أهلاً بكم في اقتصاد "الزومبي"... لسنوات طويلة قادمة
ما من أحد في "شبه دولة لبنان المختطف" قادر على اتخاذ قرارات جذرية تخرج اللبنانيين من أزمتهم المتعددة الأوجه، لا سيما مالياً واقتصادياً. ما من أحد قادر، أم ما من أحد يريد؟ السؤال صعب. لكن، وبالتعريف البديهي، المسؤول مطلوب منه اتخاذ القرار دائماً. لذا يمكن القول أيضاً أن لا إرادة سياسية لدى الأطراف الممسكة بالسلطة لاجتراح الحلول وذلك لأسباب مختلفة. فمن يقبل على اتخاذ القرار يقبل ضمناً أنه شخّص السبب جيداً وأنه مسؤول عن الحل مهما كان صعباً. وبما أن الحلول الخاصة بالأزمة المالية والمصرفية أشبه بتجرّع الكأس المرّة، فكل رأس من رؤوس هذه المنظومة يحرص على إبعاد تلك الكأس عن فمه. أما التعويل على تفاهمات في ما بينهم لتمرير الحلول فهو ضرب من الخيال في ظل التشظي السياسي القائم والمرشح للتفاقم أكثر.
وللمثال، فإن قراراً مثل الدولار الجمركي أصاب رئيس مجلس النواب نبيه بري بالحيرة، فطلب من وزير المال يوسف الخليل سحبه من جلسة الحكومة التي عقدت قبيل الانتخابات النيابية كي لا يقال إن حركة أمل مع زيادة الرسوم والضرائب، ثم منع بري الوزير من اعتماده بعد إقرار الموازنة، ثم حصل ذلك متأخراً وبشق الأنفس بعدما ضاعت الطاسة بين وزارة المالية ومصرف لبنان. وكان تولّى النائب علي حسن خليل بطولات الإعلان عن زيادة رواتب الموظفين بإظهار الفضل في ذلك لمرجعيته، وهكذا تمّ ربط إصلاح بسيط بشعبويات سنشهد الكثير مثلها عند كل قرار إصلاحي سيلتفون عليه لاستنزافه قبل إقراره كما حصل مع الدولار الجمركي. فذلك "الدولار" بدأ الحديث عنه بـ20 ألف ليرة عندما كان سعر الدولار على المنصة 22 ألف ليرة بداية العام. وعند الإقرار استقرّ الرأي على 15 ألف ليرة بينما سعر المنصة أكثر من 30 ألف ليرة. ما يعني أن الجدوى منه قليلة وسرعان ما ستتبخّر.
يتعيّن الجزم بأن الأزمة أكبر من "هؤلاء" جميعاً وبما لا يقاس. فمن تدرّب ونجح ببراعة في الهدر والفساد والتحاصص لا يمكنه العودة رأساً على عقب وعكس اتجاه الشراع نحو الترشيد والمحاسبة وتطبيق مبادئ الحوكمة. فمن شبّ على شيء شاب عليه، وهذا هو حال زعماء طوائف (قبائل) لبنان بلا استثناء. قبل الذهاب بعيداً في تحليل واقع اللاقرار، تتعيّن الإشارة الى أننا أمام خسارة 75 مليار دولار. خسارة هي في الواقع 90 ملياراً إذا استثنينا حساب الذهب، وأكبر من ذلك بكثير إذا جمعنا في الحساب خسائر الليرة وانخفاض أسعار الأصول والفرص الضائعة.
في تلك الخسائر ما هو خاص بالدرجة الأولى بالمودعين. فهذه المنظومة بدّدت، بمساعدة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة و"البنكرجية"، مدّخرات جيل كامل أو جيلين. هم الآن أمام مهمة صعبة جداً إن لم نقل مستحيلة. لذا تنشأ نظريات ما أنزل الله بها من سلطان مثل "الودائع المقدسة" وصندوق استرداد الودائع، فضلاً عن طرح استخدام أصول الدولة أو ايرادات من تلك الأصول لردّ الودائع. تلك الطروحات شعارية نظرية شعبوية بعيدة عن الواقع، ولا تعبّر إلّا عن هروب أصحابها من طرح الحلول القابلة للتنفيذ. فلا الودائع مقدسة في ظل اقتطاع قسري حالياً بنسبة 65 الى 85% من قيمتها عند كل سحب منها. ولا هي مضمونة آمنة من شرّ الليلرة اليوم وغداً. ويمكن الجزم، وفق كل السيناريوات المطروحة والممكنة، بأنها لن تعود بقيمتها الأصلية، أما إعادتها جزئياً فسيستغرق سنوات طويلة مريرة. وعن صندوق استرداد الودائع الذي ابتدعه نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إرضاء لرئيسه نجيب ميقاتي (رئيس حكومة تصريف الأعمال) الذي أراد النزول عند رغبة نواب شعبويين مرائين، يمكن الإشارة الى أنه رهن شروط تعجيزية مثل ربط مساهمة ايرادات من الدولة في استرداد الودائع بـ"نجاح الإصلاح المطلوب من صندوق النقد الدولي"، وذلك يبدو كأنه أمل إبليس في الجنة تقريباً حالياً وفي المديين القريب والمتوسط طالما لا تغيير جذرياً في بنية المنظومة الحاكمة إن لم نقل المتسلطة.
بالنسبة إلى الإصلاحات، الاتفاق مع صندوق النقد في حالة موت سريري. وبحسب معظم المؤشرات (كما في المعلومات أيضاً) ينظر خبراء الصندوق الى حالة لبنان على أنها شبه ميؤوس منها في ظل الوضع السياسي القائم، كما في ظل تمسّك المنظومة بطريقة عمل حاكمية مصرف لبنان، وبتدليل قطاع المصارف على نحو مريب لا يشي إلا بأن المصالح متداخلة الى درجة النوم في سرير واحد. الى ذلك يُضاف التطنيش عن بديهيات مثل تقفّي أثر الأموال المنهوبة وإعادة الأموال المحوّلة الى الخارج. كما لا نية للتدقيق في بنية الودائع لمعرفة المشروع منها وغير المشروع، ومصير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان في غياهب وزارة المال ومرجعيتها السياسية. وعن الإصلاحات أيضاً، فإن موازنة 2022 تافهة غير إصلاحية. ولن يأتي من وزير المال يوسف الخليل المنكب على إعداد موازنة 2023 إلا مشروع موازنة ترقيعية إضافية، لأن مرجعيته السياسية لن تسمح له بالإصلاح الجذري لا سيما ضريبياً، والخليل نفسه ليس إصلاحياً أساساً، وهو الآتي من مدرسة رياض سلامة حيث عمل مديراً للعمليات في مصرف لبنان طيلة الفترة التي ارتكبت فيها خطايا التثبيت النقدي والهندسات المالية و"تظبيطات" أخرى يتضح تباعاً كم كانت مدمرة وجرائمية مالياً. الى ذلك، يجرّ مشروع قانون الكابيتال كونترول ذيول خيبته منذ 3 سنوات، وليس واضحاً كيف ستعاد هيكلة المصارف، أما تعديل قانون السرية المصرفية فيبقى دون ما طلبه صندوق النقد.
أهمّ نقطة في المراوحة القاتلة تكمن في أن اللوبي المصرفي يعزّز "صموده"، وليس يائساً من ربح معركته ضد الدولة والمودعين. فعلى الرغم من تعثر و/أو إفلاس معظم وحدات هذا القطاع، فإنها قائمة وتعمل بما تيسّر لها من أعمال، ودرجت على اعتماد ميزانيتين: واحدة للحسابات القديمة وأخرى للجديدة (فريش دولار). وأصحاب البنوك يعلمون أن مشروع إعادة الهيكلة يحتاج الكثير من الوقت لإقراره، ووفقاً لبنوده هناك فترة 3 الى 5 سنوات كي تتبلور الصورة الجديدة لهذا القطاع. في الأثناء، تبقى لأصحاب المصارف حظوة لدى الكتل النيابية المختلفة والتي بقيت بمعظمها على مواقفها سواء العلنية والضمنية منذ إسقاط خطة لازار في لجنة المال والموازنة في 2020، مواقف هي أقرب للبنوك من أي طرف آخر.
والمتابع لتصريحات بعض نواب تلك الكتل لا يستغرب كيف أن فكرة إنشاء صندوق لأصول الدولة تدغدغهم كما تدغدغ "البنكرجية". فالطرفان متفقان ضمنياً على ان الحل النهائي سيأتي على تحميل الدولة المسؤولية الأولى عن الخسائر. لكن ما من أحد يتجرّأ لتاريخ اليوم على طرح هذه الفكرة بمشروع قانون او ضمن برنامج حكومي تنفيذي لأن صندوق النقد يعارض، ولأن أصواتاً كثيرة من المجتمع المدني وخبراء المال والاقتصاد غير المنضوين تحت عباءة "البنكرجية" أعلنت بقوة أنها ستخوض معركة ضارية ضد استخدام أصول الدولة لردّ ودائع بضعة آلاف من المودعين على حساب عموم اللبنانيين، ودائع تقدّر بنحو نصف إجمالي الودائع البالغة (أو الباقي منها) 96 مليار دولار بعد تذويب 27 ملياراً منذ بداية الأزمة. فهناك معركة قادمة لا محالة في ميدان محاولات منح أقل من 1% من السكان حق تقاسم ايرادات الدولة مع 99% من السكان.
في الأثناء، ستمتد حالة اللاثقة بالبنوك لسنوات طويلة، تطول طالما حقوق المودعين مستباحة وطالما لا محاسبة ولا مساءلة، وطالمة يستمر المصرفيون في إنكار مسؤوليتهم عن الأزمة، وينتظرون الإتيان بحاكم جديد لمصرف لبنان يشبه رياض سلامة، وهذا هو الأرجح مع منظومة تطرح ترشيح سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، ولا عجب أن تأتي بحاكم للبنك المركزي على شاكلتها، حاكم يحابي البنوك على حساب الدولة والمودعين.
إذا نحن أمام سنوات طويلة من بنوك الزومبي وبالتالي اقتصاد الزومبي. ويعني ذلك توسع اقتصاد الكاش هرباً من البنوك المفلسة لكن المستمرّة بقدرة قادر، مع شبه انعدام للإقراض. فالإقراض المحرّك للنمو والاستثمارات سيبقى بعيد المنال، لأن الايداع في بنوك الزومبي شبه مستحيل. وما حسابات "الفريش" الآن إلا لزوم الصرف والسحب والتحويل القريب العاجل والجاري. ولا يمكن أن نجد ودائع طويلة الأجل في السنوات المقبلة تصلح للإقراض منها.
ويذكر أن اقتصاد الكاش أرض خصبة لكل أنواع التهرّب الضريبي، ويجد فيه كثيرون فرصاً ذهبية لصفقات وتعاملات خارج أي إفصاح. وفي نوع كهذا من التعاملات النقدية تنتشر الأعمال الخارجة على القانون والأعمال المافيوية فضلاً عن أنها من أفضل وسائل تمويل الإرهاب أيضاً.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|