يوم من حياة امرأة سوريّة في المخيم
"درج": خليفة الخضر - صحافي سوري
لم يكن متوقعاً أن يستقر المهجّرون في مخيمات الشمال السوري، لكن تصاعد الاشتباكات وجهود التهجير التي يمارسها النظام السوري، حوّلت الخيمة إلى "منزل".
يزيد عدد المخيمات في الشمال السوري على 1489 مخيماً، قررت وزارة الداخليّة التركيّة مؤخراً تحويلها إلى “منازل”. استقر في هذه القرى والشقق المرتجلة آلاف المهجرين، 23 % منهم نساء يمارسن مِهناً مختلفةً لإعالة أنفسهن كزراعة الأرض وحصادها. رافقنا في هذا التقرير الخالة صفيّة (49 عاماً) نهاراً كاملاً، هي القادمة من مدينة السخنة التي يسيطر عليها النظام السوري تخبرنا عن “المنزل” الجديد وعمرانه، وعلاقاتها مع النساء حولها، ومشاكلهن داخل “المنزل” وأثناء العامل.
شروق الشمس
لا تنام الخالة صفية بعمق، عين نائمة وأخرى مستيقظة حسب وصفها، تصحو مع أشعة الضوء الأولى قبل صلاة الفجر. تبحث عن الدفء أولاً ، ولاعة و تراب أسود (بقايا الفيول) تكفي لإشعال نار خارج الخيمة. تغطي الخالة صفيّة وجهها أثناء إشعال النار خوفاً من (بقايا الفيول) التي قد تصيب عينيها وتؤدي إلى التهاب سبق أن أصابها وهدد عملها عدة أيام. تتجه نحو خزان المياه داخل الأرض، تملأ إبريق الشاي ثم تضعه على النار حديثة الولادة. يغلي الشاي بعد نصف ساعة، وتتجه به الخالة صفية إلى الخيمة لتزرع الدفء في أطفالها قبل الصلاة.
الصباح الباكر: في انتظار الجاويش
تشير كلمة الجاويش في المخيم إلى رب العمل الذي تنتظره نساء المخيم صباح كل يوم. يُنصتن في انتظاره أمام مدخل المخيم لالتقاط صوت سيارته التي تقترب من بعيد. يصل الجاويش وتقرفص النساء في صندوق السيارة بانتظام، بعد شجارات عدة انتهت بتوزيع الأماكن في المساحة الضيقة دون الدخول في جدل يومي.
يشكل صندوق السيارة مكاناً آمناً تتحادث فيه النساء قبل أن ينهمكن في عملهن، يُمكن القول أنها “صبحيّة” تتخللها أشعة شمس الصباح وضجيج المحرك، الذي يخلق فضاءاً من الخصوصيّة. كادت وفاء (اسم وهمي لإحدى النساء في المخيم) أن تفوّت إحدى الصبحيات، إذ تأخرت على غير عادتها. لمحتها النساء بعد انطلاق السيارة تركض خلفهم، فتوقف الجاويش، وصعدت وفاء آخذةً مكانها في الصندوق وهي تُلملم أنفاسها.
أخبرتني الخالة صفيّة أنها سألتها:” لمْ تتأخري من قبل ! هل من مشكلة؟”
تَسِرُ إليّ الخالة صفية سبب تأخّر وتنقل لي الإجابة على لسانها قائلةً :
“كلكن تعرفن أني مهووسة بالنظافة، والبارحة كنت أنشّف أحد الأغطية فاتحة اللون قرب المدفأة شبراً شبراً، بينما يُقلب زوجي فيديوهات لبنات يرقصن على تطبيق تيك توك. زاغ نظره بيني وبين البنات. خمّنت ما يريد، إلا أن الإرهاق بدأ يسري بجسدي، تحاملتُ على نفسي ورتبت الغطاء ووضعته في مكانه ونمت متعبةً دون أن أنزع معطفي هذا.
نقر زوجي بإصبعه على رُدفي، الحركة التي تعني أن وقت الجنس حان، لكني قلت له من دون أن التفت إليه، إرفع ثوبي وافعل ما شئت، وحين تنتهي أعد الثوب مكانه لأن الجو بارد. بدأ يتمتم غاضباً، فقلت له من دون وعي أنه لن يجد عندي ما يجده لدى تلك الفتيات على التيك توك حتى لو لصق كل صورهن على ظهري”.
تشير الخالة صفية إلى غضب وفاء التي قالت :”بدا عليه الامتعاض، لم أهتم وواصلت نومي إلى حين سمعته يتنفس بشكل متقطع، ويتفوه كلمات ممتعثرة: هل هذا الغطاء الفاتح هو ما أتعبك وأبعدَك عني؟ شاهدي ماذا سأفعل!. التفت نحوه لأشاهده يستمني بيده على الغطاء”.
تنهي الخالة صفية القصة قائلة على لسان وفاء:” تأخرت لأني قمت بعد فِعلته بتشغيل رماد المدفأة وأنا متكئة، وسخنت قِدر الماء، ووضعت الغطاء به حتى لا يتسخ، ثم عدت إلى النوم مضطربةً”.
أخبرتني الخالة صفية عن امتعاض النساء، اللاتي شتمن زوج وفاء وكل واحدة منهن تشتم زوجها سراً في ذات الوقت، لكن الخالة صفية ألقت عليهم حكمة :”اتعبي من العمل أفضل من تعبك إثر ضرب زوجك لك، تذكرن أنه لا يعمي غضب الرجل إلا لمعة الذهب في معاصمكن، كلما جمعتُن مالاً واشتريتُن أساور من الذهب، زادَ احترام أزواجكنّ”.
أخبرت الخالة صفية حينها النساء عن سر هناء زواجها الذي رددته على مسامعي أيضاً قائلةً: “عندما تزوجت أبو أولادي (حين أغازل زوجي أقول له أبو أولادي، لأنهم فخر له، وفخر لي أنه والدهم) لم يكن الزمن ملوث مثل هذه الأيام. زواج ليس الصبر مهر له، ليس بزواج. صبر زوجي علىّ جعلني أتمسك به أكثر، لا أعرف الحب الذي يخبروننا عنه في المسلسلات التركية، ما أعرفه أني تزوجت بعمر الـ16 وحتى اللحظة، أي بعد 29 سنة، لم يتسبب ببكائي أبداً. يوجد بيننا اتفاق ضمني، عندما يغضب أحدنا يصمت الآخر، لذلك لا تنطبق عليه صفات الرجال التقليديين”.
بداية نهار العمل: طبقية الأيادي الناعمة والخشنة
تصل السيارة إلى الحقل، طُولُ الطريق يُهدِدُ استمرار الأحاديث، بعضها ينتهي حال وقوف السيارة، وبعضها يؤجّل إلى طريق العودة، وإن كان الشأنُ طارئاً، فتلتصق من تريد الحديث بالخالة صفيّة أثناء العمل، حين تستلم كل امرأة “خطها” المخصص لها، ويَنحنين جميعاً لإمساك الخط، وبأيديهِن البذور أو السكين للحصاد، ليبدأ بعدها الحبو في التراب.
تتشابه النساء أثناء العمل لمن يراقب من بعيد، لكن بينهنَ اختلافات كمكان نُزوحهن ومصائر أزواجهن المتعددة “مقاتل مع داعش، معتقل لدى نظام الأسد…”، وأكثرها وضوحاً هي الفرق بين من اعتدن البذار والحصاد، ومن ولم يمسسن الأرض من قبل، أولئك يُعرفنَ من بشرتهن الناعمة. المفارقة أن الخالة صفية وأقرانها من ذوات الأيادي الخشنة كجذوع الأشجار محط حسد “نساء المدن”، فالخالةُ صفيّة تمسك الخط المخصص لها ولا تفلته إلا في نهايته، بعكس المدللات اللاتي لم يخرجن أكثر من شارعين خارج منازلهن حسب تقريع الخالة صفيةّ.
منتصف نهار العمل: بين شهوة جاويش وأدب آخر
لا يقود الجاويش السيارة ويوصل النساء إلى مكان العمل فقط، بل يراقب النساء أثناء العمل، لا لضبطِ إيقاعهِن فقط، بل لتأمُل مؤخراتهن حسب الخالة صفيّة التي تحاول دوماً لفت انتباهه بعيداً عن النساء، إذ تفتح حديثاً معه، أو تعبس بوجهه موظفةً خضرة عينيها لزرع الرعب داخله.
تستشير النسوة الخالة صفية في شؤنهن، إحداهن صبية من مدينة كبيرة لم تبلغ من العمر 17 عاماً، سرّت لصفية أن الجاويش طلب منها بأدب واحترام الموافقة على الزواج من أخيه المُسن، لكنها مترددة وتطلُب المشورة.
الحوار بين الاثنتين خُصوصي، بنظرة من الخالة صفية تبتعد باقي النسوة قليلاً، ويضبط إيقاع الحديث بينهما حركة زرع بذور البطاطا في الأرض، إذ يجب أن تبطئ الخالة صفية كي تبقى الصبية بجانبها.
قالت الصبية لصفيّة أنها سألت الجاويش إن كان في منزل أخيه مدفأة مازوت، إجابة الجاويش كانت واضحة، ونقلتها الصبية إلى الخالة صفيّة:” يمتلكُ أخوه مزرعة ومستودع لتخزين البطاطا وحالته المادية ميسورة. ماتت زوجته منذ فترة ويريد أن يتزوج أي امرأة تقوم بخدمته”.
تصمت الخالة صفيّة مُنصتةً بينما تدفع البذور في الأرض.
تتابع الصبيّة حديثها للخالة صفية: “سألت الجاويش إن كان لأخيه منزل حجري وشرفة؟ (صمت)، أحلم أن أشرب القهوة على شرفة كما تفعل البنات بعمري على التيك توك، أريد أن أستند بظهري على حائط دون أن أخاف وقوع قماش الخيمة، أو يتسخ ظهري من تراب الحائط الطيني. أريد أن أشغل مدفأةً دون أن أَتسخ. أريد الاستحمام بماء ساخن دون التخطيط لحمام جماعي مع نساء أخريات حتى نوفر الماء. أريد أن أعيش كما تعيشُ أي فتاة بعمري، ماذا تقولين يا خالة صفية، هل أوافق؟ “
ردت الخالة صفيّة التي كادت أن تنصحها بالرفض: فلنصلي على الحاضر (أي لنقرر وفقاً للمعطيات الحالية).
تزوجت الفتاة بعد أسبوع ولم تعد إلى الحقل.
استراحة الغداء: ملاحظات حول العمل
تتشارك النساء ما جلبنَه من طعام ساعة الغداء، وعلى الأغلب بقايا طعام الأمس. تصنع النسوة الشاي والقهوة على الحطب، ويبدأ الجدل حول من تحب حصاد أو زرع البطاطا، ومن لا تحب قطاف الزيتون والفستق الحلبي. تعطي كل واحدة منهن حجج واهية حول تفضيليهن حصاد محصول معين على غيره.
ترد عليهن الخالة صفيّة: “الرقاصة بتقول عن الأرض مايلة”، وتحدثهن بعدها عن مهن أخرى كان يمكن أن يمارسنَها، وتختم بمثل آخر :”الغزالة تغزل على عود”.
بعد الظهر: اقتناص العشاء
تتابع النساء العمل في الحقل، تقوم بعضهن باقتناص بعض المحاصيل ووضعها في جيوبهنّ، تقول لي الخالة صفيّة: “سمّها ما شئت، سرقة أو أي شيء، لا يهم، لا تفعل كل النساء هذا، لكن الكل يسرقنا، اتركنا نعيش لذة السرقة كلذة، بغض النظر عن نوع سرقتنا”.
تقنية الاقتناص هذه مُلفتة، أثناء موسم قطاف الزيتون مثلاً، تترك بعض النساء الأغصان الداخلية دون قطف ويشرن إليها بعيونهن، ليقمن لاحقاً بقطفها وأخذها إلى المنزل. تجمع نسوة أخريات قوت يومهن من خضروات كالباذنجان أو الخيار أثناء القطاف، وتؤكد الخالة صفية: “صدقني لم تسرق أي واحدة منهنّ أكثر من حاجتها اليومية”.
الليل: وِد في خيمة وجفاء في أخرى
تجتمع النساء قبل العشاء حول النار كي يطبخن، يجهز الطعام عادة مع حلول الظلام، لتتجه بعدها كل واحدة منهن إلى خيمتها.
تخبرني الخالية صفيّة عن سهرتها مع زوجها وتقول:”أتحدث أنا وزوجي عما شهدناه في النهار، ثم نغتاب الناس، أتحدث عن الكل واغتاب الجميع، لكني لا أفشي سر امرأة لزوجي، سرُ امرأة لا يُفشى لِرجل، إذ سيفكّر في تلك المرأة حتى لو كان ملاكاً أونبياً، والله يسترنا مما بعد التفكير”.
يتسلل إلى خيمة الخالة صفية في بعض الليالي أصوات صراخ أو شجار بين الجيران، لا تذهب الخالة صفية لمعرفة السبب إلا إذا سمعت صوت ذو نبرةٍ تدل على أن مشكلة كبيرة حدثت.
تخرج ليلاً لقضاء حاجتها أو لتجهيز الشاي، فتلمحُ بعض النسوة يجلسن أمام خِيامهن حتى ينام أزواجهن. يلعب الأولاد هنا دور المراقبين، هم من تأكد من نوم الزوج أو صَحوه، فحسب الخالة صفيّة “بعض النساء لا يطقن الجلوس مع أزواجهن بعد العشاء”.
تتعرض الكثير من النساء إلى حوادث أثناء العمل سواء في الحقل أو أثناء الذهاب إليه. أدى سوء الأحوال الجوية في أحد الأيام أدى إلى انقلاب السيارة التي تقلّ الخالة صفيّة إلى الحقل، فكسرت قدميها الاثنتين، وبقيت عدة أشهر في خيمتها، وحين تحسنت، أصر زوجها وأولادها على توقفها عن العمل. وافقت الخالة صفيّة، لكنها نفذت خطة بديلة لقضاء وقتها وتفريغ طاقتها. باعت قطعة ذهب كانت تمتلكها، واشترت ماكينة خياطة يدويّة، وبدأت تصلح ثياب سكان المخيم البالية وترقّع الخيام المتضررة.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|