وفد تقني أردني في لبنان... هل ينطلق قطار الاستجرار الكهربائي؟!
تضخم لغوي أم مناورة؟ قراءة في خطاب نعيم قاسم
غالبًا ما تكشف الخطب عن الكثير من خلال نقاط تركيزها ونبرتها وما يكتنفها من صمت، أكثر مما تكشفه عبر ادعاءاتها الصريحة. ويُعدّ خطاب نعيم قاسم الذي ألقاه في 13 كانون الأول، مثالًا على ما يُعرف بـ"الكلام الرخيص" (Cheap Talk) بالمعنى العقلاني في العلاقات الدولية؛ أي ذلك المفهوم الذي يُستخدم لوصف التواصل بين الدول أو الفاعلين السياسيين، والذي يفتقر إلى التزام فعلي أو إجراء جوهري. كما يُشير إلى التصريحات أو الوعود التي يُطلقها القادة السياسيون، والتي قد تبدو عظيمة من حيث البلاغة، لكنها تفتقد إلى العواقب أو الالتزامات الحقيقية.
باختصار، "الكلام الرخيص" هو مفهوم مُستمدّ من نظرية الألعاب (Game Theory) يشمل التواصل الذي لا يؤثر على النتيجة الاستراتيجية لموقف مُعيّن. إنه إشارة لفظية غير ملزمة تهدف إلى الحفاظ على الغموض الرادع والتماسك الداخلي، من دون تحمّل التكاليف المادية أو الاستراتيجية المرتبطة بالتصعيد الموثوق. بالفعل، لم يُصاحب كلام نعيم قاسم أي تغيير ملموس في موقف "حزب الله" أو أي التزامات جديدة قد تُقيّد الإجراءات المستقبلية.
لكن الصحافة الموالية للممانعة سعت إلى منح هذا الخطاب بُعدًا آخر، وهو ما ظهر جليًا عند تحليل صياغة العناوين الرئيسية للتغطية الإعلامية التي حوّلت تلك الإشارات البلاغية إلى تصعيد محسوس. خاصة مع اعتماد هذه العناوين على أفعال مثل "يهُدّد"، "يُحذّر"، "يتعهّد"، "يرفع الرهان"، "يرفض"، "لن يتمّ نزع سلاحه أبدًا"، و "لن يقبل الاستسلام أبدًا"، وهي أفعال تبرز المعارضة والتحدّي، وتشير عادة إلى إجراء وشيك بدلًا من موقف لفظي مَحض.
حتى عند الإشارة إلى تكرار قاسم موقفه المُتعلّق بالاحتفاظ بالسلاح ورفض نزعه، كانت العناوين الرئيسية تميل إلى تصويره على أنه تصعيد جديد أو ردّ فعل، بدلًا من كونه استمرارًا لخطاب قديم. إضافة إلى ذلك، تمَّت ترجمة بعض الأفكار الرئيسية التي أشار إليها نعيم قاسم بعبارات مثيرة للقلق مثل "الاستسلام يعني نهاية لبنان"، ما أفضى إلى نقل إحساس بالاستعجال والأزمة. وهو تفسير خاطئ إذا ما قورن بمحتوى الكلام الفعلي، ما قد يدفع الجمهور إلى استنتاج حدوث تغيير في النوايا.
وبذلك، أدى الإطار الصحفي المرتبط بالممانعة والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى انهيار التمييز التحليلي بين الخطاب والتغيير المادي، حيث تم تقديم كلام غير مُلزم على أنه تحوّل استراتيجي. على سبيل المثال، عنونت قناة Press TV الإيرانية، الناطقة باللغة الإنكليزية: "نعيم قاسم يدعو إلى رد حاسم على العدوان الإسرائيلي في لبنان". فيما علّقت وكالة أنباء فارس: "نعيم قاسم يُحذّر إسرائيل: لن نقف مكتوفي الأيدي في مواجهة الاستفزازات"، (مع العلم أنه قد مرّ أكثر من عام على تلك الاستفزازات). وكذلك فعلت وكالة أنباء "تسنيم"، المتوافقة أيديولوجيًا مع "حزب الله"، بالإضافة إلى وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية IRNA، حيث واصلت جميع هذه الوكالات الإشارة في عناوينها الرئيسية إلى التأكيد على التصعيد والمقاومة والصراع الإقليمي.
بالتالي، يبدو أن هذه العناوين الرئيسية تسيء عمدًا تفسير "الكلام الرخيص" الذي يُستخدم على وجه التحديد لإبراز العزم دون تكبّد التكاليف، وتُظهِره على أنه دليل على التصعيد. وفي المقابل، تساهم في إخفاء الوظيفة الاستراتيجية للخطاب، الذي يستهدف في المقام الأول الجماهير الداخلية أو المتعاطفة، والتي تحتاج إلى الطمأنة. فهل اعتُبر هذا الموقف نقطة ضعف يجب تمويهها؟ خاصة وقد انتشرت في الأشهر الأخيرة شائعات داخل إيران تشير إلى احتمال استبدال نعيم قاسم، على الرغم من عدم وجود تأكيد رسمي لذلك.
أما الأكثر دلالة في الخطاب، فهو ما لم يُقل. إذ لا وجود لجداول زمنية لأي مبادرة، ولا خيارات عملية، ولا اعتراف بالقيود السياسية أو العسكرية أو الاجتماعية. الانهيار اللبناني شبه غائب، وكذلك تكلفة الاستمرار في المواجهة على المجتمع والدولة. هذا الصمت ليس تفصيلًا بل علامة حدود: ما لا يُقال هو ما لم يعد ممكنًا التعهدّ به.
إنه خطاب احتواء للأزمة، لأنه بشكل عام، يمثل نموذجًا للغة السياسية التي تتحدث باستمرار دون أن تقول شيئًا جديدًا. الهدف منه هو السيطرة على الفضاء السردي بينما يتم تأجيل المساءلة. كما أن الإصرار المُتكرّر على أن الموازين لم تتغيّر، وأن المسار واضح، وأن الخيارات مفتوحة، لا يعكس واقعًا مُستقرًا بقدر ما يشير إلى أن هذه العناصر لم تعد بديهية، مظهرًا قلقًا لم يعد قابلاً للإخفاء.
من جهة أخرى، أتت معالجة مسألة نزع السلاح لتكشف عمق المعضلة. فبدلًا من معالجتها كمسألة سياسية طارئة، قابلة للتفاوض أو لتحليل التكلفة، تم نقلها إلى مجال الضرورة والهوية. عبر تصوير الأسلحة على أنها أبدية وغير قابلة للتفاوض، والأدهى، أنها منفصلة عن السياق التاريخي. يمكن فهم هذه الخطوة، وفقًا لـ (Bourdieu) عالم الاجتماع الفرنسي، على أنها عمل من أعمال القوة الرمزية: فالقدرة على فرض فئات فكرية تجعل بعض الأسئلة غير قابلة للطرح. ومن خلال تقديم الترسانة على أنها حقيقة عبر تاريخية (Transhistorical)، يزيلها الخطاب من السياسة تمامًا. وما لا يمكن تأريخه لا تمكن مناقشته.
إنه خطاب التعويض المفرط كما يُعرّفه العلماء: أي عندما تتدهور الظروف المادية (كالقيود العسكرية، العزلة السياسية، الضغوط المالية)، تصبح اللغة مبالغًا فيها وأخلاقية ومطلقة. لذلك، نرى أن "حزب الله" يعتمد على اليقين الخطابي للتعويض عن ضعفه الاستراتيجي: فالتكرار المستمر للغة المطلقة يعكس ضيق الخيارات، ولو كانت هناك خيارات متاحة، لتَمّ تحديدها.
والأهم من ذلك، هو تأكيد قراءة كلام نعيم قاسم على أنه مثال على الخطاب بالوكالة، أي ما يسميه المنظرون السياسيون بالبطنية (Ventriloquism). المتحدث محلي، وكذلك اللغة، لكن الأفق الاستراتيجي يكمن في مكان آخر.
بالطبع، يمكن لأمين عام "حزب الله" الاستمرار في اللجوء إلى التضخم اللغوي، لكن كل جملة تُقال باسم "الصمود"، فيما تُهمَّش الدولة، تتحوّل إلى كلفة مباشرة يدفعها اللبنانيون عزلةً وفقرًا وانكشافًا سياديًا.
د. جوسلين البستاني - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|