ملف رياض سلامة: أشباح وأرواح وفقدان للذاكرة
ما سيلي ذكره في هذا المقال، يستند إلى أوراق التحقيقات الأوروبيّة واللبنانيّة في هذا الملف، التي سرّبت مضمونها صحيفة "ذا ناشيونال" يوم أمس. تتنوّع أوراق التحقيق، ما بين الاستجوابات التي أجراها قاضي التحقيق جان طنّوس في بيروت مع رجا سلامة وآخرين، والاستجوابات التي أجراها الوفد الأوروبي مؤخرًا في بيروت.
العنصر الأساسي في هذا التسريبات ليس سوى شركة فوري، التي بات إسمها اليوم على كل لسان. هذه الشركة التي استفادت من تحويلات بقيمة 330 مليون دولار من حسابات المصرف المركزي، باعتبارها عمولات ناتجة عن أعمال وساطة بين المصرف المركزي والمصارف التجاريّة، فيما يرى المحققون الأوروبيّون بأنّ الشركة لم تكن سوى كيان وهمي، حصلت على أموال غير مشروعة لقاء خدمات مزعومة لم تقدّمها يومًا، وبالاستناد إلى عقد غير قانوني.
عقدان وشبح وتوقيع غب الطلب
تبدأ الأحجية من وجود عقدين، بتوقعين، حصل على أساسهما الاتفاق بين مصرف لبنان وشركة فوري، للقيام بأعمال الوساطة المزعومة. النسخة الأولى المؤرّخة في 6 نيسان 2002، تحمل توقيع شخص يُدعى كيفين والتر، بالنيابة عن شركة فوري، بالإضافة إلى توقيع رياض سلامة بالنيابة عن مصرف لبنان.
يُسأل رجا سلامة عن كيفين والتر، الذي وقّع عقدًا أنتج 330 مليون دولار من العمولات. فيجيب: هو شخص عمل من أوروبا، ولا يقيم في لبنان. يُسأل رجا عن مكان إقامة هذا الشخص في أوروبا بالتحديد، أو كيفيّة الاتصال به، فلا يتذكّر. ثم يذهب المحققون للبحث عن كيفين والتر في وثائق الشركة، ومحاضر اجتماعاتها، وغيرها من المستندات الرسميّة، فلا يعثرون على أي خيط.
لا يوجد حتّى هويّة شخصيّة، أو شيء ما يثبت أنّ هناك كائناً حياً يحمل هذا الإسم. إنّه شبح غير موجود في الواقع، إلا على ورقة موقّعة منذ 21 سنة. ثم تزداد الأمور غرابة، حين تلاحظ قاضية التحقيق الفرنسيّة أود بوريسي أن كيفين نفسه غير موجود على قائمة مدراء الشركة، ما يعني أنّه لم يكن أساسًا المفوّض بالتوقيع عن الشركة. ببساطة: عقد 6 نيسان 2002 لم يكن قانونيًّا.
ثم تكتشف التحقيقات أنّ رجا سلامة وقّع عقدًا آخر عام 2015، وهذه المرّة بإسمه الشخصي، وأودع العقد مصرف HSBC في سويسرا. يومها، جرى توقيع ذلك العقد ليكون توثيقًا لعمليّة تحويل جرت من لبنان باتجاه سويسرا، بعدما ساورت إدارة HSBC الشكوك بمصدر هذه الأموال، ما دفعها إلى طلب مستندات توضّح ما يجري. ثم تكتشف قاضية التحقيق الفرنسيّة، مرّة جديدة، أنّ رجا سلامة نفسه لم يكن مدرجًا على قائمة مديري الشركة، ولم يكن مفوّضًا بالتوقيع عن شركة فوري. هذا العقد، لم يكن عقدًا قانونيًّا مرّة أخرى.
وعلى أي حال، يصبح من المشروع أن نسأل هنا: ألم تسأل الدائرة القانونيّة في المصرف المركزي عن قانونيّة العقد؟ ألم تبحث عن هويّة موقّعيه؟ عن المفوّضين بالتوقيع عن الشركة؟ عن كيفيّة توقيع نسختين من عقد واحد، بتوقيعين وتاريخين مختلفين؟ هل هو توقيع غب الطلب، لعمليّة عابرة؟ هل يعمل المصرف المركزي مع أشباح ككيفين والتر، ليحصّلوا بتوقيعهم 330 مليون دولار، فيما يوقّع عميل مصرف تجاري على عشرات الصفحات لتحريك حساب توطين راتب؟
فقدان للذاكرة
البحث عن كيفين والتر، أو من أدار هذه الشركة الواجهة، لم يكن عبثيًّا. ثمّة سؤال كبير خلف كل هذا التحقيق: من هم العملاء المزعومون الذين قدّمتهم الشركة إلى مصرف لبنان، بوصفها سمسار "سندات يوروبوند وشهادات إيداع"؟ ما هي عمليّات الوساطة التي تمّت؟ من هم هؤلاء، إذا كانت المصارف تنكر علاقتها بشركة فوري، أو حتى معرفة وجودها؟
لا يذكر رجا سلامة، في محاضر التحقيق أيّ من هذه العمليّات، أو أيّ من هؤلاء الزبائن، ولا يقدّم أي وثيقة تثبت وجودهم. لا يحمل في ذاكرته شيئًا عن نشاط شركة يفترض أن تتجاوز قيمة عمليّاتها مليارات الدولارات، لتنتج ربحًا بمئات ملايين الدولارات.
إنّه فقدان تام للذاكرة. يحاول رجا تفسير الأمر: لقد كان دوري "لوجستيًّا" فقط. تبدو الكلمة طريفة، نسبة إلى شركة اقتصرت لوجستياتها على استئجار شقّة ظلّت فارغة، بلا موظفين أو أجهزة إلكترونيّة أو خط هاتف أو حتّى أوراق بلوغو يحمل إسم الشركة. تبدو الكلمة طريفة أيضًا، نسبة لشخص وقّع أهم عقود الشركة، مع مصرف لبنان. وفي جميع الحالات، لا يقدّم رجا سلامة ما يثبت أنّ الشركة كانت موجودة فعلًا، باستثناء توقيعها على عقد الوساطة المزعومة مع مصرف لبنان.
استحضار الأرواح
هل تملك يا رجا أي شاهد على عمل الشركة؟ أي وجه يمكن أن يتحدّث بالنيابة عن الشركة غيرك؟ نعم، يجيب رجا. إنّه عبدو جفي. عبدو هو الوسيط الفعلي في هذه الشركة، وهو من امتلك إمكانيّة الحل والربط.
أين عبدو جفّي اليوم؟ توفّي في حادث دهس عام 2016، في منطقة الأشرفيّة. نعود إلى نقطة الصفر. وفوق كل ذلك، يكتشف قضاة التحقيق الأوروبي أن وثائق الشركة لم تحمل إسم عبدو جفّي، الذي كان بالمناسبة مصرفياً عمل كمدير في مصرف سردار قبل شرائه من بنك عودة.
بحث كاتب هذه السطور عن أي إشارة يمكن أن تربط عبدو جفّي بهذه الشركة، أو بعمليّات رجا سلامة، فلم يجد سوى بيان من ورثة عبدو جفي صدر في نيسان من العام الماضي، ينفي أي علاقة عمل مباشرة أو غير مباشرة مع رجا سلامة، أو مع رياض سلامة، أو مع شركة فوري نفسها. هو مجرّد مصرفي يرفض ورثته "زجّ اسمه زوراً وإفتراءً بعد وفاته في عمليات مصرفية مشبوهة، لا تليق بصيته المهني المعروف".
كان ذلك البيان مجرّد هجوم مضاد من ورثة عبدو جفّي، بعدما حاولت الزمرة الإعلاميّة المقرّبة من حاكم مصرف لبنان إبعاد رجا ورياض سلامة عن فضيحة شركة فوري، عبر استحضار روح عبدو جفّي وتحميلها وزر هذه الارتكابات، على قاعدة "الميّت ما بيعيّط".
في خلاصة الأمر، لا يوجد في عقود بيع سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع، بين المصرف المركزي والمصارف، أي ذكر لشركة فوري كوسيط. في الأصل، لا يوجد ما يبرّر الحاجة إلى هذا الوسيط، ولا يوجد وظيفة يمكن أن تقوم بها الشركة على هذا النحو، طالما أن المصارف تكتتب بالسندات وشهادات الإيداع بشكل مباشر من المصرف المركزي.
حين يُسأل رجا عن إنكار المصارف لمعرفتها بشركته أو بخدماتها يقول: إسألوا مصرف لبنان!
فوري تمر بـ"خط عسكري"
حسنًا، ثمّة من سأل في مصرف لبنان. يتعقّب القاضي جان طنّوس مسار توقيع عقد شركة فوري، وتحويل الأموال من مصرف لبنان. لم يمر العقد مع الشركة أو التحويلات بأي هيئة إداريّة تراقب هذه المدفوعات. لا يوجد ما يثبت أساسًا علاقة المدفوعات بأي عمليّات مسجّلة في قيود المصرف المركزي. لا يوجد ما يربط المدفوعات بعمليّات شراء اليوروبوند وشهادات الإيداع. ثم يجد قضاة التحقيق الفرنسيّون أن حركة الشركة الماليّة لا تثبت وجود أي نشاط فعلي لها: لا رواتب أو فواتير، ولا نفقات تشغيليّة، ولا نشاط آخر موازياً للتحويلات التي تلقتها من مصرف لبنان. هي مجرّد عمليّات قام بها رجا سلامة "عبر خط عسكري" داخل المصرف المركزي، من خلال شقيقه، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
إنّه الاختلاس الصريح، لأكثر من 330 مليون دولار من الأموال التي كان من المفترض أن تصب في ميزانيّة المصرف المركزي، لولا تحويلها إلى حسابات فوري في سويسرا. هي 330 مليون دولار من الأموال التي دُفعت لقاء لا شيء، فيما يستنجد رجا سلامة في التحقيقات بالأشباح والأرواح وفقدان الذاكرة، لتبرير العمليّات التي جرت تحت إسم هذه الشركة.
في النتيجة، وبعد أن حامت شكوك مصرف HSBC حول هذه الشركة وعمليّاتها، وبعدما لم يقتنع المصرف بالعقد الجديد الذي سلمه رجا سلامة للمصرف عام 2015، رفض المصرف تلقي بعض ملايين الدولارات في حساب الشركة لديه. هنا، بدا أن رائحة رجا سلامة قد فاحت، فتم إقفال الشركة عام 2016.
هل استكمل الأخوان سلامة لعبة التحويلات والسمسرات بعد 2016 بغطاء آخر لم نكتشفه بعد؟ هل اعتمدا أساليب أكثر إتقانًا بعد ذلك العام؟ هل جرت تحويلات أخرى من خلال مصارف لبنان، من دون المرور بأوروبا، تحت ستار السريّة المصرفيّة؟ وهل هناك شركات أخرى لعبت اللعبة نفسها لصالح لاعبين آخرين من الطبقة السياسيّة؟ هل هناك فضائح أخرى في مصرف لبنان لم نعلم عنها بعد؟
أغلب الظن نعم، هناك الكثير مما لم نكتشفه بعد. من الصعب معرفة عمق حفرة الأرنب حتّى لو وجدنا مدخلها.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|