الصحافة

عقيدة ترامب: أضرب واعقد الصفقات

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

حدّدت استراتيجية الأمن القومي الأميركية 2025 الصادرة عن البيت الأبيض، إطار عمل "أميركا أولًا" كأولوية قصوى. أساسًا يربط الأمن القومي الأميركي ببقاء الولايات المتحدة كجمهورية ذات سيادة، وحماية حدودها، وإعادة بناء قوتها الصناعية والتكنولوجية والعسكرية. ورفضت الاستراتيجية طموحات ما بعد الحرب الباردة في الهيمنة العالمية والأممية الليبرالية التوسعية، وضيّقت السياسة الخارجية الأميركية لتقتصر على الدفاع عن المصالح الجوهرية في عالم تتنافس فيه الدول القومية، مشدّدة على السلام من خلال القوة، والقومية الاقتصادية، ووقف الهجرة الجماعية، ونقل الأعباء العدوانية إلى الحلفاء. وفعّلت الاستراتيجية هذا النهج عبر المناطق من خلال ما يُشبه "عقيدة مونرو" الذي تبناه الرئيس دونالد ترامب في نصف الكرة الغربي، والمنافسة الاستراتيجية الحادة مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والضغط على أوروبا لتولي مسؤوليات الدفاع الرئيسية، ووجود أخف ولكنه مركّز على الأمن في الشرق الأوسط، وتحوّل في أفريقيا من المساعدات إلى شراكات قائمة على الموارد والتجارة.

ومثلت هذه الاستراتيجية إعادة توجيه جذرية لكيفية تصوّر واشنطن لمكانتها في الشرق الأوسط. ففي ظل رؤية الرئيس ترامب لولايته الثانية، أُعيد تشكيل المنطقة - التي كانت في السابق مركز ثقل السياسة الخارجية الأميركية - كمسرح لتراجع الأهمية الاستراتيجية، ومنطقة ينبغي نقل الأعباء منها وإعادة توازن الشراكات. ويُجسد فصل الوثيقة، المعنون "نقل الأعباء، بناء السلام"، رؤية عالمية لم يعد الشرق الأوسط يحظى فيها باهتمام أميركيّ غير متناسب، بل أعيدت صياغته كساحة ناضجة تعمل فيها القوة الأميركية من خلال النفوذ، لا من خلال الوجود.

هذا ليس تحولًا نحو الانعزالية بقدر ما هو تضييق متعمّد لأهداف الولايات المتحدة. تفترض الاستراتيجية أن الشرق الأوسط لم يعد يُمثل نقطة التقاء التهديدات العالمية التي ميّزت حقبة الحرب الباردة وفترة ما بعد 11 أيلول. ويرتكز هذا المنطق على افتراضين: أولًا، أن استقلال الطاقة قد قوّض الأهمية التقليدية للمنطقة بالنسبة إلى أمن الولايات المتحدة. ثانيًا، أن البيئة الجيوسياسية قد تطورت من منافسة بين القوى العظمى إلى "مناورات بين القوى العظمى" أكثر مرونة، حيث يمكن إدارة المصالح الأميركية من خلال الدبلوماسية والتفويض.

في هذا الإطار، تُصبح سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط نتيجة لتغيير هيكلي وتأكيدًا على الاتساق الأيديولوجي. بإخراج الشرق الأوسط من أعلى سلم الأولويات الاستراتيجية الأميركية، تشير الإدارة إلى أن عصر التوسع العسكري المفرط لأميركا قد ولّى. ومع ذلك، تسعى الإدارة، بالتوازي مع ذلك، إلى ترسيخ نفوذها من خلال الدبلوماسية التبادلية، والهيمنة على قطاع الطاقة، والروابط الاقتصادية الجديدة.

من التدخل إلى التعامل

تجسّد الأفعال الإجرائية في قسم الشرق الأوسط من الاستراتيجية - "التغيير"، "التشجيع"، "الشراكة"، "الاستثمار" - إيمان الإدارة بالكفاءة على حساب المشاركة. وخلافًا للاستراتيجيات السابقة التي تراوحت بين تعزيز الديمقراطية ومكافحة التمرّد، يُعلي هذا النهج من شأن الاستقرار والتوافق فوق الإصلاح. ويُحتفى بالأنظمة الملكية الخليجية وشركاء الولايات المتحدة التقليديين كحلفاء براغماتيين "يكافحون التطرّف". وتنتقد الاستراتيجية صراحة ما تسميه "تجربة واشنطن المُضلّلة" في إلقاء المحاضرات على دول المنطقة حول الحوكمة، واصفة جهود تعزيز الديمقراطية السابقة بالسذاجة وعدم الجدوى.

يُمثل هذا قطيعة بلاغية حاسمة مع الأممية الليبرالية، التي شكّلت المشاركة الأميركية منذ التسعينات وحتى رئاسة أوباما. تتبنى استراتيجية الأمن القومي قراءة واقعية للمنطقة دون أي اعتذار: قبول حكومات الشرق الأوسط "كما هي"، وتنمية التعاون القائم على التعامل، وتجنب فخ الطموح المعياري normative ambition. تذكّر هذه اللغة بروح التفويض في "عقيدة نيكسون"، أي تمكين الشركاء المحلّيين من تحمّل الأعباء العسكرية والسياسية، بينما تقدّم الولايات المتحدة الدعم الاستراتيجي والتدخل الانتقائي.

لكن هذا التحوّل الترامبي يُضيف ركيزتين جديدتين. أولًا، يُصنف الشرق الأوسط ضمن تسلسل هرمي لنقل الأعباء بين المناطق، بما يتماشى مع الفكرة الأوسع لاستراتيجية الأمن القومي، والتي تلزم الحلفاء "بتحمّل المسؤولية الرئيسية عن مناطقهم". ثانيًا، لا ينظر إلى الشرق الأوسط كمسؤولية أمنية، بل كفرصة اقتصادية وتكنولوجية ناشئة. تتوخى الوثيقة شراكات في الطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الدفاع، وهي مجالات مرتبطة بقومية ترامب الصناعية والاقتصادية. بمعنى آخر، لم تعد المنطقة مشكلة يجب إدارتها، بل سوقًا يجب تنميتها.

محورا إيران وإسرائيل

تُصوّر الاستراتيجية إيران - "القوة الرئيسية المزعزعة للاستقرار في المنطقة" - على أنها ضعيفة وتم ردعها، لافتة إلى ضربات إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 و"عملية مطرقة منتصف الليل" التي قادتها الولايات المتحدة في حزيران 2025. يخدم هذا التأطير المُتباهى به غرضين. أميركيًا، يُصادق على رواية الإدارة حول التراجع القسري من دون تورّط طويل الأمد. جيوسياسيًا، يُبرّر تقليص الوجود الأميركي بادعاء النجاح من خلال عمل عسكري حاسم وقصير الأمد. تشير الوثيقة إلى أن تراجع تهديد إيران يسمح لواشنطن بالتراجع عن صراعات الشرق الأوسط الطاحنة من دون تعريض مصالحها الأساسية للخطر.

في ما يتعلّق بإسرائيل، تُعزز استراتيجية الأمن القومي "العلاقة الخاصة" الراسخة، مع إعادة صياغتها كجزء من هيكل تطبيع أوسع. تتبنى إدارة ترامب مسؤولية التقارب العربي - الإسرائيلي المستمر - "قدرة الرئيس ترامب على توحيد العالم العربي في شرم الشيخ" - وتستخدمه كدليل على أن الدبلوماسية من خلال إبرام الصفقات الشخصية يمكن أن تحل محل الإدارة الأميركية. لا يُنظر إلى توسيع "اتفاقات أبراهام" على أنها مجرّد عملية سلام، بل كآلية استراتيجية لنقل مسؤوليات الأمن الإقليمي إلى كتلة متحالفة مع الولايات المتحدة تضمّ إسرائيل والدول العربية السنية. أعيدت صياغة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، الذي كان في السابق جوهر الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط، بشكل ملحوظ. يُعترف بـ "شائكيته" فقط للإعلان عن أنه قد تم نزع فتيله إلى حد كبير من خلال وقف إطلاق النار الذي أعلنه ترامب هذا العام ومفاوضات إعادة الرهائن. يعكس هذا الإعلان عن الحل، تشخيصًا سياسيًا، وليس تحليليًا: الصراع لا يزال قائمًا، ولكنه لم يعد، في إطار رؤية استراتيجية الأمن القومي، عائقًا أمام السلام الأوسع. إن إغفال أي إشارة إلى حل الدولتين يؤكد التحوّل نحو إدارة النتائج من خلال النظام والردع، وليس من خلال التحول السياسي.

نهاية "الحروب الأبدية"

لعلّ الرسالة الأكثر أهمية هي الإعلان الصريح أن "الأيام التي هيمن فيها الشرق الأوسط على السياسة الخارجية الأميركية... قد ولّت لحسن الحظ". تنسب الوثيقة إلى ترامب إنهاء "عقود من حروب بناء الدول غير المثمرة"، ما يشير إلى تشكك دائم تجاه عمليات الانتشار واسعة النطاق. ومع ذلك، فإن الانسحاب هنا لا يُعادل فك الارتباط. تحافظ استراتيجية الأمن القومي على "المصالح الجوهرية" للولايات المتحدة في الخليج - حرية الملاحة عبر مضيق هرمز والبحر الأحمر، ومنع هيمنة الخصوم على الطاقة، ومكافحة الإرهاب - لكنها تُعيد تعريف كيفية تأمين هذه المصالح: "أيديولوجيًا وعسكريًا"، ولكن ليس من خلال حروب برية متواصلة.

في جوهرها، تحتفظ واشنطن بالقدرة على "الإكراه الانتقائي" مع التخلّي عن الالتزام بإعادة الإعمار أو الحوكمة. وهذا يعكس فلسفة ترامب الأوسع المتمثلة في "السلام من خلال القوة" - وهي موقف من الجاهزية الرادعة المقترنة بضبط النفس العملياتي. يقدّم فصل الشرق الأوسط أوضح تعبير عن كيفية ترجمة هذه الفلسفة إلى مصطلحات إقليمية: إجراءات سريعة وحاسمة مثل "مطرقة منتصف الليل" تحل محل الالتزامات المفتوحة في العراق أو أفغانستان.

إعادة ترتيب الأولويات

باختصار، تمثل سياسة واشنطن الجديدة في الشرق الأوسط محاولة لـ "تحديد حجم" المنطقة في الاستراتيجية الأميركية الكبرى مع الحفاظ على المصالح الجوهرية، بشكل يتلاءم سياسيًا مع إدارة "أميركا أولًا". فالاستراتيجية أبرزت المصالح الأميركية من خلال التأكيد على منع هيمنة "قوة معادية" على موارد الطاقة في الخليج، والحفاظ على مضيق هرمز والبحر الأحمر مفتوحين، ومنع المنطقة من أن تكون منصة لانطلاق الإرهاب، وضمان أمن إسرائيل مع توسيع نطاق "اتفاقات أبراهام". وهو ما يتناقض بوضوح مع الأجندات السابقة، ويوفر أساسًا أدقّ لتموضع القوة، ومبيعات الأسلحة، والانخراط الدبلوماسي من خلال إدارة الصراعات وتحويل الأعباء.

أمل شموني -نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا