محليات

النظام اللبناني الجديد

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

استطاع اللبنانيون، خصوصاً في الثمانينات من القرن الماضي، أن يتدبّروا حياتهم على نحو مثير للتعجب. وجدوا البدائل التقنية لتوليد الكهرباء، لتأمين المياه، ولاستمرارية أنظمة الاتصال. ابتكروا نمط حياة "متعايش" مع ظروف الحرب. مقابل القذائف المدمِّرة، لم يتوقف النشاط العقاري. مقابل خطوط التماس، لم تتوقف الحركة التجارية بين المناطق المتحاربة. مقابل انفلات الميليشيات، لم تتوقف المدارس والجامعات عن التعليم العالي الجودة.

المذهل حينها أن النظام المالي والمصرفي كان في حال جيدة. الإدارة العامة بقيت تعمل إلى حد كبير. أجهزة الدفاع المدني، الإسعاف، المخافر، المحاكم، الضمان الاجتماعي.. ظلت فاعلة وحاضرة.

والأهم، أنه في خضم كل الفوضى وموجات التهجير والتدمير والمخاطر الأمنية والقتل اليومي والعنف المجاني، حافظ اللبنانيون على مستوى معيشي لم يخلُ من الرفاهية عند شطر واسع منهم. والبارز حينها استمرار "الصناعة الثقافية" (الفن، النشر، الإعلام، السينما، المسرح..).

نذكر كل ذلك، لنقول اليوم إنه بعد مرور ثلاث سنوات وبضعة أشهر على الانهيار الاقتصادي والمالي والاستعصاء السياسي والتقهقر الاجتماعي والضمور الثقافي، يبدو أن اللبنانيين بدأوا يتلمسون سبل معايشة "الأزمة" المستوطنة والمستفحلة، بألم أقل، وبقدرات أفضل على التكيّف والتدبير، وإيجاد البدائل والوسائل التي تعينهم على التخفيف من تبعات الكارثة التي حلّت بالبلاد.

أرقام وإحصاءات الفقر حقيقية، الرواتب التي تشبه الصفر حقيقة، نسب البطالة مخيفة وفعلية، كل الوقائع الكئيبة تفرض نفسها وثقلها. مع ذلك، ما ليس مرصوداً هو ذاك "الاقتصاد" الخفي، المداخيل غير المرئية، النشاط المالي الموارب، مصادر الكسب والربح. يكفي مثلاً النظر إلى حجم الاستيراد الهائل، لندرك أن ثمة فئة واسعة من اللبنانيين، وربما طبقة مستجدة نشأت من الانقلاب المالي والاقتصادي، قادرة ومقتدرة استهلاكياً.

في السنوات الثلاث الماضية، كان موسم الأعياد يترجم نفسه في الأسواق وفي داخل السوبرماركت وفي المرافق السياحية و"المولات".. ضيقاً وضموراً وتقشفاً غير مسبوق. إنما هذا العام، حدث العكس تماماً. المواد والبضائع التي توقف استيرادها منذ نهايات 2019، بوصفها كماليات باهظة، عادت لتغمر الأسواق. كمية السيارات الجديدة المستوردة هذا العام تفوق بكثير مجمل ما تم استيراده في عدة أعوام.

إلى حد ما، عادت مظاهر "سحر البرجوازية الخفي" على نحو غير مفهوم كيفية عودتها، طالما أن الكارثة الاقتصادية والمالية لا تزال بلا أي علاج.

ما يمكن استنتاجه من هذه "العافية" النسبية، أن الدولة وحدها بقيت على إفلاسها ونكبتها، فيما استطاع قسم كبير من السكان أن يجدوا وسائل النجاة ومصادر الدخل من دون الحاجة لا للدولة ولا للنظام المصرفي المنهار.

ابتكار "اقتصاد" غير مرئي، أو حتى غير شرعي في جزء منه، هو الآن شريان حياة للسكان. نظام مالي دولاري لا يتأثر بمصير العملة الوطنية. نظام مداخيل بديل عن رواتب الدولة وجهازها البيروقراطي الضخم. تجديد وتوسيع نظام التحويلات من المغتربين الذين تكاثرت أعدادهم في السنوات الأخيرة، وهؤلاء الجدد منهم أكثر صلة والتزاماً بعائلاتهم. قطاع سياحي كان على شفير الهاوية، وها هو اليوم يتحدث عن مداخيل بمليارات الدولارات! أيضاً الأحزاب الكبيرة، التي فقدت توازنها في السنوات الماضية، استطاعت تأمين مصادر تمويل جديدة، لتضخ دولاراتها في شبكتها الاجتماعية و"بيئاتها الحاضنة". ولا يستهان كذلك بالأعداد الكبيرة والمتكاثرة للجمعيات غير الحكومية التي تأتيها ميزانيات معتبرة من العملة الصعبة. وهذا بالإضافة إلى المؤسسات الدينية، الطائفية، الراعية والحامية والداعمة لأهل الملة والمذهب، مسكناً وتغذية وتعليماً.

بالتأكيد، حدثت تغذية ارتجاعية بين القطاع الخاص المستعيد بعض عافيته ونظام الفساد الزبائني والحزبي والبيروقراطي، فتم تعديل منظومة الرشوة والتنفيعات المتبادلة، على نحو يصبح فيه الموظف الذي لا يتعدى مدخوله الشهري أربعة ملايين ليرة، يتحصل يومياً على المبلغ إياه إن كان في الموقع الإداري المناسب.

لا نغفل أيضاً عن اقتصاد "التهريب" ودوره في تخريب اقتصاد الدولة من جهة، وإنعاش اقتصاد الأفراد من جهة ثانية.

على منوال الثمانينات تقريباً، يبدو أن اللبنانيين تدبروا حياتهم وماليتهم. لكن هذه المرة بلا دولة ولا مصارف ولا عملة وطنية. تماماً كما استغنوا بنسبة 99 بالمئة عن كهرباء الدولة، بحلول تقنية متعددة.

كأننا أمام اقتراح نظام لبناني جديد قائم بالضبط على الشغور والفراغ وعلى اللادولة، لا حاجة فيه لمصرف مركزي ولا لحكومة ولا لرئيس جمهورية ولا حتى لمجلس نواب. نظام سياسي-اقتصادي جديد، لا حاجة فيه للقضاء والقضاة، ولا لأي وزارة.

هذا بالضبط سر نهاية الاحتجاج والغضب، وانتعاش الأسواق والاستهلاك وعودة مظاهر الترف.. وسر بقاء "الفراغ" لوقت مديد، الآن وفي المستقبل.

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا