بو عاصي: انقضاض الرئيس بري على "الحزب" وارد كما فعل عام ١٩٨٨
أسعار السلع تجاوزت سعر الدولار... مقارنة لتطور الأسعار وسعر الصرف بين 2019 و2025
شهد الاقتصاد اللبناني منذ عام 2019 أحد أعنف الانهيارات النقدية والمالية في تاريخه الحديث، ما أدى إلى تفكك بنية اسعار الاستهلاك وانفلات معدلات التضخم بشكل غير مسبوق. ففي الفترة الممتدة بين بداية الأزمة وحتى تشرين الأول 2025، سجل كل من مؤشر أسعار الاستهلاك وسعر صرف الدولار الأميركي تجاه الليرة اللبنانية ارتفاعات ضخمة، أظهرت وجود علاقة متينة بين العاملين، وإن شابها عدد من التفاوتات الدالة على اختلالات بنيوية أعمق في الاقتصاد. ويبرز من خلال المقارنة بين بيانات إدارة الإحصاء المركزي ومؤسسة البحوث والاستشارات تقارب كبير في المؤشر العام للأسعار، مقابل فروقات حادة في بعض المكونات القطاعية، ما يطرح علامات استفهام حول منهجيات القياس والاحتمالات الإحصائية المرتبطة بها.
منذ الانهيار المالي عام 2019 ولغاية تشرين الأول 2025، تضاعف مؤشر أسعار الاستهلاك في لبنان بحسب إدارة الاحصاء المركزي نحو 68 مرة ، وبمعدل 65 مرة بحسب المؤشر الصادر عن مؤسسة البحوث والاستشارات، ما يظهر درجة كبيرة من تقارب الرقم الكلي بين المؤشرين. وإرتفع في الفترة ذاتها سعر صرف الدولار الأميركي تجاه الليرة اللبنانية نحو 59 مرة.
وتتضح خطورة المشهد أكثر عند تحليل مرحلة ما بعد تثبيت سعر الصرف ابتداء من أيلول 2023، إذ واصلت الأسعار ارتفاعها بنسب تفوق بكثير المعدلات العالمية، رغم استقرار الدولار. وهذا يعكس وجود محركات تضخمية مستقلة عن سعر الصرف، ترتبط بهيكل الأسواق، وضعف التنافسية، وسيطرة التكتلات الاحتكارية، إضافة إلى غياب الأطر التنظيمية الفعالة لتطبيق قانون المنافسة الجديد. كما تكشف العودة التاريخية للعلاقة بين الأسعار وسعر الصرف منذ السبعينيات عن نمط متكرر من ارتفاعات في الاسعار تفوق وتيرة تدهور العملة، سواء في فترات الانفلات النقدي أو خلال حقبة التثبيت الطويل (1997–2019)، بما يؤكد أن التضخم في لبنان ليس ظاهرة ظرفية بل بنيوية الطابع.
وتنعكس هذه التطورات مباشرة على الفئات العاملة ذات الدخل الاسمي الثابت، والتي تشكل أكثر من نصف القوى العاملة في لبنان. فقد تراجعت القدرة الشرائية لهذه الفئات بشكل كارثي منذ 2019، ولم تنجح الزيادات اللاحقة في الأجور في تعويض الخسائر الحقيقية، خاصة في ظل تداعي الخدمات العامة وارتفاع كلفة الخدمات البديلة التي تتحملها الأسر مباشرة. وبذلك، يصبح فهم العلاقة الملتبسة بين تطور الأسعار وسعر الصرف، وتحليل العوامل البنيوية التي تغذي التضخم في لبنان، ضرورة أساسية لتقدير حجم الأزمة الراهنة وتحديد مسارات الإصلاح الممكنة.
يشار إلى أن ارتفاع مؤشر أسعار الطعام لدى مؤسسة البحوث نحو 71 ضعفاً خلال الفترة 2019-2025، مقابل نحو 279 مرة لدى إدارة الاحصاء المركزي، وهذا ما يعتبر أمرا غير طبيعي (وقد يكون ناجماً عن خطأ مطبعي)، الأمر الذي دفعنا بالتالي إلى عدم تضمين مؤشر الطعام لدى الاحصاء المركزي في التحليل المقارن اللاحق.
ثبات الليرة لم يمنع استمرار ارتفاع الأسعار: يسجل أن أسعار الاستهلاك واصلت ارتفاعها خلال فترة ثبات سعر صرف الدولار الممتدة منذ أيلول 2023، حيث بلغت نسبة الارتفاع 34% ما بين أيلول 2023 وأيلول 2025 بحسب مؤشر مؤسسة البحوث والاستشارات. وحتى لو أخذت في الاعتبار مفاعيل التضخم المستورد في بلد كلبنان تكاد مستورداته تصل إلى نحو ثلثي ناتجه المحلي الإجمالي، إلا أن هذا العامل لا يفسر سوى جزء بسيط من ارتفاع أسعار الاستهلاك في لبنان. فمعدل التضخم الوسطي في بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCDE كان أقرب إلى 4% سنوياً خلال العامين الأخيرين، أي أنه لم يتجاوز بصورة مركبة نسبة 8،2% خلال العامين 2024 و2025 مقارنة بالزيادة التي سجلها مؤشر الأسعار الصادر عن مؤسسة البحوث والاستشارات (34%).
السياق التاريخي للعلاقة بين أسعار الاستهلاك واسعار الصرف: يندرج هذا التفاوت الحاصل بين ارتفاع أسعار الاستهلاك وارتفاع سعر صرف الدولار منذ عام 2023، ضمن سياق تاريخي يعود إلى ماض بعيد. فمتابعة تاريخ العلاقة بين أسعار الاستهلاك وأسعار الصرف منذ السبعينيات، تؤكد أن الزيادات السنوية في أسعار الاستهلاك كانت على الدوام أعلى من الزيادات السنوية الحاصلة في سعر صرف الدولار، بحسب ما يظهره (وما يزال) مؤشر مؤسسة البحوث والاستشارات، وهو المؤشر الوحيد الذي كان يصدر في لبنان بين عام 1977 وعام 1998، إثر توقف إدارة الاحصاء المركزي عن إصدار مؤشرها الرسمي منذ نيسان 1975 ولغاية عام 1998. وبالنظر إلى ضخامة إرتفاع مؤشر مؤسسة البحوث بين عام 1977 وعام 1997وكذلك ارتفاع مؤشر سعر صرف الدولار، فقد استحال إدراج حركة هذين المؤشرين في رسم بياني واحد منذ عام 1977، مما فرض رصد هذه الحركة عبر الرسوم البيانية التالية:
أما بعد عام 1997 الذي ترسخت فيه سياسة التثبيت النقدي، فقد استقر سعر صرف الليرة اللبنانية على مستوى 1500 ليرة للدولار الواحد دون تعديل يذكر على مدى عقدين حتى أواسط عام 2019. في المقابل فقد استمر مؤشر أسعار الاستهلاك يسجل إرتفاعات سنوية بسيطة عاما بعد عام في هذه الفترة. وبالرغم من تواضع المعدلات السنوية لهذه الارتفاعات، فإن تراكمها بين عام 1996 - تاريخ آخر تصحيح نظامي للأجور في القطاعين الرسمي والخاص - وعام 2017، فرض إقرار سلسلة جديدة للرتب والرواتب في ذلك العام، بعد الإحتجاجات والإضرابات المتكررة للحركة النقابية على مدى السنوات التي تلت التصحيح الآحادي لأجور العاملين في القطاع الخاص عام 2012.
هذا الواقع، برأي المدير التنفيذي لمؤسسة البحوث والاستشارات الدكتور كمال حمدان، يظهر بوضوح أن إرتفاع تكاليف المعيشة في لبنان لم يكن من وجهة نظر تاريخية محكوما فقط بتطور سعر صرف الدولار الأميركي تجاه الليرة اللبنانية (بالرغم من أهمية هذا العامل)، وإنما كان يتغذى أيضاً من جملة عوامل عميقة ومترسخة في بنية الاقتصاد اللبناني، بحسب ما تثبته العديد من الدراسات الاقتصادية والاحصائية السابقة.
وأهم هذه العوامل، ضعف المنافسة وسيطرة التكتلات الاحتكارية على أسواق الاستيراد الأساسية ومعظم الأسواق الداخلية، وقصور أو غياب التشريعات والمراسيم التطبيقية المكافحة للاحتكار، فضلاً عن مخلفات المفاعيل الملتبسة لقانون التمثيل التجاري ولسياسة التثبيت النقدي التي امتدت على مدى ثلاثة عقود وساهمت في تعظيم الاستيراد الاستهلاكي وأضعاف الانتاج المحلي عموماً. وبالرغم من إقرار قانون المنافسة الجديد عام 2022، فان الحكومة الحالية لم تنتج حتى تاريخه أي مراسيم تنظيمية أو أطر ادارية ومؤسسية خاصة بتنفيذ هذا القانون.
التبعات الاجتماعية: تفتك ظاهرة التضخم وارتفاع أسعار الاستهلاك (بالليرة وبالدولار) أكثر ما تفتك بأولئك الذين يعملون مقابل دخل إسمي ثابت، وهم يشكلون ما بين 55% و60% من مجموع القوى العاملة في لبنان، ويعملون كأجراء وموظفين ومعلمين ومياومين في القطاعين الخاص والعام وفي عديد القوى العسكرية والأمنية. وإضافة إلى تبخر معظم المدخرات المصرفية لهذه الفئات بسبب الإنهيار الاقتصادي عام 2019، فانهم خسروا أيضاً أكثر من 70% إلى 75% من قوتهم الشرائية (المتأتية من العمل) في الأعوام الثلاثة الأولى التي تلت هذا الانهيار، ويرجح أن يكون بعضهم قد استعاد مؤخرا 40% إلى 50% من دخله السابق، إلا أن تراجع كل أنواع الخدمات العامة في البلد، من ماء وكهرباء ودواء وخدمات صحية وتربوية وصرف صحي ونقل وسواها، يضطرهم إلى تمويل نسبة متزايدة من هذه الخدمات من دخلهم الخاص المتجه نحو الضمور. وتزداد هذه الصورة كآبة عند النظر إلى ما آلت اليه تعويضات نهاية الخدمة ومعاشات التقاعد في مختلف الصاديق الضامنة.
سلوى بعلبكي - النهار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|