"عودة السوريين"... رئيس بلدية يتحدث عن "نوايا خبيثة" ويدعو للحذر!
أنا من مرّ عليها هذا كلّه... وحاربت بشراسة من أجل حرّيتها
رأيت أمي على مر السنين تتحمل زواجاً فاشلاً وعنفاً جسدياً ومعنوياً وتقمع المرأة في داخلها "كرمال الأولاد". كانت تقول دائماً إنها ستترك والدي عندما نبلغ جميعنا (أي أولادها الثلاثة)، سن الرشد. رأيتها نحيلةً جداً. رأيتها بائسةً لا تبتسم. رأيت دموعاً عالقةً على حافة جفنيها. كانت تقمع دموعها خوفاً على مشاعرنا، ولكن بؤسها كان يصرخ بلا صوت ويهز أعماقنا. كنت أتوسّل إليها أن تتركه، ووعدتها بأن أبقى بجانبها، وأقسمت لها بأننا سنبني معاً منزلاً آمناً لنا ولإخوتي. كانت تقول لي: "بعدكن صغار". كانت تردّد: "بس تكبروا منفل". كان يومها كرهي للأولاد والأمومة يكبر شيئاً فشيئاً. مع الأيام، ارتبط مفهوم الأمومة لدي بالقمع والخنوع. كانت الأمومة تعني لي تخلّي المرأة عن كيانها وذاتها لمصلحة أسرتها وصغارها. علاقة سامّة تنبذ خلالها المرأة نفسها للاهتمام بمخلوقات صغيرة، تشكّل عقبةً أمام السعادة والأمان والنجاح والجمال. ظلّ مفهومي للأمومة ذاته، وتصميمي على عدم الإنجاب يكبر يومياً، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت الذي كنت إحدى ضحاياه، ولا أزال أعاني من تبعاته النفسية.
يوم الخامس من أيار/ مايو 2022، علمت بأنني حامل. كرهت جسدي وتمنيت لو أنني أتمتع بقدرات خارقة تسمح لي باقتلاع هذا المخلوق الغريب من أحشائي. فأنا في قمة نجاحاتي المهنية، وكنت قد وصلت، وللمرة الأولى في حياتي، إلى حالة من الرضا عن جسدي ومظهري الخارجي، وكنت أخطط وحبيبي لعدد من رحلات السفر، كي نكتشف العالم معاً. حبست نفسي في غرفتي. بعد الحالات الهستيرية والعصبية التي انتابتني يومها، قلت لنفسي إنه حان وقت إيجاد الحلول، وقرّرت أنني لن أسمح لأيٍّ كان بأن يأخذ مني هذه الحياة التي بنيتها. اتصلت أولاً بإحدى الجمعيات التي كنت قد علمت مسبقاً، وبمحض الصدفة، أنها تستطيع تأمين حبوب الإجهاض للنساء اللواتي يرغبن في التخلص من جنينهن. طبعاً، وككل شيء في هذه البلاد، أخبرتني عاملة الهاتف بعد المراوغة والأسئلة التي لا تُحصى، وببرودة بينما يفيض بركان في داخلي، بأن الجمعية لا تستطيع تأمين الدواء وأنه يتوجب عليّ أن أطلب من طبيبي النسائي وصفة الدواء أو أن أحاول أن أبتاعه من الصيدلية. أغلقت الهاتف لتعاودني نوبات الهلع والغضب من حالتي وكرهي لهذا المخلوق الذي يستبيح رحمي، ومن كذب دوائرنا ومجتمعاتنا الضيقة التي تدّعي أنها مساحات آمنة.
اتصلت بطبيبي النسائي لعلّه يستطيع أن يساعدني في التخلّص من الجنين. أبدى طبيبي استعداده للمساعدة وحدّد لي موعداً لزيارته. مرّ يوم آخر قبل الزيارة، رأيت نفسي أتوقف خلاله عن شرب الكحول والسجائر عن غير قصد. أصبحت أهتم بالجنين من دون أن أقصد. آكل حتى لو لم أرغب في ذلك، وأشرب المياه والعصير بكثرة، إلى أن جاء يوم الزيارة المنشود. بحركة غريبة وغير مقصودة، تحسّست بطني وكأنني أودّع بحسرة مخلوقاً كنت أمقته قبل يومين. جهّزت نفسي وأغراضي وذهبت وحبيبي كي نحسم الأمر للمحافظة على سياسية اللا-أطفال التي اتفقنا عليها مذ قرّرنا العيش معاً. تمدّدت على السرير في غرفة الـecho، وتضاربت في رأسي آلاف الأفكار وتصارعت في داخلي آلاف المشاعر. علمت يومها بأنه مرت على حملي 8 أسابيع، ولكن بسبب النزيف المتكرر لم أكن أعلم أنني حامل. أسمعني طبيبي دقات قلب، وقال لي إنها دقات قلب الجنين. دقات كاملة متكاملة وعالية جداً كتلك التي أسمعها عندما أنام على صدر حبيبي بحثاً عن الأمان. عدلت عن قراري، وأردت المزيد من الوقت للتفكير. سألت نفسي أسئلةً لا تُحصى. كنت كأنني أراقب نفسي من بعيد وأستغرب كل تصرفاتها وقراراتها. ماذا بها؟ لمَ التفكير؟ لمَ لا تقتلع ذاك الشيء من أحشائها؟ أجريت عدداً من الفحوصات وعدت إلى المنزل. تابعت إقلاعي عن الشرب والتدخين، وتابعت حميةً غذائيةً صالحةً للحوامل، وبدأت بالاستماع إلى موسيقى مخصصة للجنين والحوامل، وبقراءة العديد من الدراسات المتعلقة بالأطفال والحمل والإنجاب، وكلها ممارسات غريبة عني وكأنني تحولت في ليلة وضحاها، إلى شخص آخر ذي حاجات ورغبات مختلفة كلياً. ما هي إلا أيام قليلة حتى بدأت بالتواصل مع جنين؛ أصبّح عليه كلما أستيقظ صباحاً وأدردش معه قبل النوم. مع الوقت، بحت لحبيبي عن رغبتي في الحفاظ على الطفل. تقبّل رغبتي وأظهر شجاعةً وقوةً في التحضير لكل التغييرات التي سوف تطرق على حياتي وحياته وحياتنا معاً. اخترنا الزواج المدني خارج البلاد كونه غير مسموح هنا. وحدّدنا موعد الزواج في الأوّل من حزيران/ يونيو، أي بعد نحو أسبوعين من يوم علمنا بالحمل.
معركة أخرى تدق بابي: فأنا حامل، وغير متزوجة، ويتوجب عليّ أن أبلغ عائلتي المتديّنة بأنني سوف أتزوّج بعد أسبوعين من شاب لا يعرفونه، وسأسلك طريق الزواج المدني وسأتزوّج خارج البلاد. طبعاً مع إخفاء تفصيل حملي. "الزواج المدني زنا!"، قالت لي أمّي، وهي ذاتها الأم المُعَنَّفة التي صارعت المحاكم الروحية كي تحصل على حضانة أولادها. "سرقتيلي فرحة عمري"؛ قالت لي، وصوتها يرتجف. فرحة عمر أمي لم تكن نجاحاتي واستقلاليتي واهتمامي بها وبإخوتي، فكل هذه تفاصيل بالية في نظرها. "فرحة العمر" في نظرها فستان أبيض وزغاريد وجهاز وردّة إجر. كنت أذهب إلى المنزل في الجنوب خلال عطلة نهاية الأسبوع، ألقي التحية على الجميع عند دخولي، وتبادَل تحياتي بالصمت. فأنا مجرمة، غير مؤمنة، بادلت تضحيات أمّي بلا مبالاة؛ هكذا كانوا يتهامسون. كانت العائلة والجيران يتهافتون لمواساة أمّي في مصابها الأليم، "عرفتوا يا حرام، بنتا لح تتجوز مدني". حتى أختي الصغيرة، التي كنت أتباهى بأنني من ربّيتها، توقفت عن مكالمتي. أخي الكبير (الذي يصغرني سناً بالمناسبة)، فتح تحقيقاً عن خلفيات قراري هذا، تحقيق أقل ما يقال فيه إنه ذكوري، وسمح أخي من خلاله لنفسه بالتدخل في شؤوني الخاصة، أنا التي كنت أعدّ نفسي مستقلّةً وحرّةً. سقطت حريتي وحُقرت على عتبة باب منزل الوالدة. ذاك المنزل التي كنت أنا المسؤولة الوحيدة عن مصاريفه كاملةً.
أدركت أن المسألة لم تعد مسألة طفل أحمله، أو زواج مدني أريده، لم تعد مسألة خيارات، بل أصبحت مسألة حريّات، إمّا أن أكون خلالها أو لا أكون. إمّا أن أثبت أنني سيدة نفسي، وسأفعل ما يحلو لي، وإمّا أن أخضع لسلسلة الضغوط الممارسة عليّ كوني امرأةً اختارت طريقاً غير مألوف، وغريباً عن عادات منطقتها ومحيطها. خلقت يومها حائطاً شفّافاً بيني وبين الجميع. حصّنت نفسي وما عادت إهاناتهم تصلني وطفلي، بل باتت تنزلق على ذاك الجدار الشفاف. يوم الجمعة في 27 أيّار/ مايو، أي قبل سفري للزواج بيومين، حدثت مشادة كلامية بيني وبين أمّي، خرجت على إثرها أمي بانفعال من غرفتي، وما هي إلا دقائق حتّى لاحظت أن الكرسي الذي أجلس عليه تحوّل من الأزرق إلى الأحمر القاني. أدركت أنني أنزف وتوجهت إلى حمام منزل العائلة. وحيدةً، ومرتعبةً، أرجف بشدّة، وأبكي، وبعيدة عن حبيبي ووالد طفلي، وغير متزوجة وحامل، وأنزف بشدّة في منزل عائلتي، حيث إخوتي وأمي يقبعون في الغرف المجاورة. حاولت إيقاف النزيف لكنّه كان يزداد شدّةً، وما هي إلا دقائق حتّى تحوّل الحمام إلى مسرح جريمة. دمائي تملأ المكان. أحسست بأن شيئاً ما ينزل منّي، حسبته طفلي، كان عليّ التأكد فأدخلت يدي إلى جوف المرحاض حيث وجدت قطعة دماء كبيرة وجامدة تتخللها خلايا بيضاء رفيعة وصغيرة. حسمت أمري، سأنقذ طفلي، سأخبر أمي بأنني حامل وسأطلب منها مرافقتي إلى المشفى. صرخت بأعلى صوتي فجاءت أمي إلي وكاد أن يغمى عليها من كمية الدماء التي غطّت المكان، والتي كانت تسيل على رجليّ كالشلالات بلا توقّف. قلت لها بصوت تخنقه الدموع: "أنا حبلة، ليكي طفلي عم يموت"، مشيرةً إلى قطعة الدماء الكبيرة والغريبة التي انتشلتها من قعر المرحاض. أخفت أمّي الموضوع كلياً، ونظفت المكان، وساعدتني على الاغتسال، وذهبت بي إلى أحد مستشفيات العاصمة. كانت تمسك بيدي وتقول لي كم تحبني وتحب طفلي وستنتظره بفارغ الصبر. قالت لي إن هذا سيكون سرّنا إلى أن أتزوج ويمرّ شهر على زواجي. كنت أعلم أن جزءاً منها كان يخاف عليّ، وعلى احتمال فقداني، خصوصاً بعدما رأت واحات الدماء، في المقابل هناك جزء آخر منها يرفض الإجهاض ويعدّه جريمةً أفظع من جريمة الزواج المدني.
أمضيت ليلة 27 أيّار/ مايو، على فراش إحدى غرف الطوارئ. لا إجابات شافيةً. لا أعلم ماذا سيحل بي. أعلم فقط أنني لم أفقد صغيري. كان قلبه ينبض وكان يتحرّك بحرية في أحشائي. "بتصير"، قالوا لي في المشفى. بعد خروجي يوم الإثنين في 30 حزيران/ يونيو، قرّرت زيارة طبيبي الذي لم يتكبّد عناء الحضور حتّى إلى المشفى خلال تلك الليلة الدموية. قال لي بدمّ بارد "ليش جاية لعندي؟ سافري عادي، ما في شي". سافرت يومها وتزوجت. لم يكلمني أحد من عائلتي يوم زفافي. لا أحد سوى جدّتي التي لا تقوى على مخاصمتي. أمّن لي حبيبي كل شيء. أصرّ أن أرتدي ثوباً جميلاً، وجهّز لي باقة الورود وجلسة التصوير، كما تواصل مع مصفف الشعر وخبيرة التجميل. على الرغم من كل محاولاته الجميلة لإسعادي يومها، بقيت حزينةً. نشرت صورتي بالثوب الأبيض عبر خاصية الـstory على تطبيق Instagram، حيث انهالت عليّ الأسئلة الغريبة من بعض الأشخاص في بلدتي، كان أغربها رسالة من شخص بالكاد أعرفه يقول فيها: "عنجد تجوزتي أو تمثيل؟". سجّل زواجي المفاجئ صدمةً لمجتمعي المخملي المزيّف.
ففي مجتمعي يعلم الجميع بكل شيء فكيف فاتهم خبر زفافي؟ يستغربون... ويتناقلون أخبار "الصبحيات" المزيّفة: "أكيد أخدت من غير دين"، و"أهلها ما بيحكوا معها"، و"مش راضيين مش راضيين"، و"هيدي آخرة الحريّة"، و"لك إخواتها صورة ما نزلوا"... كلّ ذلك كان يصلني، ولكنني كنت في مكان آخر، مكان يجمعني بزوجي وطفلي، عائلتي الصغيرة، قلت لنفسي إنني لن أهتم لشيء آخر. يوم عودتنا بدأت أنزف من جديد على متن الطائرة. وصلت إلى مطار بيروت مضرّجةً بدمائي، أبكي وأشكو حظّي وكل ما يحدث لي، فيما زوجي يحاول السيطرة على الوضع بقلق شديد. من المطار إلى المشفى، وعلمت يومها أنني كنت أعاني مما يسمّى الـPlacenta detachment. كان من الخطير جداً أن أمشي أو أستقلّ سيارةً، بينما طبيبي، الذي لم يأتِ مجدداً إلى المشفى، سمح لي بالسفر ولم يفصح لي عن تفاصيل حالتي لأسباب لا أزال أجهلها. كان جنيني لا يزال يصارع. كان قوياً، وكان قلبه لا يزال ينبض. عدت إلى منزلي بصحبة كيس كبير من الأدوية والإبر. صارع جنيني لمدة أسبوع آخر. يوم الأحد 12 حزيران/ يونيو، بدأت أشعر مساءً بوعكة قوية. أوجاع هائلة لا أقوى عليها. كنت أصرخ من وجعي. عدت أدراجي نحو غرفة الطوارئ المشؤومة تلك. هذه المرة لم أسمع دقات قلب جنيني. ربما استاء من محاولات البقاء. ربما شعر بأنه آتٍ إلى مكان فظيع غير آمن. إلى مكان تملأه الجمعيات المنافقة والأطباء المخادعون والأماكن المظلمة التي تفتقر إلى الأمان. شعر بأنه آتٍ إلى مجتمع قاسٍ لا يصلح للعيش، فرحل. عدت إلى منزلي مجدّداً هذه المرة بلا أدوية ولا إبر ولا طفل. تناولت طعام العشاء مع زوجي على العتم، فقد كانت الكهرباء مقطوعةً كعادتها بعد منتصف الليل. احتسينا كأسين من النبيذ، وبدأنا بجولات بكاء حتّى ساعات الصباح الأولى. متعب كل ما مررنا به...
بعد يومين من فقداني الجنين، عدت إلى الطبيب ذاته، إذ لم يكن لدي حلّ آخر. أردت فقط التأكد من أن جسدي وصحتي في حالة جيدة. عند دخولي قال لي الطبيب: "بسيطة، شوية دم مهم الولد ما بو شي"، وهنا كانت الصدمة. طبيبي النسائي الخاص، الذي أمّنته على حياتي وحياة طفلي، لم يكن يعلم حتّى أنني فقدت الطفل في المشفى الذي يعمل فيه، وتحت إشراف تلاميذه. أمّي حزنت وكانت داعمةً شرسةً لي لكنني كنت أشعر بأن جزءاً منها كان مرتاحاً لعدم اضطرارها إلى تبرير انتفاخ بطني بعد أشهر قليلة على زواجي.
مرّت الأيام، وتابعت عملي بنجاح. ظلّ قوامي جميلاً ولا أزال راضيةً عن مظهري. سافرت وزوجي مرّات عدّة كما أردنا. يزول الألم مع الوقت ويقل الكلام عن كل تلك المرحلة التي خرجت منها بدروس كثيرة. تغيّرت كثيراً... ما كنت أريد أطفالاً واليوم أريدهم. لم أكن أريد الزواج واليوم أنا امرأة متزوجة وبيتها الزوجي هو المساحة الآمنة الوحيدة لديها. أدركت أن الحرية لن تُقدَّم يوماً لنا على طبق من فضّة، بل علينا المحاربة بشراسة لأجلها. أيقنت أنني امرأة قوية وشجاعة. أنا من حاربت العنف الأسري وحرّرت أمي وإخوتي من والدي. أنا من حاربت المحاكم الروحيّة من داخلها. أنا من خضت تجربة المساكنة قبل الزواج. أنا من سلكت طريق الزواج المدني حفاظاً على حقوقي. أنا من حملت من حبيبي قبل زواجنا واخترت الحفاظ على صغيري. أنا التي لم يصعب عليها أي شيء ولن يسلب مني أحد ذلك.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|