أهلاً بكم في الجحيم!
بعدما حشد الكرملين عشرات آلاف العناصر من الجيش الروسي قرب حدود أوكرانيا الشرقية والجنوبية والشمالية، قبل انطلاق عملية غزوه للبلاد، توجّه رئيس الأركان الأوكراني فاليري زالوجني في 12 شباط 2022 برسالة تحذير تاريخيّة شديدة اللهجة إلى القوات الروسية، قال فيها: «أهلاً بكم في الجحيم!». ولم يكن زالوجني يُبالغ البتّة، فقد تحوّلت الأراضي الأوكرانيّة منذ 24 شباط من العام الماضي إلى كابوس جهنّمي للوحدات الروسيّة النظاميّة والمرتزقة بفعل مقاومة قلّ نظيرها، فاجأت أشدّ المتفائلين لكييف آنذاك وفتّحت عيون الدول والكيانات من حول العالم لاستقاء الدروس والتهيّؤ إمّا لتحضير وحداتها لغزو ناجح وإمّا لتجهيز قوّاتها لبناء استراتيجية دفاعية محكمة لصدّ أي طامع.
لم تكن حسابات «القيصر» فلاديمير بوتين ناجحة عام 2022 بالاستيلاء السريع على كييف وقلب نظام الحكم فيها بعمليّة عسكريّة نوعيّة خاطفة كما كانت حساباته عام 2014 حين استولت روسيا على شبه جزيرة القرم «من دون ضربة كفّ». فالجيش الأوكراني، الذي تمرّست وحداته على القتال منذ الحرب في دونباس، تغيّر بشكل جذري، خصوصاً مع تكثيف الدورات التدريبية الغربية لعناصره وتجهيزه بعتاد غربي حديث نسبيّاً.
ومع احتدام المعارك من جديد، لا سيّما في الشرق، حيث تُسجّل اشتباكات عنيفة حول باخموت وفوغليدار اللتين تُحاول القوّات الأوكرانية الدفاع عنهما بكلّ ما أوتيت من قوّة أمام هجوم روسي يُحقّق تقدّماً بطيئاً بفضل فعالية مقاتلي مجموعة «فاغنر» المرتزقة المكوّنة من متطوّعين خدموا سابقاً في الجيش الروسي ومن مساجين مدانين بجرائم مختلفة، بدأت تعلو الأصوات في كييف التي تُطالب الغرب بتزويد البلاد مقاتلات جوّية وصواريخ بعيدة المدى بعدما استطاعت أوكرانيا إقناع الغرب بتسليمها دبابات متطوّرة، خصوصاً «ليوبارد» الألمانية و»أبرامز» الأميركية.
تُجمع التقارير الاستخباراتية الغربية بأنّ موسكو تُخطّط لشنّ هجوم واسع النطاق في الربيع، وربّما في موعد أقرب، وهي تعدّ العدّة لذلك. لكن أي هجوم روسي لن يكون مفاجئاً للجيش الأوكراني الذي تمدّه الدول الغربية بالمعلومات والمعطيات الاستخباراتية الضروريّة وصور الأقمار الاصطناعية للحشود الروسية، تماماً كما حصل قبل الغزو الروسي الذي فقد آنذاك «عنصر المفاجئة». وبالتالي، فإنّ أي هجوم من الشرق أو الجنوب أو حتّى من الشمال عبر الحدود البيلاروسية، سيكون تحت أنظار الغرب وفي المرصاد الأوكراني.
في المقابل، تُخطّط كييف لشنّ هجوم مضاد جديد يُعيد خلط «الأوراق الهجومية» للكرملين، لإفشال خطّته قبل أن تبدأ. لكن لضمان نجاح هكذا هجوم يحتاج الجيش الأوكراني إلى مقاتلات حديثة وصواريخ بعيدة المدى، تعهّدت كييف، إذا حصلت عليها، بعدم استخدامها ضدّ الأراضي الروسيّة والاكتفاء بالاستعانة بها لتحرير الأراضي الأوكرانية المحتلّة، ومن بينها شبه جزيرة القرم. وهنا تُطرح أكثر من علامة استفهام. فشبه الجزيرة، التي ضمّتها موسكو العام 2014، تعتبرها روسيا جزءاً لا يتجزّأ من أراضيها ووضعتها تحت حماية «المظلّة النوويّة» الروسيّة.
لقد حذّر مسؤولون روس مرّات عدّة من أن مهاجمة القرم ستنقل الصراع إلى مرحلة أكثر خطورة وتُهدّد العالم بأسره بـ»حرب نوويّة» الجميع بغنى عن الدخول فيها. وفيما تتوالى التحذيرات الأممية والدولية من توسّع الحرب إلى خارج الحدود الأوكرانية، ترتفع احتمالات حصول صدام بين روسيا والناتو كلّما استعرت الحرب في أوكرانيا. لن تقبل روسيا، مهما كلّفها الأمر، بالخروج مهزومة ومذلّة من «المستنقع الأوكراني»، فكيف الحال إذا تمكّن الجيش الأوكراني من مهاجمة القرم وتحقيق تقدّم ميداني في عمق شبه الجزيرة؟
إنّ احتمال استخدام السلاح النووي، أقلّه التكتيكي، أو أي سلاح غير تقليدي، قائم قوّة اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية العام 1962. وخروج الحرب في أوكرانيا عن الحدود المرسومة حاليّاً يضع العالم على شفير حرب عالميّة ثالثة كان الحديث عنها منذ عقد من الزمن يُثير ضحك المؤرّخين وسخريتهم. لموسكو خطوط حمراء رسمتها لكييف والغرب في أوكرانيا، لكنّ الأخيرة تُقاتل دفاعاً عن سيادتها التي انتهكتها روسيا لحسابات جيوسياسية تتعلّق بمداها الحيوي وأمنها القومي وحماية الأقليّة الروسيّة في أوكرانيا، ألبستهـا عبـاءة «محـاربة النازيّــة».
إنّ أي حلّ ليُكتب له النجاح ويكون مستداماً في المستقبل، يجب أن يُعطي كلّ ذي صاحب حقّ حقّه. فأوكرانيا دولة سيّدة دفعت ضريبة حرّية قرارها السياسي بالدماء والدموع والمآسي، بينما لروسيا أطماع أمبراطوريّة توسعيّة تتقاطع مع مخاوفها من توسّع الناتو أكثر نحو حدودها في إطار سياسته القديمة القائمة على احتواء «الدب الروسي» وتطويقه جغرافيّاً. لكنّ السلام في منطقة شديدة الدقة في توازناتها الجيوستراتيجية، بحاجة إلى تسويات منطقيّة وتنازلات متبادلة لا يبدو أن أي طرف في وارد القبول بها في الوقت الحالي.
تبقى الكلمة الفصل في المدى المنظور للميدان الملتهب الذي من المرتقب أن تلتهم نيران جحيمه المشتعلة «الأخضر واليابس»، مع زيادة حجم الحشود الروسيّة وتدفّق الأسلحة الغربية إلى كييف. وعامل الوقت كفيل وحده بتحديد مسار الحرب الضروس ودفّة «سفينة بوتين» وسط «بحار مضطربة». على أمل أن لا تخرج التطوّرات الدراماتيكيّة المنتظرة مستقبلاً عن السيطرة و»ضوابط الحدّ الأدنى» وتذهب الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه ويتحوّل «الجحيم الأوكراني» إلى «جحيم عالمي»!
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|