مُدن تحت سوريا.. هكذا غيّرت مجرى الحرب والسلطة

كتب موقع العربي:

لم تبقَ الحرب في سوريا حبيسة ما يجري على سطح الأرض؛ فمع السنوات، تبيّن أن تحت المدن مدنًا أخرى، بل شبكة من الأنفاق والممرات السرية نسجتها الأطراف المتحاربة بعيدًا عن الضوء.

كُشف جزء من هذا العالم السفلي عبر الصور والتقارير وشهادات المقاتلين، بينما لا يزال الجزء الأكبر مطمورًا في باطن الأرض وفي ذاكرة من حفروه.

ومن القواعد شبه الثابتة في عالم الأنفاق أن اكتشافها يأتي متأخرًا، بعد أن تكون قد أدّت مهمتها أو فقدت الغرض من وجودها.

فصائل متعدّدة.. وأنفاق لأغراض متباينة
برزت الأنفاق في سوريا بصورة جليّة بعد اندلاع الثورة في مارس عام 2011، وتحديدًا بعد تحوّلها إلى صراع مسلّح، حين استُخدمت عمليات الحفر كتكتيك متعدّد الاستخدامات والأغراض. ورغم ارتباط هذا التكتيك في الوعي العام بفصائل المعارضة، فإنّ جميع الأطراف لجأت إليه بدرجات متفاوتة ولأهداف متباينة.

فقد اعتمدت على حفر الأنفاق كلٌّ من "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وقوات نظام الأسد والفصائل الشيعية المرتبطة به، لا سيما "حزب الله"، إضافة إلى "تنظيم الدولة"، وفصائل المعارضة المسلّحة بطبيعة الحال، وبصورة بارزة من قبل "جيش الإسلام" و"هيئة تحرير الشام".

ويتفاوت حجم استخدام هذه الأنفاق كما تتباين أغراضها؛ فبعضها حُفر لنسف أهداف عسكرية، وبعضها خُصّص للتخفّي ونقل الأسلحة والذخائر والعناصر بعيدًا عن الأعين البشرية ووسائل الرصد التقنية. وأنشئ جزء منها لغايات إنسانية تمثّلت في فكّ الحصار وإدخال المواد الغذائية والأدوية، واستُغلّت لأغراض التهريب والتجارة المشروعة وغير المشروعة، فيما اتُّخذت أنفاق بعينها كاستراتيجية أمنية لحماية القادة العسكريين والشخصيات الرفيعة.

ولم تُكتشف الأنفاق على مدى السنوات الماضية بصورة كاملة إلا عندما فقد الطرف المسيطر نفوذه على المنطقة أو حقّق الغرض المطلوب من النفق. هكذا، لم تبرز أنفاق "جيش الإسلام" إلى الإعلام إلا بعد سيطرة نظام الأسد على الغوطة الشرقية؛ ولم يُكشف عن أنفاق مدينة منبج إلا بعد فقدان "قسد" سيطرتها عليها؛ ولم يُعرف بأنفاق نظام الأسد الواقعة تحت القصر الرئاسي إلا بعد سقوطه؛ ولم يُعلم بنفق "الجبهة الإسلامية" الممتد إلى ثكنة للنظام داخل فندق في مدينة حلب إلا لحظة تفجيره.

فماذا نعرف فعليًا عن كلّ هذه الأنفاق؟

فصائل المعارضة.. الأنفاق الأكثر إتقانًا

اعتمدت فصائل المُعارضة المُسلّحة على نوعين من الأنفاق بشكل رئيسي:

الأنفاق المؤقتة الهجومية المستخدمة لاستهداف ثكنة عسكرية أو التسلل إليها، حيث برزت بشكل واضح في مدينة حلب، وألحقت خسائر كبيرة في صفوف قوات نظام الأسد؛
الأنفاق الدائمة الدفاعية المُستخدمة لأغراض عسكرية بعيدًا عن رصد طيران النظام وحليفه الروسي ولكسر حصار نظام الأسد عن المناطق الخارجة عن سيطرته عبر تزويد سكانها بما يُبقيهم على قيد الحياة، حيث برزت بشكل جليّ في ريف دمشق، وتحديدًا بالغوطة الشرقية.
وتتميّز أنفاق المعارضة السورية بأنها على درجة عالية من الإتقان، ومصمّمة وفق هندسة متكاملة، وهذا ما شهده العالم عند ظهور صور أنفاق مدينة دوما في الغوطة الشرقية إلى العلن للمرة الأولى عام 2018، بعد سيطرة النظام السوري السابق على المنطقة.

الأنفاق المؤقتة الهجومية
بالنسبة إلى النوع الأول من الأنفاق، فإنّ من أبرز الأمثلة على استخدامه تفجير مقاتلي المعارضة نفقًا تحت فندق "كارلتون حلب"في 8 أيار عام 2014، بعدما تحوّل إلى ثكنة عسكرية لقوات النظام، ما أدى إلى مقتل عشرات العناصر وتدمير الفندق.

ولم تمضِ سوى أيام على هذا التفجير حتى أقدمت فصائل المعارضة على تفجير نفق آخر قرب سوق الزهراوي في حلب القديمة في 31أيار من العام نفسه، ما أدى إلى مقتل عشرات العناصر من قوات النظام.

ولا بد هنا من ذكر تفجير مبنى البريد في منطقة باب جنين وسط مدينة حلب، بعد حفر نفق تحته وتفخيخه في 21 تموز 2016، ما أسفر عن مقتل نحو 35 عنصرًا من قوات الحرس الجمهوري التابع لنظام الأسد.

هذه الحوادث ليست سوى نماذج من سلسلة طويلة من تفجيرات الأنفاق التي نفّذتها فصائل المعارضة في مدينة حلب على مدار سنوات.

لكن الأمر لم يقتصر على حلب وحدها؛ فقد شهدت محافظات ريف دمشق وإدلب ودرعا تفجيرات أنفاق مماثلة؛ من بينها تفجير نفق على أطراف الغوطة الشرقية في 25 تشرين الأول عام 2017، ما أدى إلى مقتل 15 عنصرًا من قوات النظام؛ وتفجير نفق قرب بلدة الفوعة في 10 آب عام 2015، ما تسبب في مقتل وجرح عدد من العناصر؛ وتفجير نفق تحت حاجز في درعا المحطة في 12 أيار عام 2014، ما أدى إلى نسفه وتحوله إلى ركام.

غير أن تكتيك الأنفاق لم يكن دائمًا في صالح المعارضة، حتى إنه انقلب عليها في حالات عدّة؛ ففي الثالث من أيلول عام 2017 فجّرت قوات نظام الأسد نفقًا يعود لأحد الفصائل في دمشق، ما أدّى إلى مقتل عدد من مقاتلي المعارضة.

الأنفاق الدائمة الدفاعية
تُعدّ محافظة ريف دمشق المثال الأبرز على هذا النوع من الأنفاق؛ إذ أنشأت فصائل المعارضة المسلحة هناك شبكة أنفاق ضخمة تصلها بالعاصمة دمشق، ويتفرّع منها أنفاق رئيسة وفرعية تربط بين مدن المحافظة وبلداتها، وتتّسع للمشاة والدراجات النارية والسيارات، وتمتد لعشرات الكيلومترات.

وقد زُوِّدت هذه الشبكات بالكهرباء والإنارة، وعُزِّزت بالجدران والأرصفة والألواح المعدنية لحمايتها من الضربات الجوية. واستُخدمت لإدخال المواد الغذائية وتهريب السلاح وعلاج الجرحى والتنقّل بين المناطق بعيدًا عن أعين الطيران، وغيرها من المهام الحيوية.

لم تبقَ الحرب في سوريا حبيسة ما يجري على سطح الأرض؛ فمع السنوات، تبيّن أن تحت المدن مدنًا أخرى، بل شبكة من الأنفاق والممرات السرية نسجتها الأطراف المتحاربة بعيدًا عن الضوء.
وتجاوز حضور هذه الأنفاق ريف دمشق إلى محافظات أخرى؛ إذ لجأت فصائل المعارضة إلى أسلوب مشابه في إدلب وحماة أيضًا.

قسد.. الحفر باقٍ ويتمدد
على خلاف فصائل المعارضة التي كان هاجسها الرئيس طيران النظام وحليفه الروسي، جاء اعتماد "قوات سوريا الديمقراطية" على الأنفاق في سياق مختلف؛ إذ تمثّل الدافع الأبرز في الخشية من الهجمات الجوية التركية، بالنظر إلى أن أنقرة تعدّ نشاطاتها تهديدًا لأمنها القومي.

غير أن أسلوب الحفر لدى "قسد" لا يبدو دائمًا محكَمًا أو مدروسًا؛ وهذا ما تعكسه الأخبار المتكررة عن انهيار أنفاق تسببت في مقتل عمّال يعملون فيها، ودفعها ذلك إلى تقديم أجور مرتفعة نسبيًا لاستقطاب مزيد من العمّال، وسط مخاوف وتحذيرات يطلقها الأهالي من تعرّض منازلهم وشوارعهم وأحيائهم لخطر الانهيار بسبب الحفر العشوائي.

استخدمت "قسد" تكتيك الأنفاق في مدن تل رفعت ومنبج وعفرين بريف حلب خلال فترة سيطرتها عليها؛ إذ اكتشفت فصائل المعارضة عند سيطرتها مؤخرًا على تل رفعتلانفقًا بطول 10 كيلومترات، كما عُثر في مدينة منبج على شبكة أنفاق تابعة لـ"قسد" تحت منشآت عامة. أما في عفرين فقد تم عام 2018 اكتشاف مقرّ تحت الأرض يتّسع لنحو ألف مقاتل.

وفي الرقة، تمتد شبكة أنفاق أخرى لـ"قسد" تحت أحياء عدّة مثل شارع المنصور وحي الفردوس وحارة الحسون وسيف الدولة، ما يثير قلق السكان من احتمال وقوع كارثة تهدّد حياتهم ومساكنهم.

المشهد لا يختلف كثيرًا في دير الزور، حيث تمرّ أنفاق تحت منازل المدنيين في الجزء الخاضع لسيطرة "قسد"، فتجعل البيوت مهدَّدة بالتصدّع والانهيار في أي لحظة.

وخلال الأعوام الماضية، عملت "قسد" على توسيع شبكة الأنفاق في مدن القامشلي وعامودا والدرباسية في محافظة الحسكة، لتصبح هذه المناطق بدورها جزءًا من خريطة العالم السفلي الذي نسجته في شمال شرقي سوريا.

نظام الأسد.. أنفاق لـ "آل الأسد"
لم يُعرف عن نظام الأسد اعتماد واسع على الأنفاق القتالية متعددة الأغراض كما في حالة المعارضة و"قسد" و"تنظيم الدولة"، مستفيدًا من تفوّقه الجوّي. في المقابل، برز نوع آخر من الأنفاق اتّسم في الغالب بطابع أمني بحت، ومخصّص لعدد محدود من الشخصيات.
بعد إسقاط نظام بشار الأسد، عثرت فصائل المعارضة المسلّحة على شبكة أنفاق واسعة تربط القصر الرئاسي بمقر الحرس الجمهوري في دمشق، كما اكتُشف نفق سري أسفل منزل ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام السابق.

ورغم أنّ نظام الأسد لم يعتمد على الأنفاق العسكرية متعدّدة الأغراض بصورة مماثلة لما فعلته فصائل المعارضة و"قسد" و"تنظيم الدولة"، فإنه لجأ إلى هذا الأسلوب في خالات معيّنة.

وقد شكّلت مدينة داريا في ريف دمشق إحدى أبرز ساحات "حرب الأنفاق" تلك؛ فبعد فشل قوات النظام في اقتحامها، لجأ إلى الحفر تحت الأرض، غير أن فصائل المعارضة كانت تتوقّع هذه الخطوة، فحفرت أنفاقًا مضادة، واكتشفت عددًا كبيرًا من أنفاقه، وانتهى الأمر بأسر عناصر وقتل آخرين، ثم تفجير الأنفاق المكتشفة.

نمط آخر استخدمه النظام هو الأنفاق المخصّصة للاعتقال والاحتجاز، من بينها ما كُشف عنه مؤخرًا في أراضي قرية البويضة بريف حمص الشرقي.

إلى جانب قوات النظام، قاتلت فصائل شيعية أتت من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها، وهو ما استدعى إنشاء أنفاق عابرة للحدود لضمان التنقّل بين الدول بعيدًا عن المعابر الرسمية وتهريب الأسلحة والذخائر.
انتشرت الأنفاق على الحدود بين سوريا ولبنان من جهة، وبين سوريا والعراق من جهة أخرى، في محاولة لتفادي أعين المراقبة الأميركية والإسرائيلية بالدرجة الأولى.

ومن الأمثلة على ذلك تدمير نفق في مدينة البوكمال بمحافظة دير الزور قبل أشهر؛ إذ كان يصل الأراضي السورية بالعراقية، وتستخدمه الفصائل التابعة لإيران لتهريب السلاح والمخدرات.

في الرقة ودير الزور والحسكة، لم تعد الأنفاق مجرّد تكتيك عسكري، بل مصدر قلق يومي للسكان الذين يخشون أن يبتلعهم الفراغ المحفور تحت بيوتهم..

اعتمد "تنظيم الدولة" على الأنفاق في مناطق سيطرته بوصفها جزءًا من استراتيجيته القتالية، في ظلّ مراقبة تحرّكاته من أكثر من طرف: نظام الأسد، "قسد" المدعومة من التحالف الدولي، وفصائل المعارضة المدعومة من تركيا.
رغم أن سياسة الأنفاق كانت أكثر وضوحًا في العراق منها في سوريا، فإن المدن السورية لم تخلُ من حضور هذا الأسلوب. ففي مدينة الباب بريف حلب، استغل التنظيم شبكات المياه والأنفاق لأغراض عسكرية، كما أنشأ في الرقة شبكة أنفاق ساعدته على الصمود والتراجع المنظّم، وفي محافظة دير الزور، وتحديدًا في بلدة الباغوز، قاتل حتى اللحظات الأخيرة مستفيدًا من شبكة الأنفاق والكهوف.

ومن شمال سوريا وشرقها إلى جنوبها، لجأ التنظيم إلى الأنفاق في دمشق أيضًا؛ ففي عام 2016 عثرت فصائل المعارضة على نفق طوله 50 مترًا يمتدّ من منطقة سيطرة التنظيم في الحجر الأسود جنوب دمشق إلى حي متاخم في بلدة يلدا بريف دمشق، فقامت بتفجيره. وبعد نحو عام ونصف، فجّرت نفقًا آخر بطول 350 مترًا في المنطقة ذاتها

ولم يقتصر انتشار أنفاق التنظيم على المناطق السكنية؛ ففي البادية السورية حفر مقرات وأنفاقًا لاستخدامها في التخفي وتخزين الأسلحة والمواد المتفجّرة.