريز على أن غياب موقف إقليمي موحّد إزاء الأزمة يفتح الباب أمام استقطاب سياسي جديد داخل أمريكا اللاتينية، محذرًا من أن بعض الحكومات قد تجد نفسها مضطرة للتأرجح بين الرغبة في الاستقرار والخشية من عسكرة المشهد.
وقال: "الخشية هنا أن يتحوّل التدخل في فنزويلا إلى سابقة يعاد تدويرها في أزمات أخرى، وهو ما قد يُعقّد مستقبل التوازن الإقليمي".
مؤشرات الانهيار
وفي المشهد الفنزويلي الراهن، تتقاطع الحسابات مع إعادة رسمٍ أوسع للخريطة الجيوسياسية في نصف الكرة الغربي.
وإذا بدا التدخل الأمريكي المحتمل استثنائيًّا في توقيته أو سرعته، فإنّه في الواقع يأتي في سياق تحوّل دولي متسارع، تُعيد فيه واشنطن تفعيل أدواتها في محيطها الحيوي.
التصعيد العسكري، في حال حدوثه، لن يكون حدثًا مفاجئًا خارج السياق، بقدر ما سيكون استجابة محسوبة لانسداد سياسي دام أكثر من عقد، ونقطة مفصلية في مشهد تتراكم فيه الإشارات والمؤشرات.
وما يجري هو تذكير بأن أدوات السياسة تبقى متنوّعة، وأن فترات الانتظار، حين تطول، قد تستدعي أساليب حسم مختلفة.
وفي اللحظة الراهنة، لا يبدو أن السؤال المطروح يتعلق فقط بمصير نيكولاس مادورو كحاكم لفنزويلا، وإنما بالركائز التي تُبقي كيان الدولة متماسكًا وسط ضغوط مزدوجة، تتجلى بضغط داخلي يتمثل في الانقسام المجتمعي وتهالك المؤسسات، وضغط خارجي يتمثل في المراقبة الدولية الحثيثة، التي وإن لم تتحوّل بعد إلى تدخل مباشر، إلا أنها تُنتج أثرًا استباقيًّا واضحًا على مسار القرار الفنزويلي.
الولايات المتحدة، من جهتها، لا تتصرف ضمن مقاربة كلاسيكية للتدخل، بل تُعيد توظيف أدواتها في سياق مختلف، عنوانه التهديدات المتنقلة، من انهيار دول الجوار، إلى تهريب المخدرات، وأزمات الهجرة الجماعية، وهو ما يفسّر ميلها إلى سيناريوهات أكثر تقدمًا من التصعيد غير العسكري، إذا ما تراكمت المؤشرات على تآكل القدرة الفنزويلية على إدارة نفسها داخليًّا.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|