انفجار صراع مكتوم بين الشيوعي وخارجين منه
فتح الكشف عن زيارة وفد من "شيوعيون لبنانيون" لدمشق ولقائه هناك مسؤولين في النظام، الباب أمام نقاش مفتوح انطلق مكتوماً في داخل البيئة اليسارية الشيوعية بشقّيها الحزب الرسمي الذي يقترب من العقد التاسع من عمره، وتلك المنفكّة منذ أعوام عن هذا الحزب شاقة لنفسها خيارات مغايرة ومنتقلة إلى فضاءات مختلفة تماماً، ثم تحوّل هذا النقاش سجالاً مدوّياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
إلى الأمس القريب، كان الحزب الشيوعي في حال سبات وسكون تامّين، تحديداً منذ أن أنهى قبل أقل من عام مؤتمره العام الأخير الذي كانت السمة البارزة فيه انتخاب قيادة جديدة من جيل الشباب، يومها استقطب المؤتمر الذي أعاد انتخاب حنا غريب أميناً عاماً الأضواء لكنه ما لبث أن عاد سيرته الأولى الخافتة.
وفي المقابل، كان الشيوعيون الخارجون عن الأطر الرسمية للحزب في فعل اعتراضي أقرب إلى الانتفاضة منه من أي توصيف آخر، وجلّهم من الجيل المخضرم أو جيل الثمانينيات يعيشون في أجواء أقرب ما تكون إلى أجواء نوادي النقاش السياسي، يقدّمون أنفسهم تحت مسمّيات عدة لإظهار تمايزهم عن الحزب الأم أو عدم إيمانهم به، وهي مسمّيات ظهرت لبعض الوقت ثم ما لبثت أن غابت تدريجاً ليثبت منها أخيراً إطار أطلق على نفسه مسمّى "شيوعيون لبنانيون".
وكانت نقاشات هؤلاء على قدر من الهدوء مع الإقرار بضرورة "العمل لتجاوز أزمة الحضور وإثبات الذات". ورغم ابتعادهم عن المركز، حرصوا بدايةً على عدم القطع مع الحزب والانتقال إلى مربّع العداوة معه.
واللافت أن الحزب الرسمي لم يبذل جهداً كافياً لإعادة وصل ما انقطع مع هؤلاء أو إعادتهم إلى خيمة الحزب ولو من موقع تعدّد الآراء وتنوّع الرؤى. وقد اكتفى بُعيد مؤتمره العام الأخير بتوجيه نداء لهؤلاء الخوارج يدعوهم فيه إلى العودة إلى "حضن المؤسسة الأم والإطار التاريخي". وفي المقابل، لم يبدِ هؤلاء أي استعداد للتفكير بالاستجابة لهذا النداء وخوض غمار حوار هادف مع "المركز" ليأسهم المسبق من إمكان حدوث أي تغيير في "واقع الحزب المأسور لخياراته" وفق المصطلح الذي يستخدمون.
هذه السردية الخلافية التي تعود جذورها إلى أكثر من عقدين، بدت في مراحل معيّنة وكأنها إقرار بطلاق بائن حصل بين الطرفين لا مجال للعودة عنه، إلى أن أتى أخيراً ما هزّ هذا التوازن الثابت وأعاد الصراع إلى صورته الأولى، وذلك عندما كشف الإعلام السوري الرسمي عن زيارة وفد من شيوعيّي لبنان إلى دمشق، ذاكراً صراحةً أنهم من الحزب الشيوعي نفسه إما لجهله بواقع الحال الانقسامي، أو لغاية في نفس يعقوب.
وكان الوفد برئاسة أحد الكوادر القيادية السابقة في الحزب خالد خدّاج، وأفيد أيضاً أن زيارة هذا الوفد كانت "رسمية" في إطار برنامج لقاءات مع مسؤولين في الخارجية السورية ومراكز أخرى تحت عنوان معلن هو "إبداء التضامن مع دمشق لصمودها البطولي في مواجهة الحرب الكونية عليها"، وذكر أن الوفد ضمّ نحو ثلاثين شخصية.
وعلى الأثر، ثارت ثائرة الحزب الرسمي فسارع مكتبه السياسي إلى إصدار بيان مسهب أنكر استهلالاً علاقة الحزب بالزيارة، معتبراً أن الوفد منتحل صفة. والواضح أن الحزب استغلّ النبأ والمناخات التي أحاطت به ليضمّن بيانه جملة نقاط ومواقف تظهر على نحو مكثّف، أي أرضية سياسية استقر الحزب عليها وما هي مواقفه من كثير من القضايا والمسائل التي كان يظن أنها محسومة عنده، مثل اعتبار نفسه جزءاً ثابتاً من محور "المواجهة للإمبريالية الأميركية بكل تمظهراتها وامتداداتها"، واستتباعاً جزءاً من توجّه قومي يبغي حشد "كل قوى الأمة في معركة المواجهة مع الصهيونية والرجعية العربية، ما يعني ذلك الالتفاف حول المقاومة للعدو الإسرائيلي".
وبمعنى آخر، بدا الحزب مستغلّاً الزيارة وما رافقها من ملابسات لكي يظهر أنه ما انفك مقيماً على عدائه القديم للنظام في دمشق، الذي بدأ يكبر ويتضخّم منذ ما بعد الشروع في تطبيق اتفاق الطائف، تحديداً بعدما استنكفت الوصاية السورية على لبنان عن إضافة الحزب إلى جملة الأحزاب المستفيدة من مغانم هذه الوصاية، ولا سيما أن الحزب رأى أن ضغوط هذه الوصاية حالت دون نجاحه في إيصال أحد مرشّحيه إلى الندوة البرلمانية منذ عام 1992.
واللافت أيضاً في بيان الحزب أنه أعاد التذكير بدوره التاريخي والريادي في إطلاق المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، تحديداً بعد اقتحام الجيش الإسرائيلي بيروت في أيلول عام 1982. وبدا الحزب كأنه يرد على الذين يتّهمونه بمخاصمة المقاومة وحزبها من خلال الإيحاء "بأننا نحن من أطلق أولى رصاصات هذه المقاومة، لذا لا نسمح لكم بالتشكيك بوطنيّتنا".
الزيارة نفسها ومن ثم بيان الحزب، فتحا أبواب سجال ما انفك يتوالى فصولاً حيال أزمة الحزب الشيوعي خصوصاً واليسار عموماً، وحالات التراجع والتصدّع التي يعاني منها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في مطالع العقد التاسع من القرن الماضي وصولاً إلى اليوم.
لم يعد خافياً أن زيارة الشيوعيين لدمشق هي في وجه آخر بمثابة إعلان بأن مجموعات الشيوعيين الخارجين من الحزب وعنه قد حسموا أخيراً وبعد طول تردّد خياراتهم فكانت تلك الزيارة المفاجئة وعاصفة الردود عليها جسر عبور لهؤلاء إلى فضاءات وقناعات نهائية، خصوصاً أن هؤلاء يرون منذ فترة أن الحزب قد وقع في قبضة "جماعات المجتمع المدني" وصار أسير توجّهات مشغّليها. وقد تجلّى ذلك في البيان الصادر أخيراً عن مجموعة "شيوعيون لبنانيون"، أي تلك المنظّمة للرحلة إلى دمشق والمنطوي على أمرين: رد مفصّل على بيان الحزب والإضاءة على خط سيرها مستقبلاً.
وقد جاء في بيانها: "لم نكن، ولسنا بحاجة إلى ما سمّيتموه انتحال صفة، المسألة فقط تشابه أسماء. فنحن كنّا قد أعلنّا عن أطر "شيوعيون لبنانيون" كي لا نكون جزءاً من سجالات شكلية وكي نتحرّر في خياراتنا. إن الاستغلال الرخيص وتحويل المسألة إلى مسألة شكلية ليست سوى محاولة لكسب العطف من الشيوعيين الطيبين الحرصاء على حزبهم، وهو الحزب الذي تقوم قيادته بتهريب تموضع سياسي خياني...".
وإذ أورد البيان دوافع الزيارة التضامنية مع دمشق قال: "بكل فخر واعتزاز ننطلق كـ"شيوعيون لبنانيون" من العلاقات المتميزة مع سوريا والمقاومة ومشروع ليس فقط استعادة روحية اليسار اللبناني والعربي، بل لإطلاق مشروع حركة تحرّر وطني تسهم في إعلاء دور الشيوعيين والقوى الوطنية العربية".
وخلص البيان إلى موقف هجومي مرتد على الحزب: "أنتم من ينتحلون صفة الشيوعيين بحجج واهية ممكن تعويمها بالحوار والتواصل، ولا شيء يبرر التموضع في خندق الأعداء وتقديم الحزب كديكور يساري لأعداء الشعوب المضطهدة".
"النهار"- ابراهيم بيرم
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|