صندوق النقد فرصة تضيع... والبديل مجهول أو كارثي
كتبت باسمة عطوي في نداء الوطن:
ليس من المبالغة وصف الأداء التشريعي لمجلس النواب و"التنفيذي" للحكومة لإقرار الاصلاحات المطلوبة من صندوق النقد بأنه "سلحفاتي". وقد يحتاج لبنان الى سنوات طويلة جداً للتوصل الى وضع صيغ وقوانين نصّ عليها الاتفاق الاولي الموقّع بين لبنان والصندوق. يستند هذا الإنطباع، الى حدثين مهمين حصلا خلال النصف الثاني من شهر آذار المنصرم. الأول، زيارة بعثة صندوق النقد الدولي والخيبة الكبيرة التي أبدتها من تأخر الاصلاحات. والثاني، الموقف الذي أعلنه نائب رئيس الحكومة الدكتور سعادة الشامي (الممسك بملف التفاوض مع الصندوق)، مُحملاً فيه الطبقة السياسية والمجلس النيابي مسؤولية عدم اتخاذ الخطوات الضرورية تشريعياً واجرائياً للخروج من نفق الازمة المظلم.
من الواضح أن أداء المنظومة ليس صدفة، بل مقصود وممنهج للوصول الى هدف واضح للغاية هو عدم تجرّع كأس الاصلاح الصعب والمحاسبة المُرة، وذلك عبر تطيير الاتفاق بأدوات وألاعيب متعددة، منها الخلافات الحاصلة بين مكونات المجلس، والتذرع بالفراغ الرئاسي لعدم اقرار التشريعات، وضعف أداء الحكومة الحالية بالرغم من تزايد غليان الازمة وخطورة تداعياتها، والرهان على خطة انقاذ بديلة يقودها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فهل يملك اللبنانيون القدرة على دفع فاتورة "تطيير الاتفاق"، على غرار ما دفعوا فاتورة انفجار الازمة؟
مماطلة لإفقاد الإتفاق معناه
يرى الدكتور انطوان حداد (استاذ جامعي، باحث في السياسات العامة) لـ"نداء الوطن" أن "امتناع السلطة بكل اطرافها (وليس الحكومة وحدها، اذ هي حكومة تصريف اعمال)، عن القيام بأي اجراء فعلي لتنفيذ الاتفاق الاولي مع الصندوق، والذي مّر تقريباً عام كامل على التوصل اليه، سيؤدي حتماً الى افشال هذا الاتفاق والغائه او جعله غير ذي معنى او جدوى بسبب التقادم ومرور الزمن"، مرجحاً أن "تكون هذه سياسة مفتعلة حتى لو لم يعترف أي مسؤول بهذا الامر. التفسير الوحيد لما يحصل هو أن تلك الاصلاحات الضرورية للبنان سوف تطيح بمصالح جزء اساسي من الطبقة السياسية، ومن يتحالف معها داخل القطاع المصرفي او خارجه من شبكات تهريب ومافيات واحتكارات. والاستنتاج ان تنفيذ هذه الاصلاحات عملية شبه مستحيلة، من دون حصول تغيير سياسي جذري. هل هذا متاح في المدى المنظور؟ لست متأكداً من ذلك".
يشدد حداد على ان "الموضوع الجوهري ليس الاتفاق بحد ذاته بل الاصلاحات الاساسية، النقدية والمالية والمصرفية التي يتضمنها. من دون هذه الاصلاحات، التي باتت معروفة للقاصي والداني، لا يمكن وقف الانهيار ولا عودة الوضع الى طبيعته، ولا عودة الاقتصاد الى الانتعاش والنمو ووقف انتشار الفقر والبطالة. وكل ما تقوم به السلطة حتى الآن هو استهلاك ما تبقى من احتياطي بالعملات الصعبة الذي هو في الحقيقة ما تبقى من حقوق المودعين".
ويعتبر حداد أن "الاتفاق مع الصندوق هو في الحقيقة نوع من الضمانة، ضمانة ان السلطات في لبنان تلتزم القيام بالاصلاحات وتنفيذ خطة للتعافي تتضمن شبكة امان اجتماعية. هذه الضمانة ضرورية ليس للحصول على مساعدات الصندوق فحسب، وهي بالمناسبة مساعدات وتسهيلات محدودة، بل لاكتساب ثقة الدول المانحة وخصوصاً المستثمرين، لبنانيين وغير لبنانيين". مشيراً الى أن "أموال هؤلاء واستعادة ثقتهم أهم بكثير من أموال الصندوق التي يمكن اعتبارها اموالاً تشجيعية". وختم قائلاً: "إن عودة الروح الى الاقتصاد اللبناني وتفعيل القطاعات الانتاجية، وبالتالي فرص النمو وفرص العمل لتشغيل الخريجين او العاطلين عن العمل، مستحيلة من دون استعادة الثقة وجذب الاستثمارات، الخاصة والحكومية".
نواب معروفون يمارسون أسوأ الأدوار
من جهته، يوضح الخبير الاقتصادي الدكتور جاد شعبان لـ"نداء الوطن" أن "أول مهمة لدى الصندوق هي التأكد ان الحكومة التي وُقّع العقد معها، قادرة على إعادة الدين من خلال مقومات اقتصادية تملكها، وايضاً تمتعها بالكفاءة والشفافية والاطر القانونية والرقابية والقضائية، التي تسمح بالتأكد بأن هذه الاموال التي منحت لها يتم صرفها ضمن الاطار الصحيح".
يضيف: "علينا ألا نغش الناس، صندوق النقد تهمه مصلحته طبعاً، عبر إستعادة أمواله وهو شديد الدقة في هذا الامر. لذلك قررت الدول المنضوية ضمن نادي أصدقاء لبنان (المملكة العربية السعودية وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي والامم المتحدة)، عدم تقديم قروض جديدة للبنان الا من خلال صندوق النقد وبرنامجه"، موضحاً أن "هذا يعني ان الاتفاق مع صندوق النقد يشكل المفتاح لإستعادة ثقة الدول المانحة والمؤسسات الدولية بالحكومة اللبنانية، وأن على الصندوق التأكد ان هذه الحكومة جدية في التعاطي، وتملك خطة لإرجاع هذه الديون الجديدة".
يرى شعبان أن "الاداء الذي تنتهجه الطبقة السياسية في لبنان منذ عقود، والذي ظهر بشكل جلي في الاعوام الاخيرة، يبيّن أن الحكومة اللبنانية متخبطة وليس لديها أي نظرة واضحة وواقعية لكيفية رد هذه الاموال"، مشيراً الى أن "هناك خططاً على ورق، ولكنها ليست مقرونة بقرارات وأداء واضح بالنسبة لادارة الدين العام والنقد والاحتياط وصرف المستحقات على الدولة. من جهة أخرى، النظام التشريعي مُقصر وحريص على مصالح المصارف وأصحاب الاموال التي تم تهريبها الى الخارج حماية الفاسدين".
ويوضح أن "هذا ما ينطبق على معظم مجلس النواب الذي هو السلطة الحاكمة، بإستثناء النواب التغييريين والمعارضة. وأغلبية النواب لا يشرعون قوانين طلبها صندوق النقد، والتي تضمن أنه سيكون هناك نظام رقابي وتشريعي يؤدي الى إسترداد أمواله. اداء هؤلاء النواب مع الصندوق ومع اللبنانيين، يُظهر انهم لا يريدون اي خطة تضع رقابة او شروطاً على أدائهم السيئ والمجرم".
يؤكد شعبان ان "مطالب صندوق النقد محقة، وهي تطلب الحد الادنى أي خطة تشريعية رقابية للمحاسبة وجردة للأموال التي تم هدرها، وهذا أمر يطالب به الشعب اللبناني ايضاً. كما يطلب اصلاحات في قطاعات تعاني من هدر كبير، وهذا مطلب اساسي أيضاً لكل الشعب اللبناني"، لافتا الى أن "السلطة السياسية تصوّر هذه المطالب على أنها حصار واستكمال للحصار الاميركي على لبنان، وهذا كله تفاهة، والدليل القروض والمنح التي تعطى من الدولة الاميركية والبنك الدولي (المتهم بأنه تابع لها). صحيح ان الادارة الاميركية تؤثر على البنك الدولي، لكنه رغم ذلك يموّل منذ بداية الازمة، مثل قروض دعم الفقراء في لبنان، وهذا دليل على أن لا حصار على الدولة اللبنانية".
يشدد شعبان على أن "السلطة السياسية لا تريد صندوق النقد للهروب من المحاسبة والمسؤولية، ولأخذ قروض طويلة الامد ومنح بلا اي نظام رقابي، أي لممارسة نفس الاسلوب في ادارة الاقتصاد وهدر الاموال وتوزيعها على المحاسيب، ولندع الاجيال القادمة تدفع فاتورة هذا الهدر الذي حصل".
ويرى شعبان أن "البديل الذي تريده السلطة عن الاتفاق هو أن تأتي وديعة وقروض من البلدان الخليجية والصين، مقابل خصخصة بعض القطاعات ودخول الصين كلاعب أساسي في اعادة اعمار وتشغيل قطاعات اساسية مثل المرفأ والكهرباء"، لافتاً الى أن "هذه نغمة الاتجاه شرقاً اي نغمة بيع لبنان للشرق التي يطرحها الثنائي الشيعي، على غرار نغمة بيع لبنان للغرب التي كانت سائدة من قبل المصارف. الكل يريد البيع ولا يريد المحاسبة، وهذا هو البديل الذي ينتظرونه اي مساعدات تمنح للبنان وبطريقة غير مشروطة، او شروط لا تتضمن رقابة ومحاسبة أو تحديثاً للتشريعات".
يُبدي شعبان أسفه "لأن هذا البديل يُخفي الأزمة التي حصلت ولا يعالجها، ويكرر التجربة السابقة ويحافظ على التأثير الكبير للطبقة الحاكمة والسلبي على المواطنين"، مشدداً على أنه "شخصياً لا يرى بديلاً خارج الاتفاق مع اصدقاء لبنان بالمطلق. وللمفارقة، حتى الحكومة الصينية طلبت التزام لبنان بإتفاق مع صندوق النقد، لأنه لا يمكن لأي طرف تقديم القروض لطرف آخر غير مسؤول ويمكن ان يهدر الاموال".
ويضيف: "هذا يعني أنه لا بديل من الاصلاحات التي تؤكد على الشفافية والمحاسبة، وفصل السياسيين ومصالحهم عن المال العام. وهذه الاصلاحات اذا أتت عن طريق صندوق النقد فهذا أمر عظيم، وإن أتت عبر اتفاقيات أخرى وأنظمة أخرى فهذا جيد أيضاً".
ويختم: "لا بديل عن الاصلاحات بغض النظر عن الطرف الذي يضغط لتحقيقها، ولا بديل عن اعادة إنخراط لبنان ضمن النظام المالي العالمي. نحن اليوم مُصنفون في خانة المنبوذين، وبأننا بلد منهار ومارق، ولا بديل من اعادة ثقة اللبنانيين بوطنهم أولاً، ومن ثم ثقة المجتمع الدولي بالحكومة اللبنانية".
يتقنون لعبة الهروب الى الأمام... ولكن!
يشدّد العضو المؤسس في رابطة المودعين نزار غانم لـ"نداء الوطن" أن "صندوق النقد الدولي كان على علم منذ البداية بأن الحكومة اللبنانية غير جدية في تنفيذ الاصلاحات للحصول على مساعدة او قرض من الصندوق. والسبب أن خطة لازارد كانت تُلبي شروط خطة الصندوق، وتّم اعدادها في عهد الرئيس حسان دياب من قبل خبراء دوليين، وكان يمكن ان تحمي ودائع الناس لحدود 500 ألف دولار و 99 بالمئة من الودائع، لكن تم رفضها من قبل المجلس النيابي"، لافتاً إلى أن "هذا يعني ان كل القوى السياسية تتحمل مسؤولية ذلك. والكل يذكر أن الوزير علي حسن خليل أطلق يومها شعار ان الشركة المدققة في الحسابات هي اسرائيلية وأنها خطة إفلاسية، وهي في الحقيقة خطة إفلاسية للمصارف التي هي مفلسة في الاساس".
يضيف: "كلنا يعلم انه ليس هناك نية سياسية للدخول بمشروع اصلاحي مع صندوق النقد، وأن السلطة اللبنانية كالعادة تتقن لعبة الهروب الى الامام. واظن ان الاتفاق الاولي الذي حصل مع صندوق النقد كان هدفه فقط إطلاق بالونات اعلامية ولا يوجد جدية مطلقة في تنفيذها"، موضحاً أن "خطة الرئيس ميقاتي هي تتجه بالاتجاه الصحيح، أي أنها خطة لازارد معدلة، ولكن هي غير جدية لأنها وُضعت خلال فترة الشغور في الرئاسة، حتى يتعلق مصيرها بمصير الازمة الدستورية، وايهام الناس بأن الطبقة السياسية تحاول القيام باصلاحات، لكن لا يمكنها اقرارها بسبب الشغور وبسبب تقاذف الاتهامات في ما بينها".
يشدد غانم على أن "هذه هي وظيفة الرئيس ميقاتي السياسية من خلال المنظومة، أي ان يبقى ضابط اتصال مع المجتمع الدولي لحماية النظام الحالي من العقوبات، وإيهام المجتمع الدولي بأنه يحاول القيام بإصلاحات، لكن ما يريده هو المماطلة لأن الهدف العميق هو خطة الظل المالية في البلد، والتي تتم من خلال تدمير وعدم دفع الودائع نهائياً للحفاظ على مصالح المصارف".
يرى غانم أننا "نقترب من النموذج الفنزويلي، وما يريده السياسيون هو حماية أصدقائهم من ذوي الثروات الطائلة، على حساب الناس وودائعهم، ورهان هؤلاء القراصنة هو على اتفاق اقليمي - دولي، يجلب للبلد بضعة مليارات لكي يعاودوا تسيير الامور على النهج الذي كانوا عليه سابقاً"، لافتاً الى أن "هناك دراسة حديثة صادرة عن الجامعة الاميركية، تفيد أن هناك 3 اشخاص من أصل 5 في لبنان هم تحت خط الفقر. الناس تعاني لكن الطبقة السياسية والنافذين في البلد، يحصّلون اموالهم من خلال فرق سعر الدولار والمضاربات، وشتى انواع الخوات التي تحصل في البلد".
ويختم: "نحن ذاهبون الى مزيد من الانكماش في الاقتصاد الوطني (انكمش نحو 60% منذ بداية الازمة)، وإلى مزيد من التساقط في بنى القطاع العام، والى نسبة بطالة عالية ومصارف زومبي وجوع في مناطق محددة في لبنان، وتفاوت طبقي مرعب وزيادة في الاقتصاد غير الرسمي، وتراجع حاد في ايرادات الدولة".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|