المجتمع

أمي.. الكفاح المتواصل

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لأم هى قيثارة السماء التى تعزف أجمل ألحان الإحسان والرحمة فى الأرض، ولولاها لتحولت الأرض إلى غابة، ولأصبحت المصلحة والأنانية هى السائدة، إنها رائدة الرحمة والإحسان بلا حدود.

ما مرضتُ يوماً إلا وجدت أمى جالسة إلى جوار سريرى أو قائمة تصلى وتدعو لى وهى تبكى، كلما أفقت أجدها تبكى وتدعو.

أمى بالذات كانت من الجيل الذهبى للأمهات، لم يكن لديها فى بداية حياتها لا غسالة ولا ثلاجة، ولا أى جهاز حديث من أجهزة اليوم إلا بعد زواجها بأربعين عاماً، تزوجت صغيرة، فأحسنت سياسة جدى وجدتى، وكانا شديدين، مات لها طفل جميل، وهى أقرب إلى الطفولة، فتحمّلت وصبرت، ثم مات لها ابن كان الأول على الجمهورية فصبرت، ثم مات لها ابن فى الأربعين فصبرت.

سُجن أولادها وزوجها جميعاً كرهائن من أجلى فصبرت وتحملت، البيت الذى كان يضم 12 فرداً أصبح خاوياً، كانت تذهب إلى أربعة سجون متفرقة، المرج وطرة والاستقبال وأسيوط فى أوائل الثمانينات، تحمل رأسها الزيارة عدة كيلومترات قبل طفطف الاستقبال، تحمّلت وصبرت فى صمت وكبرياء. كما كان بيتها مفتوحاً، لم تعدم من صناع الخير، هذا يحمل عنها فى القطار، وهذا يساعدها فى الطريق، وهذا يستضيفها فى القاهرة، كان بيتها دائماً مفتوحاً للجميع، عامراً بالخيرات، كان بيتاً كبيراً من البيوت القديمة، كان كل واحد من أبنائها له ضيوف وأصدقاء، كان يمكن أن يأكل فى هذا البيت فى اليوم الواحد أكثر من عشرين ضيفاً، وكان لها تصنيف للضيوف، الصديق الدائم من بلدتنا يأكل من طعامنا العادى، الضيف الغريب تجهز له اللحوم سريعاً، فى البيت كل شىء «الدجاج، البط، البيض، الأرانب»، كل الأطعمة وأنواع الخبز فى غرفة الخزين، نصف ساعة تذبح الفرخة ويجهز الطعام.

كان مرتب أبى ينفد فى اليوم العاشر، ولكن غرفة الخزين تتولى المسئولية بفضل الله، تحمّلت أمى مسئولية عشرة أولاد، خرّجتهم فى الجامعة جاوزت بهم كل المحن، وصبرها معى فى أزمتى يكفيها وحدها. كانت تحب كل الناس، لا تكره أحداً، ما خبزت يوماً إلا ووزّعت على جيرانها جميعاً، علمتنى كيف أستقبل الضيف وأكرم الفقير، وأذهب لأقاربى لدفع الزكاة بطريقة لائقة، كنا متوسطى الحال، ولكننا دوماً نتعلم منها العطاء، ما أحضر أحد من أبنائها شيئاً جميلاً إلا ووزّعته على جيرانها وأحبابها، ما قابلت أحداً من الناس لا أعرفه إلا وقال أنا أكلت فى بيتكم، كان طعاماً جميلاً، لأن فيه روح المحبة والمودة. كانت متصالحة دوماً مع زمانها، مكانها، ومن حولها، ومع الكون كله.

فى آخر عمرة لها مع شقيقى شريف أوقفته عند كل محل لتشترى لكل جارة أو صديقة أو فقيرة تعرفها، ثم اشترت لرجل فقير كان ينظّف البيت اسمه «وليم»، يعيش وحده، ثلاثة أثواب، كانت تعتبره ابنها، وفى آخر أضحية أصرّت ألا تأخذ منها شيئاً إلا ما طبخته» لـ«وليم»، لأنه يعيش وحده، وقالت لحفيدها «أيمن»، هذا لجارتنا فلانة، وهذا لفلان، حتى وزعتها جميعاً، كانت تشعر أنها ستموت بعد العيد، فلم تستبق شيئاً، فلما جاء «وليم» بالحلة الفارغة وجد جنازتها، فأخذ يبكى لأنها كانت تتبناه. وضعت سيناريو وفاتها قبل موتها، قالت لابنها مجاهد، ستدقون الباب فلا يرد أحد، فيقفز أحدكم من بيت الجيران ويدخل علىّ فيجدنى متوضئة ونائمة على جنبى الأيمن، سعيدة بلقاء ربى، رغم عدد الأحفاد الكثير ماتت وحدها كما قالت، البيت مرتب ونظيف كالعادة.

كانت لا تترك صيام الاثنين والخميس، ولا قيام الليل، حتى بعد أن جاوزت الثمانين، عزيمتها فولاذية، حكيمة، قليلة الكلام فإذا نطقت تدفّقت حكمتها، ما أشارت علىّ برأى إلا وكان صائباً، لأنه كان ينحدر من نور الله وإخلاصها، كانت تمثل التديّن الحقيقى، أما نحن فتديننا مغشوش.

تديّن أمى كان أصفى وأنقى وأسمى وأعمق وأدق من تدينى، لذلك أهتف مع الإمام الغزالى «يا ليتنى أموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور»، وأضيف «وعلى ما ماتت عليه أمى، التى كانت متصالحة مع السماء والأرض والكون، ومحبة لله ورسله والناس جميعاً».

أمى قصة كفاح عظيمة، كنت فصلاً فيها، وشقيقى «صلاح» الذى حضر حرب 73 وعبر القناة، كان فصلاً آخر، مع فصول أخرى كثيرة، إجهاضات، ووفيات، ومعتقلات.

كفاح متواصل لا يعرف الراحة، ولكن الأمل والرجاء فى الله لم ينقطع عن قلبها، تصوروا فتاة صغيرة لا تجاوز الـ15 عاماً ربّت عدة أطفال، وتسوس أبى وجدى وجدتى، فى يوم تخبز، وآخر تغسل، وثالث تطبخ، ورابع تنظّف، وتستضيف فى بعض الأيام أكثر من عشرين ضيفاً، وقرابة عشرة ضيوف شبه ثابتين.

أمى تنحدر من أصول كردية من ديروط الشريف، التى دشّنها الأمير سنان ابن عم صلاح الدين الأيوبى، حينما تزوج جدى لأمى من امرأة خارج العائلة طُرد من بلدته، لم تكن أمى مجرد امرأة عادية، بل كان العقل والحكمة يتدفقان من كلماتها وكأنها تقرأ الواقع والمستقبل، ما خالفها أحدنا فى رأى إلا وكان رأيها هو الأصوب.

ما يشق علىَّ دوماً ويؤرق مضجعى أننى كنت سبباً فى عنتها، من كرمها لم تشعرنى يوماً بالعنت الذى عاشته، كانت كريمة النفس، غاية بالرقة فى المشاعر والحكمة فى القول، ولا أدرى كيف فقدت معظم الأمهات خريجات الجامعة الآن حكمة ودقة ورقة جيل أمهاتنا الذى لا يعوض، لم أستطع أن أوفيها شيئاً مما صنعته من أجلى، وهذا يعذبنى باستمرار. أكتشف كل يوم بعد موتها أننى لم أشبع منها، وأن معيشتى فى الإسكندرية بعيداً عنها ربما كانت خطأً منى، ولكننى أشفقت عليها من القلق المدمر الذى كان ينتابها وأنا قريب منها، وهى تردد «يا بنى لا تذهب إلى هنا أو هنا»، أشفقت عليها من القلق المتواصل، فأعفيتها منه، أحياناً يكون البعد قرباً، والقرب قلقاً.

أمى يا قرة عينى سلام عليك يا من كنت نوراً وضياءً وحباً وكرامة لحياتنا، سلام عليك يا أمى، ندين لك بحياتنا وأعمارنا وبركات أسرنا وخيراتنا، فنحن نعيش فى بركاتك وكراماتك وببركة دعائك.

نقلاً عن "الوطن"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا