الترسيم مع قبرص: مخالفات جسيمة لأصول إبرام الاتفاقات الدولية
تقدّم هذه الدراسة تحليلاً قانونياً لاتفاقية ترسيم الحدود اللبنانية–القبرصية المبرمة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 22 تاريخ 23/10/2025 ، مقسّماً على مرحلتين: الأولى تفحص الإطار الدستوري والإجرائي لإبرام المعاهدات، والثانية تقارن نصوص الاتفاقية بمقتضيات القانون رقم 163 تاريخ 18/8/2011 الرامي إلى تحديد وإعلان الـمناطق البحرية للجمهورية اللبنانية.
القسم الأول: الإطار الدستوري والإجرائي ومطابقة الإجراءات التشريعية
قبل أن تُقاس خرائط البحار وتُرسم خطوط النفوذ، لا بدّ من معرفة مَن يملك مفتاح الإبرام ومتى يُفعّل: هذا هو محور هذا القسم. نفحص هنا بتركيز كيف وزّع الدستور وصيغته التاريخية صلاحيات إبرام المعاهدات، وكيف تباينت الممارسة التنفيذية مع النصوص والبدائل البرلمانية، لنستخرج نقاطَ احتكاكٍ عملية قادرة على تحديد ما إذا كان الإجراء الحكومي يظلّ داخل أطر الشرعية أم يتجاوزها.
مفهوم الإبرام والدلالة القانونية
يقصد بإبرام الاتفاقيات الدولية (ratification) إعطاؤها الصفة الإلزامية على الصعيد الداخلي من السلطة الدستورية الوطنية المختصّة (هيئة التشريع والاستشارات، استشارة رقم 323/2002 تاريخ 22/5/2002). ويعدّ الإبرام إجراءً جوهرياً لسريان الاتفاقية والتزام الدول الموقّعة عليها، بل تسقط هذه الاتفاقية في حال لم تبرمها الدول الموقعة عليها، ومردّ تعليق نفاذ الاتفاقية على حصول الإبرام هو إعطاء الفرصة لحكومة كلّ دولة لإعادة النظر في المعاهدة قبل أن تتقيّد به نهائياً.
التحول التاريخي لصلاحية الإبرام
المبدأ أن على كلّ دولة إبرام الاتفاقية وفق الأصول المحددة في دستورها، وبالعودة إلى الدستور اللبناني نجد أنه جرى تغيير السلطة المختصّة بإبرام الاتفاقيات الدولية؛ إذ بالعودة إلى النصّ الأساسي مع التعديل اللاحق به بموجب القانون الدستوري الصادر في 9/11/1943 فإن رئيس الجمهورية كان يتولّى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية إبرامها، وكانت وسيلة الإعلان عن هذا الإبرام هي بإصدار مرسوم يشترك في التوقيع عليه الوزير أو الوزراء المختصين عملاً بالمادة 54 من الدستور، على أساس أنّ المراسيم هي الصيغة الشكلية للمقرّرات التي تصدر عن رئيس الجمهورية. ولهذا فإنّ الاتفاقيات المعقودة في تلك المرحلة كانت تبرم بموجب مراسيم؛ أحياناً كان يذكر في بناءات المرسوم أنّه صدر بعد سماع مجلس الوزراء، وفي أحيان أخرى لا يؤتى على ذكر مجلس الوزراء، إلا أنّ أعدادها لم تكن كثيرة، حيث عملاً بالتقليد الدستوري اللبناني المتّبع منذ بداية العهد الاستقلالي، الذي يهدف إلى ضرورة عرض جميع الاتفاقات الدولية على المجلس للإبرام. فالسلطة التنفيذية يومها – وبخلاف ما يحصل اليوم - رأت أن تتنازل عن هذا الحقّ وأن تترك للسلطة التشريعية إبرام كلّ اتفاق له صفة دولية. وبهذا تؤمّن الرقابة البرلمانية بصورة مستمرة وبواسطتها الرقابة الشعبية على الاتفاقيات الدولية التي مهما كانت أهمّيتها يرتبط فيها اسم لبنان ومرافقه الحيوية (تقرير لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب تاريخ 24/3/1949). واللافت في تلك الفترة أنّ معظم الاتفاقيات الدولية إنما أقرّت بالاستناد إلى المادّة 58 من الدستور (مشاريع قوانين معجّلة منفّذة بموجب مرسوم).
المرجعية الدستورية وآلية القرار بعد العام 1990
أدت التعديلات الدستورية الحاصلة بموجب القانون الدستوري رقم 18 تاريخ 21/9/1990 إلى تحويلات جذرية في صلاحية إبرام المعاهدات الدولية حيث نقلت هذه الصلاحية إلى مجلس الوزراء بالاستناد إلى المادّتين 52 و65 من الدستور، حيث ورد في المادّة 52: "..... ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء، .... أمّا المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلّق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب"، وفي كلتا الحالتين فإنّ صلاحية الإبرام هي لمجلس الوزراء، وفي المادّة 65 فإنّ الاتفاقات والمعاهدات الدولية هي من المواضيع الأساسية التي تحتاج إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدّد في مرسوم تشكيلها.
آلية اتخاذ القرار في مجلس الوزراء
بعد أن أصبح مجلس الوزراء هو الجهة المخوّلة دستورياً إبرام الاتفاقية لجعلها نافذة بحيث أنّ الإبرام يبقى واجباً من قبل مجلس الوزراء وفقًا لآلية المادّة 65 (5) من الدستور (هيئة التشريع والاستشارات، استشارة رقم 808/2013 تاريخ 21/10/2013, استشارة رقم 287/2013 تاريخ 21/03/2013، استشارة رقم 270/2013 تاريخ 19/03/2013)، وحيث أنّ الفقرة المذكورة من المادّة 65 قد حددت آلية اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء، فيستنتج من ذلك أنّ أداة إبرام الاتفاقية الدولية هي قرار صادر عن مجلس الوزراء. ولقد أقرّت هيئة التشريع والاستشارات بأنّ الإبرام يتمّ بموجب قرار يصدر عن مجلس الوزراء عندما أفتت بأنّ الاتفاقية تعتبر مبرمة بعد موافقة مجلس الوزراء الحاصلة بقراره رقم 69 تاريخ 1/10/ 1998 (استشارة رقم 170/1999 تاريخ 19/5/1999)، ثمّ أعادت مؤخّراً هذه الهيئة لتؤكّد بأنّه يعود لمجلس الوزراء وحده إبرام الاتفاقية عملاً بالمادّة 65 من الدستور (استشارة رقم 751/2025 تاريخ 28/8/2025)، إن صراحة المادّتين 52 و65 من الدستور التي تحدّد آلية الإبرام بأنها بموجب "قرار" يصدر عن مجلس الوزراء، وعليه لا موجب لصدور مرسوم عن رئيس الجمهورية يعلن بمقتضاه عن الاتفاقية الدولية التي أبرمها مجلس الوزراء، ولكن جرت العادة على أن تصدر الاتفاقيات الدولية بموجب مراسيم بعد موافقة مجلس الوزراء، وهذه العادة مع الاستقرار على استخدام هذه الآلية قد تحوّلت عرفاً دستورياً بمقتضاه تصدر الاتفاقيات الدولية التي أبرمها مجلس الوزراء بموجب مراسيم.
إنّ صلاحية مجلس الوزراء بإبرام المعاهدات أو الاتفاقيات الدولية هي صلاحية تشمل الاتفاقيات كافة، وهذا المجلس غير مقيّد إلا بموجب أخذ موافقة مجلس النواّب المسبقة قبل الإبرام في أنواع محدّدة من المعاهدات الدولية، حيث ورد في الفقرة الأخيرة من المادّة 52:" أمّا المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلّق بمالية الدولة والمعاهدات التجارية وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النوّاب".
إشكالية الموافقة النيابية: 'أجيز للحكومة' مقابل 'وافق المجلس'
إنّ النصّ الدستوري المذكور واضح في تعيين المطلوب من مجلس النواب وهو منح الموافقة المسبقة على إبرام الاتفاقية، إلا أنّ الحكومة عندما ترسل مشروع القانون إلى مجلس النوّاب فإنّها تضمّنه عبارة " أجيز للحكومة إبرام ..."، وقد أثيرت هذه المسألة في جلسة السابعة عشر للهيئة العامّة لمجلس النوّاب المنعقدة في 10 آذار 1953 فأدلى غسان تويني: الحقيقة أنّ النصّ الدستوري يقول: لا تُعدّ المعاهدات مبرمة إلا بعد موافقة المجلس عليها، ولهذا اقترح حميد فرنجية: تعديل المادّة الوحيدة كما يلي: وافق مجلس النواب على إبرام الخ... بدلاً من أجيز للحكومة...، وقد وافقت الهيئة العامّة على الاقتراح.
لذا، وفق النصّ، فإنّ الموافقة على الإبرام يفترض أن يحصل قبل الإبرام وليس بعده، وهذه المسألة كانت محلّ نقاش مجلس النوّاب في جلسته تاريخ 15/7/2010 عندما تقدّمت الحكومة بمشروع قانون يرمي إلى إجازة إبرام مذكرة تفاهم بين حكومة الجمهورية اللبنانية وحكومة الجمهورية التركية حول التعاون في مجال علم الأحراج الموقّعة في أنقرة بتاريخ 11/1/2010 اعتباراً من 27/2/2011 حيث أبدى رئيس المجلس: "عندما تكون المعاهدة لأكثر من سنة أنتم لا تستطيعون القول نحن نطبّق أوّلاً ومن ثم نُرسل، هذا لا يجوز، يجب أن ترسلوها في البداية ليصدّقها المجلس وبعد ذلك يبدأ التطبيق. هذه الاتفاقية لمدّة خمس سنوات نفذتم منها سنة ومن ثم قرّرتم إرسالها إلينا. هذه الطريقة فيها مخالفة دستورية وليست بحاجة لا لاجتهاد ولا لغيره، نتمنّى، وهذا الشيء نسجله في المحضر، بأن لا تتكرّر هذه القضية مرة أخرى".
عدم جواز التطبيق قبل الإبرام – الاجتهادات الحاسمة
تسنى لهيئة التشريع والاستشارات النظر في مسألة تطبيق الاتفاقية قبل موافقة مجلس النوّاب عليها: حيث صدر المرسوم رقم 10925 تاريخ 30 آب 1997 الذي استند الى الاتفاقية الموقّعة بين حكومة الجمهورية الايطالية وحكومة الجمهورية اللبنانية بتاريخ 26/7/1997 وملاحقها، ولم يتبيّن للهيئة أنّ مجلس النوّاب أجاز للحكومة إبرام الإتفاقية، وعليه رأى بأنّ المرسوم رقم 10925 قد صدر بتاريخ 30/8/1997 في حين أنّ مرسوم إحالة مشروع القانون الرامي إلى الإجازة للحكومة بإبرام الاتفاقية صدر بتاريخ 1/10/1997، وهذا يعني أنّ المرسوم بني على الاتفاقية قبل أن يجاز إبرامها ويتأتّى عن ذلك أنّ استناد المرسوم موضوع الطلب إلى الاتفاقية كان فاقدًا الأساس القانوني لأنّها لم تكن مبرمة حين صدوره (استشارة رقم 146/1999 تاريخ 13/5/1999).
سلطة الحكومة الاستنسابية في الإبرام
المجلس النيابي يوافق أو يأْذن للحكومة بإبرام المعاهدة، وإنّ دوره بموجب المادّة 52، وإن كان يُمارَس بشكل قانون يُصوِّت عليه، إلاَّ أنّه ليس إلاّ إجازة إبرام أو ترخيصاً ممنوحاً لرئيس الجمهورية ولاحقاً لمجلس الوزراء لممارسة صلاحيةٍ أو اختصاصٍ عَهِد الدستورُ به إليهما. وهذه الموافقة التي يُعطيها مجلس النواب لإبرام الاتفاق هي غير الإبرام الذي يبقى مستقلّاً عن الموافقة. ومن البديهي القول إنّ الإجازة للحكومة بإبرام الاتفاق لا تُقيِّدها بل تُطلق يدها وتترك لها الخيار بإبرام الاتفاق أو رفضه، وصلاحيتها تبقى استنسابية وخاضعة لتقديرها. فلو أنّ المجلس رفض منح الإجازة للحكومة بإبرام الاتفاق، لتعذَّر عليها إبرامه. أمّا إذا منحها هذه الإجازة، فإنّ صلاحيتها تصبح كاملة لجهة الإبرام أو عدم الإبرام. وحتّى لو كان الاتفاق ناجزاً ومُبرماً وفق الأصول، وشاءت الحكومة أن تنقُضَه أو تلغيه فلا يستدعي ذلك تدخُّل المجلس من جديد. حيث يعود للحكومة أن تمتنع عن الإبرام حتى بعد نيلها الإجازة التشريعية. وفِي هذا السياق، لا بدّ من الحديث عن اتفاق 17 أيار 1983 الذي وُقع بين لبنان والاحتلال الاسرائيلي بعد الاجتياح الذي شمل جزءًا كبيرًا من الأراضي اللبنانية في العام 1982 ومن بينها العاصمة بيروت، فقد أقرّ مجلس النوّاب آنذاك القانون المتعلّق بإجازة إبرام ذلك الاتفاق في 14/6/1983، وبتاريخ 20/6/1983 أحال رئيس مجلس النوّاب القانون إلى الحكومة ولكنّ رئيس الجمهورية في حينه لم يبرمه وبقي الاتفاق بالتالي مجرّدًا من أيّة قيمة قانونية ولم يدخل حيّز التنفيذ (القاضي ريتا كرم، دور المؤسّسات السياسية في الرقابة على دستورية المعاهدات الدولية، كلمة ألقيت في مؤتمر نظّمته جامعة الحكمة بتاريخ 26/10/2018).
الحالات التي تتطلب موافقة مجلس النواب المسبقة
بالعودة إلى نصّ المادّة 52 المذكورة أعلاه، فإنّ المعاهدات الخاضعة لموافقة مجلس النوّاب هي المعاهدات التي تتّصل بمالية الدولة كاتفاقيات القروض، المعاهدات التجارية على اختلاف أنواعها التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، كالاتفاقيات الجمركية والجوّية والمختصّة بالاتصالات، المعاهدات، مهما كانت، التي لا يجوز فسخها سنة فسنة؛ أي إذا ما كانت معقودة لمدّة تتجاوز السنة، وهو استثناء ينطوي على قيد لسلطة الحكومة (استشارة رقم 170/1999 تاريخ 19/5/1999)، فإذا كان مجلس الوزراء هو الجهة المخوّلة دستوريًا إبرام الاتفاقية لجعلها نافذة، إلا أنّه يقتضي من حيث المبدأ الاستحصال على موافقة مجلس النوّاب كلّما تعلّقت الاتفاقية بمالية الدولة (استشارة رقم 808/2013 تاريخ 21/10/201، والاستشارة رقم 239/1999 تاريخ 23/6/1999)، أو عندما لا يجوز فسخ المعاهدة سنة فسنـة (أو عند انقضاء كلّ سنة)، شرط أن يرد في نصّ الاتفاقية هذه المسألة صراحة، وقد رأت هيئة التشريع والاستشارات: أنّه إذا تبيّن وفقاً لنصّ المادّة 22 من الاتفاقية أنّه يجوز لكلّ دولة – عضو في المنظّمة – أن تفسخ المعاهدة وتنسحب من المنظّمة بعد سنتين من الإنضمام إليها، فإنّ هذه الاتفاقية لا يجوز فسخها سنة فسنة ولا يمكن للمرجع الدستوري الصالح إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النوّاب (استشارة رقم 103/2009 تاريخ 11/02/2009.)، أما إذا تضمّنت الاتفاقية أنّها تقبل النقض من جانب أيّ من طرفيه بموجب إشعار مسبق مدّته ستّة أشهر على الأقل من تاريخ انتهاء مدّته فإنّه لا يحتاج إلى موافقة مجلس النوّاب (استشارة رقم 170/1999 تاريخ 19/5/1999).
الآثار القانونية والسبل القضائية والوقائية
حين تصطدم الخريطة بنصّ القانون تتبدّى العواقب؛ هذا ما يعالجه هذا القسم. نرصد التباينات الموضوعية بين الاتفاقية ونصوص القانون 163/2011، ونبيّن الآثار القانونية المباشرة على الحقوق السيادية والموارد البحرية، ثم نعرض خارطة طريق قضائية وإجرائية قابلة للتنفيذ – من طلبات الوقف الاستعجالية إلى الطعون الدستورية والإدارية.
الأساس التشريعي لتعيين الحدود البحرية (قانون 163/2011)
وفق ما تقدّم في القسم الأوّل، ومن أجل اعتبار أنّ بإمكان الدولة فسخ الاتفاقية سنة فسنة، فإنّه يتوجب إمّا أن يرد في متن هذه الاتفاقية نصًا يجيز للدولة الانسحاب من هذه الاتفاقية، أو إذا كانت هذه الاتفاقية محدّدة المدة بسنة واحدة، وخارج هاتين الفرضيّتين فإنّ الاتفاقية تعتبر من الاتفاقيات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة إلا برضى كاّفة الأطراف، وعند تعذّر الاتفاق على حلّ مقبول من الجميع يُبحث عن تسوية الخلاف القائم بإحدى الطرق المقررة لحلّ المنازعات الدولية حلًّا سلميًا.
تحليل المواد الجوهرية في القانون 163/2011
بالعودة إلى مشروع الاتفاقية مع الجانب القبرصي حول ملف ترسيم الحدود البحرية اللبنانية القبرصية الذي أبرمه مجلس الوزراء بموجب قراره رقم 22 تاريخ 23/10/2025 فلا يتبيّن من نصّ مشروع الاتفاق أنّه تضمّن نصًّا حول جواز فسخه سنة فسنة؛ بل على العكس فإنّه نصّ على تسوية المنازعة بروح التعاون والتفاهم وفي حال عدم التوصّل إلى حلّ يصار إلى اللجوء إلى التحكيم. وعليه تكون هذه الاتفاقية تخضع لموافقة مجلس النوّاب المسبقة على الإبرام، وأن الإبرام الحاصل قبل موافقة مجلس النوّاب لا قيمة قانونية له وفق ما بيّناه أعلاه.
آليات الإيداع لدى الأمم المتحدة ومتطلبات التنفيذ المحلّي
لقد حاول البعض الايهام بأن مجلس النوّاب قد أعطى موافقته للحكومة بإجراء الترسيم بالاستناد إلى التفويض الصادر بموجب القانون رقم 163 تاريخ 18/8/2011 الرامي إلى تحديد وإعلان الـمناطق البحرية للجمهورية اللبنانية، وما يترتّب على ذلك من مفاعيل لناحية الاكتفاء بهذا التفويض والاستغناء عن الموافقة على إبرام الاتفاقية كما أفتت بذلك سابقًا هيئة التشريع والاستشارات التي تعتبر أنّ وجود إجازة تشريعية بعقد الاتفاقية تؤدي إلى القول بعدم توجب اصدار قانون إجازة بالإبرام (استشارة رقم 287/2013 تاريخ 21/03/2013).
تحليل نقاط الاختلاف الفعلية
لكن عبر التدقيق في أحكام هذا القانون تبيّن ليس فقط غياب التفويض التشريعي بإبرام الاتفاقية؛ بل على العكس تبيّن أنّ الاتفاقية قد خالفت القانون مخالفات جوهرية صارخة وسارت على عكس الغاية التي أرادها المشترع من هذا القانون الذي أنشأ بإرادة الدولة اللبنانية المنفردة للحدود البحرية للجرف القاري وللمنطقة الاقتصادية الخالصة وذلك بموجب المادّتين السادسة والثامنة منه، وأوجب على الحكومة إيداع الأمانة العامة للأمم الـمتحدة الإعلانات اللازمة (المادّة 16) ثمّ في المادّة 17 المذكورة أجاز للحكومة تعيين هذه الحدود للمناطق البحرية المختلفة، ولا يتضمّن هذا التفويض أي إشارة إلى التفاوض مع الجهات الدولية، بل على العكس فإنّ هذا القانون يشكّل مانعًا للحكومة بالتفاوض حول مسائل حسمها مجلس النوّاب، ولا يمكنها تحدّي الإرادة النيابية والتقرير في هذه المسائل دون الرجوع إلى المجلس مع تبريرات جدّية تراها واجبة الاعتماد ومن ثمّ الطلب من مجلس النوّاب تعديل موقفه من مسألة تعيين حدود المناطق البحرية، وإلا تكون الحكومة قد خرقت مبدأ فصل السلطات وتعدّت على صلاحية مجلس النوّاب من خلال تعديل قانون صادر عنه بموجب اتفاقية مخالفة للقانون لم يوافق مجلس النوّاب على إبرامها.
معيار الامتداد الطبيعي (natural prolongation) مقابل مبدأ التساوي في المسافات
على فرض أن المشترع فوّض الحكومة إبرام اتفاقيات دولية تنفيذية لهذا القانون، فإنّ الحكومة لا تستطيع أن تأخذ من هذا القانون المادّة 17 وتعتبرها تفويضاً لإبرام اتفاقية دولية وتتجاهل كلّ مواد القانون وتخرقها ولا تلتزم بها، وأبرز المخالفات الواردة في الاتفاقية للقانون 163/2011 هي التالية:
مخالفة للمادّة 1: الإخلال بمعايير اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) ومبدأ الإنصاف. الاتفاقية اعتمدت مبدأ التساوي في المسافات كقاعدة حاسمة من دون إجراء اختبارات "الظروف الخاصّة" أو اختبارات "عدم التناسب" (Equidistance–Adjustment–Disproportionality) المقتضاة بمضمون المادّة 1 والقواعد المنبثقة عن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، فجرى تبسيط منهج الترسيم إلى أسلوب هندسي بحت مغفول عنه عناصر الإنصاف القانونية والتكييف الفنّي.
مخالفة للمادّة 2: عدم اعتماد خطّ الأساس اللبناني الرسمي. الاتفاقية لم تأخذ خطّ الأساس المعتمد بموجب القانون (منتصف مصبّ النهر الكبير شمالاً حتى نقطة انطلاق خطّ الهدنة جنوبًا) كنقطة انطلاق للقياسات، بل استندت إلى نقاط أساس/إسقاط خارجية (نقاط قبرصية/إسقاط 2007)، ما يجعل كلّ حسابات الترسيم مبنيّة على مرجع جغرافي وفنّي غير معتمد وفق النصّ القانوني.
مخالفة للمادّة 6: تجاوُز الترسيم ثلاثي الأطراف المقرّر قانونًا. نصّ المادة 6 يفرض احتساب نقاط تساوي ثلاثية الأطراف حيث يقتضي الوضع، إلا أنّ الاتفاقية نفّذت ترسيمًا ثنائيًا مع قبرص متجاهلة الحاجة لاحتساب نقاط التساوي مع سوريا شمالًا ومع "قضية" الجنوب (لبنان–قبرص–فلسطين المحتلة) جنوبًا، فحُولت قاعدة ثلاثية الأطراف إلى عملية ثنائية أحادية الأثر.
مخالفة للمادّة 7: تقليص الحقوق السيادية والتنازل عن امتداد الجرف القارّي. الاتفاقية أسفرت عن تخصيص مساحات من الامتداد الطبيعي لجرف لبنان القارّي لمصلحة قبرص، وبحسب تقديرات فنّية أوّلية تمثّل هذه المساحات تفريطًا ملموسًا (تقديرات مبدئية تفوق 2000 كم² على امتداد المنحدر القارّي)، وهذا التخصيص يتناقض مع مطلب المادّة 7 بحماية الحقوق السيادية وعدم الانتقاص منها.
مخالفة للمادّة 8: إهمال معيار الامتداد الطبيعي والمرجعية الجيولوجية. بدل تحليل الامتداد الطبيعي (natural prolongation) استندت الاتفاقية إلى قاعدة التساوي فقط، متجاهلة البنى الجيولوجية والجيومورفولوجية التي تحدّد امتداد الجرف القارّي؛ غياب تحليل جيولوجي/ جيومورفولوجي أو اختبارات فنّية في الوثائق المصاحبة يعني إخلالًا صريحًا بمضمـون المادّة 8.
مخالفة للمادّة 17: قصور المرسوم التنفيذي وغياب المسوّغات الفنّية. المراسيم والإجراءات المصاحبة لم تبيّن كيفية تطبيق المادّة 6 أو كيفية اعتماد خطّ الأساس اللبناني أو إجراء اختبارات الظروف الخاصّة أو الحسابات الثلاثية، ولا تستند إلى مسح لبناني رسمي أو تقرير فنّي مبرّر، ما يجعل التنفيذ شاذًّا عن المتطلّبات الشكلية والموضوعية التي تفرضها المادّة 17.
الخلاصة الموجزة المترتبة عن هذه المخالفات: الاختلال المتزامن في تطبيق المواد 1 و2 و6 و7 و8 و17 لا يشكّل مجرد تباين منهجي بل إخلالًا جوهريًا بالإطار القانوني والتقني الذي حدّده قانون 163/2011؛ وخطورة ذلك في حال التنفّذ تكمن في فقدان الحماية القانونية لحقوق لبنان في المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القارّي وفتح الباب للطعن القانوني والبناء على عدم مشروعية الإبرام أو المرسوم التنفيذي.
نطاق الرقابة القضائية وسبل المساءلة: المجلس الدستوري وشورى الدولة
لذا، فإنّ صدور مرسوم إبرام الاتفاقية مع الجانب القبرصي حول ملف ترسيم الحدود البحرية اللبنانية القبرصية، يكون وفقاً لما تقدّم مشوبًا بعيوبٍ دستورية وقانونية جسيمة إضافة إلى تكريسه نهجًا جديدًا قائمًا على استبعاد مجلس النوّاب عن ممارسة صلاحيته بالموافقة على الإبرام خلافًا لما كان يعتمده قبل العام 1990، وهذا ما يجعل من الاتفاقية المذكورة قابلةً للطعن سواءً أمام المجلس الدستوري باعتبار أنّ هذه الاتفاقية هي نصّ له قوّة القانون، والسبب أنه سبق أن أعلن هذا المجلس صلاحيته للنظر بالطعن بالمرسوم رقم 56/2025 تاريخ 11/3/2025 والرامي إلى اعتبار مشروع موازنة العام 2025 مرعيًا ومعمولًا به، حيث قضى المجلس الدستوري بإعلان صلاحيته للنظر في هذا الطعن مستنداً بذلك إلى المادّة الأولى من قانون إنشائه رقم 250 الصادر بتاريخ 14/7/1993 التي تنصّ على ما يلي: "تنفيذاً لأحكام المادّة 19 من الدستور يُنشأ مجلس يُسمى المجلس الدستوري مهمّته مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوّة القانون" (المجلس الدستوري قرار رقم 3/2025 تاريخ: 2/5/2025)، أو أمام مجلس شورى الدولة بالقياس على اجتهاده القاضي بقبول الطعن بمرسوم إعادة قانون إلى مجلس النوّاب لإعادة النظر به، معلّلًا أنّ الاجتهاد يعمل جاهداً على التضييق من نطاق الأعمال الحكومية كونها تشكّل خرقاً لمبدأ المشروعية وذهب إلى التأكيد على صلاحية مجلس شورى الدولة في التحقّق من وجود العمل الحكومي المشكو منه، حيث أنّ هذا التحقّق يستدعي مراقبة الإجراءات والأصول الشكلية المعتمدة في إصداره وبخاصّة صلاحية مصدره كما وعدم تجاوزه بشكلٍ ساطع أحكام القانون، إذ في حال تبيّن له أنّ التدبير صادرٌ بجلاء عن سلطة غير صالحة أو مخالف بشكلٍ فاضح لأحكام القانون فأخرجه من نظام "حصانة المقاضاة" وأنزله الى رتبة العمل الإداري الخاضع للمراقبة القضائية من حيث المشروعية الداخلية أو الخارجية (مجلس شورى الدولة قرار رقم 468 / 2024-2025 تـاريخ 12/8/2025 نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجّرة وسليم سبع شهاب ورفاقه/الدولة – رئاسة مجلس الوزراء).
عبر ما تقدّم، يمكن القول إنّ الإشكالية التي أثيرت حول هذه الاتفاقية فتحت الباب لنقاش جديّ حول المادّة 52 من الدستور، والتي تحتاج إلى تدخّل اجتهادي لتفسير معنى "الإبرام" ودور مجلس النوّاب في منح الموافقة.
وهل يمكن، في ظلّ النظام السياسي الراهن، أن يستمرَّ السير في نهج استبعاد مجلس النوّاب عن إبرام المعاهدات الدولية إلى حدٍّ نصل فيه إلى اعتبار أنّ اتفاقية "سلام" قد تُبرم مع دولة معادية - والمذكورة في المادّة 65 من الدستور تحت عنوان «الحرب والسلم» - أو أن يُتخلَّى عن أراضٍ ومزارع وعقارات لبنانية عند إظهار أو ترسيم حدودٍ برّية، من دون موافقة مجلس النوّاب، وهو أمر تحظره صراحة المادة الثالثة من الدستور التي تنص أنه:" لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه".
عصام نعمة إسماعيل - المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|