حقيقة تحركات مخلوف وحسن: انتفاضةٌ مؤجلة أم ورقة ضغط؟
في الخامس من كانون الأول/ديسمبر، كشفت وكالة رويترز تحقيقاً موسعاً بدا كأنّه يزيح الستار عن صراعٍ خفي يتشكل منذ شهور في الظلال. التحقيق، القائم على عشرات المقابلات والوثائق والصور، لم يُقرأ بوصفه عملاً صحفياً فحسب، بل كرسالة سياسية دقيقة التوقيت، اختير نشرها قبل يومين فقط من الذكرى السنوية الأولى لسقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر.
وفقاً لـ"رويترز، تحاول شخصيتان من الحلقة الضيقة للنظام السابق ــ اللواء كمال حسن ورجل الأعمال رامي مخلوف ــ بناء ميليشيات علوية جديدة وإعادة تفعيل شبكات أمنية من إرث النظام المنهار. غير أنّ المعطيات التي حملها التقرير تتجاوز سرد التحركات، لتفتح باباً واسعاً للسؤال حول هوية الجهة التي سرّبت هذه المعلومات، ولماذا جرى الكشف عنها في هذا التوقيت تحديداً.
يأتي ذلك في لحظة سياسية حساسة، يختلط فيها إرث الحرب القديمة بالتحولات التي يعيشها الساحل السوري بعد سقوط النظام. لذلك، يسعى هذا التحقيق إلى تفكيك الرواية، وقراءة ما بين سطورها، وتحليل طبيعة الأدوار التي تلعبها موسكو ودمشق، إضافة إلى موقع القيادات الساحلية في مشهدٍ يبدو شديدة التقلّب.
وإذا كان تحقيق "رويترز" قد عرض الوقائع بنبرة تقريرية، فإنّ ما تكشفه خلفياته لا يقلّ أهمية، فالتسريب يوحي بوجود صراعٍ داخلي على وراثة النفوذ القديم، وباحتمال استخدام المعلومات نفسها كورقة ضغطٍ على الحكومة السورية الجديدة، أو كمحاولة لإعادة رسم موازين القوى داخل الطائفة العلوية في لحظة تبدو فيها أكثر هشاشةً من أي وقتٍ مضى.
تقريرٌ يشتعل في لحظةٍ حرجة
في قلب أسبوعٍ سياسي متوتر، ظهر التحقيق كصفعةٍ على الطاولة، مُظهراً أنّ الصراع داخل بقايا النظام السابق لم يُدفَن مع سقوطه. فالمعطيات تشير إلى أنّ كمال حسن، رئيس المخابرات العسكرية سابقاً، ورامي مخلوف الذي شكّل لسنوات الذراع المالية الأقوى للنظام، يتحركان من منفاهم في موسكو لإعادة تجميع قوةٍ مسلّحة قوامها آلاف المقاتلين المحتملين من أبناء الطائفة العلوية، سواء داخل الساحل السوري أو في لبنان.
الأهمية لم تكن في المعلومات بحدّ ذاتها، بل في اتساع التفاصيل: شبكة من 14 غرفة قيادة تحت الأرض بناها النظام في أعوامه الأخيرة، مخابئ أسلحة موزعة على الشريط الساحلي، خرائط دقيقة لتحركات ضباط سابقين، ومسارات تمويل تمتد بين موسكو وبيروت. ثمّ تأتي طبقة أخرى من الدراما الأمنية: تسجيلات واتساب، وقوائم بأسماء قادة ميدانيين، وتقديرات لولاءات مجموعات ما زالت تبحث عن مكانها بعد انهيار الدولة التي قاتلت تحت رايتها.
الصورة التي تُبنى هنا ليست صورة تحرّك فردي أو مبادرة عفوية، بل مشروعٌ مضاد يسعى لاستعادة نفوذٍ سقط مع سقوط الأسد، عبر انتفاضةٍ مزدوجة تُدار من الخارج وتُغذّيها شبكات الداخل.
ومع ذلك، فإنّ ما أثار انتباه الخبراء الأمنيين الذين تحدثنا إليهم لم يكن المحتوى بقدر ما كان نوع التسريب نفسه: حجم الدقة، اتساق المعلومات، وتعدد مصادرها. هذا النوع من التسريبات، كما يقول أحدهم، "لا يخرج إلى العلن إلا حين تريد جهة ما أن تقول شيئاً محدداً… وبصوتٍ عالٍ".
توقيتٌ لا يحتمل الصدفة: لماذا قبل 8 كانون الأول؟
قبل عامٍ كامل، في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، سقطت دمشق وانهار النظام الذي حكم سوريا لأكثر من نصف قرن، فيما غادر بشار الأسد إلى موسكو حيث يعيش حتى اليوم. منذ ذلك اليوم، تحوّل التاريخ ذاته إلى علامةٍ سياسية ورمزية تُراقبها القوى الإقليمية والدولية بدقة: دمشق تنتظر ما سيقوله الشارع، موسكو تراقب حساسيات الساحل، وبيروت تخشى ارتدادات أي توتر، فيما يعيش العلويون بين ذاكرة الخسارة وقلق المستقبل.
في هذه اللحظة المشحونة، لم يكن نشر تحقيق واسع يكشف تحركاتٍ عسكرية وشبكات نفوذ قبل يومين من الذكرى مسألةً بريئة أو مجرد توافق زمني. التوقيت نفسه بدا رسالةً قائمة بذاتها، تُقرأ من أكثر من زاوية:
أولاً: ضغطٌ على الحكومة السورية الجديدة
التسريب يوحي بوجود قوى مسلحة تعمل خارج منظومة الدولة، وبأنّ مرحلة ما بعد الأسد لم تُغلق تماماً. الرسالة الضمنية تقول: هناك من يتحرك في الظل، ومن يمتلك أدواتٍ قادرة على الإرباك، وأنّ الاستقرار الذي يراهن عليه الشرع ليس ثابتاً بقدر ما يبدو.
ثانياً: تحجيمٌ مباشر لرامي مخلوف وكمال حسن
ظهورهما في التحقيق كجهتين تعملان من دون غطاءٍ سياسي، وبقدرات متضاربة ومبعثرة، يمنع تكوين أي صورةٍ لهما كبديلٍ محتمل أو كقوةٍ يمكن البناء عليها في بيئةٍ تبحث عن قيادة بعد الانهيار. هذا النوع من التسريبات يعيد ترتيب الهرمية داخل الطائفة نفسها: من يمكن أن يعود للعب دور، ومن انتهى زمنه فعلاً.
ثالثاً: تثبيتٌ لدور موسكو في المشهد
فالتسريب يشي بأنّ روسيا تعرف كل شيء، وأنها لا تفقد قبضتها على الساحل ولا على رجالات النظام السابق، حتى لو لم تدعم مشاريعهم. ولعلّ ما عزّز هذه القراءة أنّ الكرملين، وبحسب بيان الخارجية الروسية، أرسل في اليوم نفسه برقية تهنئة للرئيس أحمد الشرع بمناسبة مرور عام على "التغيير في سوريا"، في إشارةٍ فهمها مراقبون كرسالة تطمينٍ ضمنية: موسكو مع الاستقرار، لا مع المغامرات.
بهذا المعنى، يصبح التوقيت جزءاً من المعنى، لا مجرد إطار زمني. فالتسريب لا يهدف فقط إلى كشف ما يجري، بل إلى إدارة المشهد في لحظة حساسة قد يعاد فيها تعريف موازين القوى داخل سوريا، وخصوصاً داخل الساحل.
حرق الورقة الأضعف
من بين العناصر التي ظهرت في التحقيق، بدت صورة رامي مخلوف الأكثر صدمةً وربما الأكثر إيحاءً بوجود نيةٍ وراء التسريب. الرجل الذي أمسك لسنواتٍ بقطاعات الاتصالات والعقارات والنفط، وتحكّم في مفاصل الاقتصاد السوري كما لو كانت ملكية خاصة، يعود اليوم إلى الواجهة بصورةٍ مختلفة تماماً: رجلٌ يعيش عزلةً روحية في موسكو، يدوّن نصوصاً ذات طابع ديني، ويرسل إلى مقربين رسائل صوتية تمتلئ بإسقاطات على نبوءات آخر الزمان و"المعركة الكبرى".
وما يزيد من هشاشة هذه الصورة أنّ مخلوف يبدو ــ وفق المعلومات المتداولة ــ عاجزاً مالياً عن الوفاء بتعهداته تجاه المجموعات التي يحاول استمالتها. الرواتب التي تُدفع بالكاد تتراوح بين 20 و30 دولاراً للمقاتل شهرياً، وهو مبلغٌ لا يكفي لشراء ولاءٍ حقيقي، ولا يعكس صورة "المموّل القادر" التي اعتاش عليها نفوذ مخلوف لعقود.
هذا التحوّل من رجلٍ يُعرّف بقوة المال إلى رجلٍ يعتمد على خطابٍ ديني ــ بل رؤيوي أحياناً ــ ترك انطباعاً بأنّ التسريب لم يكن مجرد عرضٍ للوقائع، بل محاولة واعية لنسف ما تبقى من هيبته داخل بيئته العلوية.
أحد أبناء ريف اللاذقية لخّص الأمر بقوله: "مخلوف إذا خسر الهالة… خسر كل شيء. المال هو هويته، ولما يظهر مفلساً… بيكون عم يتحرق".
على هذا الأساس، بدا أنّ التحقيق لا يعرض صورة مخلوف كما هي، بل يعيد تركيبها ضمن سياقٍ جديد: ليس بوصفه رجل المرحلة المقبلة، بل بوصفه بقايا مرحلةٍ انتهت، ورمزاً لنفوذٍ لم يعد قابلًا للعودة، مهما بدت محاولاته عالية الصوت أو مكسوّةً بغلافٍ ديني.
بين الغرف السرية والهاكرز
على خلاف الصورة المرتبكة التي يقدَّم بها رامي مخلوف، يظهر اللواء كمال حسن في المشهد باعتباره الرجل الأكثر تمرّساً في أدوات القوة الصلبة. فالرجل القادم من قلب المؤسسة الأمنية، والذي قاد المخابرات العسكرية في سنوات النظام الأخيرة، يتحرك وفق معطيات تشير إلى شبكةٍ واسعة من الضباط السابقين، وقوامٍ بشري يُقدَّر بعشرات الآلاف من المقاتلين المحتملين، إضافةً إلى غرف قيادة تحت الأرض بقيت من عهد الأسد وتمتد على طول الساحل.
لا يقف الأمر عند هذا الحدّ؛ فحسن يستخدم ــ وفق المعلومات المتاحة ــ منظمة "إنماء سوريا الغربية" كواجهة لتجميع النفوذ الاجتماعي، فيما يشرف على فريق من نحو ثلاثين مخترقاً إلكترونياً يعملون على تنفيذ عمليات تجسّس وهجمات رقمية ضد مؤسسات الدولة الجديدة، في محاولة لإرباكها أو اختراق بنيتها الأمنية.
هذه التفاصيل ترسم صورة ضابط يعرف تماماً كيف تُبنى الشبكات وكيف تُدار المساحات الرمادية بين السياسة والأمن. لكن المفارقة أنّ هذا النفوذ، على اتساعه الظاهري، يبدو مفككاً في العمق: لا غطاء سياسياً يشرعن تحركاته، ولا توافقاً داخل البيئة العلوية التي خرجت من الحرب مثقلةً بالخسائر وغير مستعدة للدخول في صراعٍ جديد، ولا حتى وضوحاً في التحالفات الخارجية التي يمكن أن تمنحه شرعية أو حماية.
بمعنى آخر، يتحرك حسن كما لو أنّ أدوات النظام القديم لا تزال صالحة للاستعمال، بينما الواقع يشير إلى أنّ ما تبقّى من تلك الأدوات هشّ، متآكل، ومكشوف أمام الدولة الجديدة وأمام موسكو في الوقت نفسه.
قوته قائمة… لكنّها بلا "سقف"، وبلا القدرة على التحوّل إلى مشروعٍ فعلي، إلا إذا تغيّرت الظروف أو وُجدت جهة مستعدة لتحمل كلفته السياسية.
الرواية الرسمية
في مقابل المشهد المعقد الذي ترسمه التسريبات والتحقيقات، جاء الموقف الرسمي صلباً ومباشراً. فقد قال محافظ طرطوس أحمد الشامي إنّ السلطات السورية على دراية كاملة بما يجري تداوله حول تحركات رجالات النظام السابق، مؤكداً أنّ غرف القيادة موجودة بالفعل لكنها "ضعيفة ومشلولة"، وغير قادرة على تنفيذ أي عملٍ منظّم. وأضاف أنّ الحكومة "متأكدة من عدم قدرة هذه المجموعات على اتخاذ خطوة فعّالة ضد الدولة".
ورغم أن التصريحات بدت في ظاهرها محاولة لتثبيت الأمن وطمأنة الرأي العام، إلا أنّ سياقها يشي بما هو أبعد من التهدئة. فهي موجّهة أولاً إلى البيئة العلوية التي تعيش حالة قلق مزمن منذ سقوط النظام، وتخشى أن يؤدي أي حراك خارج سيطرة الدولة إلى فتح الباب أمام موجة جديدة من العنف أو الانتقام.
بهذا المعنى، تبدو الرواية الرسمية جزءاً من معركة إثبات سيادة بقدر ما هي خطاب طمأنة، ورسالة مضادة تحاول تجميد أي صدى قد يتركه التسريب داخل الساحل، وتقول بشكل واضح: "نراقب… ونسيطر… ولن يُسمح بإعادة إنتاج الفوضى".
البعد الروسي
تبدو موسكو حاضرةً في خلفية كل تفصيل، حتى حين لا تُذكر صراحة. فمعظم التحركات التي نُسبت إلى مخلوف وكمال حسن تدور داخل الأراضي الروسية، وتستخدم شبكاتٍ مالية وأمنية بقيت متصلة بروسيا بشكلٍ أو بآخر. وهذا وحده يكفي للإشارة إلى أنّ روسيا ليست مجرّد مستضيفة لـ "رجالات النظام السابق"، بل طرفٌ يراقب ويُدير مسار الأحداث بالقدر الذي يخدم مصالحه.
القراءة الأرجح أنّ التوقيت لم يكن عشوائياً. فالتسريب يذكّر الحكومة السورية الجديدة بأنّ ملف الساحل، ومعه الملف العلوي، ما يزال تحت عين موسكو، وأن أي ترتيبات سياسية داخل سوريا لن تستقرّ ما لم تُراعِ موقع روسيا ودورها. وفي المقابل، يوجّه التسريب إشارةً أيضاً إلى مخلوف وحسن: حدود تحركاتكما مرسومة، ولا مجال لبناء أي مشروع خارج السقف الروسي.
كما يُفهم من السياق أنّ موسكو تريد أن تُبعد عن نفسها شبهة دعم انتفاضات جديدة، وأن تظهر بمظهر القوة التي تحتوي الفوضى ولا تصنعها، وتتحكم بالخرائط الأمنية أكثر مما تغذيها. وفي الوقت نفسه، تبقى مسألة "العلويين" ورقةً تفاوضية بيدها: لا تتركها تسقط، ولا تسمح باستخدامها ضدّ مصالحها.
لهذا يبدو التسريب أشبه بعملية إدارة نفوذ أكثر من كونه كشفاً معلوماتياً. فهو يعيد ضبط حدود اللاعبين، ويذكّر الجميع بأنّ روسيا، رغم انشغالها الإقليمي والدولي، لا تزال اللاعب القادر على تحديد سقف الحركة داخل الساحل… ومن داخله تحديد مستقبل أجزاء واسعة من المشهد السوري.
أياً تكن النية وراء التسريب، فقد كشف شيئاً لا خلاف عليه: ساحل سوريا، بعد عامٍ على سقوط الأسد، ما يزال العقدة الأشد حساسية في جسد البلاد.
كل الأطراف تعرف ذلك، وكل طرف يحاول استثمار معرفته بطريقته، مرة بالتهديد، مرة بالحماية، ومرة بنشر المعلومات في اللحظة التي يكون وقعها أكبر من مضمونها.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|