محليات

عمليّةُ قسطَرَة في وطنٍ يصرِّف أعمال

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

أذكرُ منذ نصف قرنٍ تقريبًا أنَّ تركيبَ الأدويةِ كانَ دارجًا في الصيدليات. عندما كنّا ندخلُ إلى الصيدلي كانَ يسألُنا عمّا كنّا نُعاني منه فيدخلُ إلى مختبرِهِ الصغيرِ ويضعُ المقاديرَ بدقةٍ في حنجورٍ صغيرٍ ثم يضعُ عليه شريطًا لاصقًا أبيضَ ويحرصُ أن يَكتبَ على الشريطِ طريقةَ الإستعمالِ ودواعيه.

أذكرُ أنَّ إحدى المعداتِ الطبيَّةِ لديه كانت تخيفني. مضخةٌ تشبِهُ تلكَ التي تُستَعمَلُ لفتحِ البلاليعِ مزوّدةٌ بعبوةٍ بلاستيكيةٍ مستطيلةٍ ممتلئةٍ بالماءِ في مقدمَّتِها قمعٌ رفيعٌ مهمَّتُهُ الدخولُ في طبلةِ الأُذنِ الداخليَّةِ وضخُّ الماءِ بقوةٍ ودفعةٍ واحدةٍ ليخرجَ بعدَها الصمغُ المسؤولُ عن انسداد الطبلةِ الداخليةِ.

غالبًا ما تقتحِمُني صورةُ هذه الآلةِ بعد خمسينَ سنةٍ تقريبًا بالرغم من أنها باتتْ مصنَّفَةً من المُنقَرَضات. حجمُ طَرَشِ المسؤولين يستدعي إختراعَ فتّاحةٍ مخصصةٍ لطَبلاتِ أُذُنِ أَهْلِ السياسة. طبلاتٌ انسدّتْ منذُ أكثرَ من نصفِ قرنٍ بفعلِ تراكمِ صمغِ الفسادِ فيها.

آلةٌ لتصريفِ الفسادِ في بلادٍ تعيشُ أصلًا على تصريفِ الأعمال. حتى عندما كانت الحكومَةُ مكتملةً كانت تصرّفُ الأعمال. وطنٌ في حالةِ تصريفِ أعمالٍ يعيشُ من قلّةِ الموت. تخرجُ إلى الشوارعِ فتشعر ُ كأَنَّكَ في بلادٍ مشطوبة. لا وجودَ لها الا إسميًا. أرضٌ بكلِّ ما ومن عليها يتيمةٌ تفتّشُ عن وليِّ أمر. هل رأيتم خريطةً بأمها وأبيها تستعطي؟ نحنُ خارطةٌ تستعطي.

آخِرُ همروجةٍ الميثاقية. الميثاقيةُ أهمُّ من العلاجِ الكيميائي وأهمُ من غسيلِ الكِلى. كيمياءٌ لتفجيرِ كرسيِّ بعبدا ولنشرِ غسيلِ المسيحيين أهمُّ من السرطانِ والفشلِ الكلوي على أساسِ أن السرطانَ يصيبُ طائفةٍ دُونَ أخرى. لا بأسَ أن يموتَ الناسُ وأن يحيا لبنان. أصلًا أغلبُ الحروبِ اللبنانيّةِ الصغيرةِ أفضتْ إلى شعارِ ماتَ ليموتَ لبنان. قليلًا ما رأيتُ من ماتَ ليحيا لبنان.

وللمسلسلِ تتمة. الأمنُ المسيحيُّ فَوْقَ كل اعتبار. الأمنُ نفسُهُ الذي قضى على آخرٍ بيتٍ في آخِرِ دَسكَرةٍ مسيحيةٍ في البلاد. الأمنُ نفسُهُ الذي انتهى بالنفي والسجنِ والمقاطعةِ والإحباط. الأمنُ نفسه الذي تُوِّجَ باتفاقِ معراب وأوعا خيَّك. الأمنُ نفسُهُ الذي يتمُّ باسمِه تقبيلُ تيريز فيما تأنفُ تيريز من ردِّ التَّقبيلِ بالتقبيل المُتبادَل.

آخرُ صرعاتِ الميثاقية. قداسُ الأحد أم انتشالُ إبنِكَ من قعرِ البئر؟ هيا أتلُ فعلَ الندامة. إنحنِ أمام جسدِ المسيح ودمِهِ المحيي. أبسِطْ يديكَ وصلِّ الأبانا. تناولْ القربانةَ المقدسة. شاركْ في صلاةِ الشكر. في هذه الأثناء سيكونُ ولدُكَ قد قضى في البئر. الدستورُ أم غسيلُ الكلى؟ الدستور أم السرطان؟ الأحدُ سيتكرَّرُ الأسبوعَ المقبلِ يا حمقى. أولادُكُم لن يتكرروا .

مرّةً جديدةً نشرُ الغسيل. في أواخرِ الثمانينات انتقلْنا من عبارةِ " بيمون الجنرال " إلى حربِ الإخوة. ثمّ يطالعونَ في حقوقِ المسيحيين. ألم تكونوا أوّلَ مَن رَمَيتُم بحقوقِهِم تارةً تحتَ جسرِ المعاملتين وجسرِ نهرِ الموت دونَ أن يعقصُكُم برغوتٌ عندما تسمُّونَهُ جسرُ الشهادة.

ومدهشٌ لا بل الأقربُ إلى الخيال كيفَ أنَّ التياراتَ المسيحيةَ التي يجمعُها خطٌّ سياديٌ واحِدٌ تسودُ الواحدةُ فيهِ على الأخرى. مدهشٌ كيفَ يمكِنُ لهؤلاء أن يتحوّلوا إلى قشّاشي كراسي رئاسية. الكرسيُّ قبلَ مرضى السرطان. الكرسيُّ قبلَ القصورِ الكلَوي. قصرٌ أهمُّ من قُصور.

المارونيةُ السياسيةُ باتتْ بأمسِّ الحاجةِ إلى عمليةِ قسطَرَة. تنظيفُ شرايينٍ من أدرانِ النزعةِ الملكيةِ التي ساهمتْ في تدميرِ الصيغةِ اللبنانية.لا أصدّقُ مشرقيتَها المستجدَّة. لا أرى في مشرقيَّتِها سوى شماعة. جلَّ ما تنسجُ في ثيابِها السياسيةِ موضةً أكثرَ راديكاليةٍ من " أمنِ المجتمعِ المسيحي فوقَ كل اعتبار ". موضةٌ يُرِيدُ مصمِّموها الجددُ تقليدَ أصحابِ الحقوقِ الأصليين.

أقربُ صيدليةٍ لتركيبِ مستحضرٍ جديدٍ يحقنُ قليلًا من الحكمةِ في الرؤوسِ الحاميةِ ويعيدُ إلى المسيحيينَ دورَهم كجسرِ عبورٍ بينَ المسلمينَ أنفسِهِم أولًا ثم بين المسيحيين والمسلمين. مِن دونِ هذه القسطرةِ والدواءِ المُرافِقِ سيبقى فعلُ الندامةِ خلالَ قدّاسِ الأحدِ هرطقةً أمامَ مراسمِ دفنِ ولدِكَ اذا ابتلعَتهُ البِئر!
 

شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا