الصحافة

سقوط وهم "سحب الذرائع": الحرب على الوجود

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

على مدى سنوات المواجهة والصراع مع العدو الإسرائيلي، برز في لبنان من يدعو إلى ما يسمى بـ"سحب الذرائع"، انطلاقًا من افتراض أن "إسرائيل" قوة مهيمنة مطلقة لا يمكن ردعها، وأن واجب اللبنانيين هو تجنّب مواجهتها.

وخلال عقود طويلة تعددت التسميات، لكن الجوهر بقي واحدًا. فتارة رُفع شعار "قوة لبنان في ضعفه"، وتارة طُرح مفهوم "الحياد الإيجابي". أما اليوم، فيُروَّج لسردية مفادها أنه لا خيار أمام لبنان سوى الانخراط في السياقات المرسومة للمنطقة، من تطبيعٍ والتحاقٍ بـ"الاتفاقيات الإبراهيمية"، وأن سلام لبنان واستقراره ونموه وتقدمه يتوقف على التسليم بالواقع الجديد ومتغيراته، وهو ما يستدعي، وفق هذه السردية، مسارعة لبنان إلى اتخاذ خطوات متقدمة نحو علاقة طبيعية مع الكيان الإسرائيلي.

أصحاب هذه السردية فئتان.
الفئة الأولى لا تُخفي ارتباطها بالمشروع الغربي، ويبدو واضحًا أن هدفها دفع جميع اللبنانيين إلى الخضوع لرؤيتها وفكرها ومفاهيمها التي سادت في عقود سابقة، والقائمة على اعتبار أن لبنان ليس عربيًا بل "له وجه عربي"، كما ورد في دستور ما قبل الطائف. تعمل هذه الفئة على إلحاق لبنان بالكامل بالمشروع الغربي في المنطقة، وهي تتجاوز في رؤيتها مسألة "السلام مع إسرائيل".

ويسعى السياسيون والناشطون ضمنها إلى التحالف مع "إسرائيل"، وأبرزهم من وصفهم رئيس الجمهورية بـ"الوشاة" الذين يشكّلون لوبيات لبنانية في الولايات المتحدة الأميركية، ولا يترددون في التحريض على جيش بلدهم والمسؤولين الرسميين، وليس فقط على المقاومة.

ويجاهر هؤلاء صراحة بأنهم سعوا مع الإدارة الأميركية و "إسرائيل" للإبقاء على احتلال النقاط الخمس لاستخدامها وسيلة ضغط وابتزاز إلى حين قيام السلطة اللبنانية بتفكيك المقاومة.

أما الفئة الثانية من فريق "سحب الذرائع"، فهي مجموعة من أصحاب المصالح المتحركة، الباحثين دائمًا عن الاستثمار مع النافذين للبقاء في المواقع السلطوية السياسية أو للحفاظ على نفوذهم الاقتصادي والاجتماعي. هؤلاء مزيج من الخائفين على مكاسبهم والطامحين إلى المزيد من النفوذ، وهم مستعدون لنقل البندقية من كتف إلى كتف، وتبديل مواقعهم بسرعة وفق اتجاه الرياح.

وبعيدًا من تصنيف مكوّنات هذا الفريق، لا بد من الإشارة إلى أن لبنان اليوم يمرّ بمرحلة جديدة لم يعد فيها مجديًا إدارة نقاش عبثي حول مفهوم "سحب الذرائع". قد تجاوزت طبيعة الأحداث كل ذلك، ولم يعد الإسرائيلي يقف عند أي ضوابط في تنفيذ عدوانه. فقد سارع إلى استباحة سوريا بعد سقوط النظام السابق، احتلالًا وسيطرةً وتدميرًا لمقدرات الجيش الوطني السوري، وهو يعمل بشكل سافر وواضح على مشروع تفتيت الدولة السورية وتقسيمها إلى دويلات. ولم يستند في كل ذلك إلى أي ذريعة، سوى رؤيته الخاصة للمنطقة بأسرها، القائمة على حلم "إسرائيل الكبرى"، كما عبّر عنه صراحة بنيامين نتنياهو.

وفي الساحة السورية لم تنفع ضمانات واشنطن للسلطة الجديدة ، ولا مديح ترامب واستقباله الرئيس السوري. لم تحصل السلطة السورية على أي غطاء ولو بالحد الأدنى، ولم تتردد "إسرائيل" في قصف وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، اللذين يمثلان رمزَي السيادة.

لقد خاضت السلطة السورية الجديدة مفاوضات مباشرة مع "إسرائيل" برعاية أصدقاء مشتركين، أبرزهم أذربيجان الحليف الوثيق لـ"تل أبيب"، إلا أن "إسرائيل" رفضت شروط دمشق ؛ فمطالبها ليست تسوية أو هدنة أو سلامًا مع السوريين، بل استهداف أصل وجود سوريا كدولة.

فبالنسبة إلى "إسرائيل"، فإن سوريا الموحدة الممتدة من ضفاف دجلة والفرات على الحدود العراقية والتركية، إلى البحر الأبيض المتوسط غربًا، وصولًا إلى حوض اليرموك وجبل الشيخ جنوبًا، هي بحد ذاتها تهديد وعائق أمام حلم "إسرائيل الكبرى"، الذي يرتكز على تقسيم سوريا وتفتيتها وإضعافها، وهو ما لا ينسجم مع أي تسوية مهما كان شكلها.

وهذه الحالة ذاتها تنسحب على لبنان. فـ"إسرائيل" تريد لهذا البلد الصغير أن يبقى مستباحًا، وأن يُكرَّس كدولة فاشلة لا ثقة فيها، يمكن غزوها ساعة تشاء، واقتطاع ما تشاء من أرضها، والتعامل معها ككيانات طائفية وجهوية متناحرة أكثر مما هي وطن ودولة ذات سيادة.

ويتأكد يومًا بعد يوم أن "إسرائيل" لا تعير اهتمامًا إلا لمشروعها. فهي لم تقدّم أي مكاسب لأولئك الذين عقدوا معها تسويات. فالسلطة الفلسطينية بالنسبة لها ليست أكثر من هيئة شكلية تُستخدم إطارًا للتنسيق الأمني في ملاحقة المقاومين والمعترضين على الاحتلال. أما في التجربة اللبنانية، فحتى أولئك الذين ظنّوا أنهم قادرون على بناء صداقة أو تحالف معها، تركتهم وخذلتهم في كل المحطات، وتعاملت معهم بفوقية وتعالٍ.
وقد أعلن الرئيس اللبناني بشير الجميّل سابقًا، بعد زيارته الكيان الإسرائيلي ولقائه رئيس الوزراء مناحيم بيغن، أن الأخير تعامل معه بقلة احترام، رغم أنه ذهب إليهم بعد انتخابه رئيسًا. وفي الجبل وشرق صيدا تُرك المتحالفون مع "إسرائيل" لمصيرهم المعروف، وفي عام 2000 شاهد اللبنانيون جميعًا كيف تعاملت "إسرائيل" مع بقايا جيش لحد عند انسحابها، إذ تخلّت عنهم بعدما شكّلوا لسنوات أكياس رمل لحماية "جيشها" ومستوطناتها، فكان مشهدهم يومئذٍ مذلًا ومحرجًا.

وعليه، فإن على فريق "سحب الذرائع" بجناحيه مراجعة حساباته وقراءة التاريخ والوقائع وما يجري في المحيط، بما في ذلك التجربة السورية الحديثة، لأن المتضرر من هذا الواقع ليس فريقًا لبنانيًا بعينه ولا فئة ولا جماعة. فالهدف اليوم هو وجود لبنان بكل أبنائه.
وفي المفهوم الإسرائيلي الجديد، لا يوجد لبناني "جيد" ولبناني "سيئ"؛ بل يوجد لبنانيون يمكن أن يخدموا مشروعها التوسعي على شكل مجموعات متناحرة، فيما يبقى لبنان من دون مقومات الدولة.

وهذا ما يستوجب اعتماد مقاربة وطنية شاملة لمواجهة هذا التحدي، مقاربة لا تنفع معها سياسة "سحب الذرائع"، بل تقوم على سياسة الدفاع عن لبنان. وفي صلب هذه المقاربة يبرز موقف المقاومة وحزب الله، الموقف الوطني الذي يعكس حقيقة الانتماء الفعلي للبنان. فالعبارة التي وردت في بيان المقاومة حول شهادة القائد الجهادي الكبير السيد هيثم الطبطبائي: "فداء للبنان وشعبه" تعبّر بوضوح عن هذه الحقيقة التي تترسخ اليوم في وجدان كل لبناني شريف يطمح إلى العيش في وطن طبيعي ونهائي، ودولة قوية قادرة على الدفاع عن شعبها وحمايته، وصدّ العدوان عن أرضه، وتحرير سمائه من الخروقات العدائية. دولة تحسن الحفاظ على السيادة والاستقلال، وتحصن لبنان أمام أي هيمنة خارجية.

لقد خاضت المقاومة، منذ تأسيسها على يد الإمام موسى الصدر، ثم انطلاقة المقاومة الوطنية والإسلامية بعد احتلال "إسرائيل" للبنان، مرحلتين أساسيتين من الصراع والمواجهة: في المرحلة الأولى كانت المقاومة رمزًا لمسار التحرير، وفي المرحلة الثانية شكّلت عامل حماية وردع.

أمّا اليوم، فإن المقاومة تخوض معركة أعمق بكثير: معركة لبنان الجديد المستقل السيد، لبنان الذي يرسّخ وجوده كرسالة جامعة ومتنوعة، تناقض كيان التعصّب الفئوي والعنصري.

في لقاء شهير جمع الرئيس سعد الحريري وعددًا من وزرائه بقائد الثورة الإسلامية الإمام علي خامنئي، وصف الأخير لبنان بأنه "إزميرالدا"، بطلة رواية أحدب نوتردام الشهيرة، واعتبر أن المقاومة هي "الخنجر الجميل والحاد" الذي تستخدمه السيدة الجميلة للدفاع عن نفسها في وجه المهاجمين.

ومن الواضح في ظل التحديات الكبيرة أن لبنان الجميل، بجغرافيته وتنوّعه، أحوج ما يكون اليوم إلى هذا الخنجر، كي يبقى وطنًا تحت الشمس.

بثينة عليق - الميادين

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا