تصنيف كل الودائع "مقدّسة"... يعني تبييض "المدنّسة" منها
يعكف المجلس النيابي على دراسة أكثر من مشروع قانون يتعلق بأموال المودعين وضمان استردادها، تحت شعار «الودائع المقدسة»، في الوقت الذي تبلغ فيه الفجوة المالية ما يقارب 75 مليار دولار. لكن ثمة أسئلة جوهرية لا بد من طرحها في صميم «القدسية»، التي تحاول الطبقة السياسية والمصرفية ترويجها لغاية في نفس يعقوب هي: هل كل الودائع مشروعة؟ وهل على كل اللبنانيين تحمل وزر اعادة ودائع تحوم حولها شبهات فساد وتهرب ضريبي وتبييض اموال؟ ولماذا لا يتم العمل على تقليص هذه الفجوة من خلال فرز هذه الودائع بين ودائع مشروعة ومستحقة، وأخرى يحق للدولة اللبنانية الغاؤها أو وضع اليد عليها بسبب أصولها المتأتية من صفقات فساد؟
ماذا يطبخ النواب؟
قبل محاولة الاجابة على هذه الاسئلة، لا بد من التنويه ان لجنة المال والموازنة النيابية تدرس حالياً مشروع قانون اعادة الانتظام المالي، في حين أن لجنة الادارة والعدل أقرت خلال الاسبوع الحالي اقتراح قانون إطار يتعلق بأموال المودعين، تمهيداً لعرضه على الهيئة العامة لاقراره، ويهدف لمنع الحكومة الحالية وكل الحكومات مستقبلاً، من أخذ تدابير تلغي فيها الودائع أو تعمل الى تسديدها بغير عملتها التي أودعت فيها. وبالتالي، فإن أهمية هذا القانون بأنه يضع الإطار القانوني لأي عمل مستقبلي يتعلق بودائع الناس، وبأنه يأتي قبل قانونيّ التوازن المالي وإعادة هيكلة المصارف، وبذلك يكون رادعاً أمام محاولات المس بودائع بأي شكل من الأشكال.
يشرح الاقتصادي روي بدارو لـ»نداء الوطن» أن «فرز الودائع بين مشروعة أو غير مشروعة يعني الشروع بتنقيتها من خلال تمريرها بما يشبه «فيلترات» قانونية وادارية. والمعيار الاول هو التحقق من مصدرها اذا كان مشبوهاً أومتأتية من أعمال خارجة عن القانون سواء داخل لبنان أو خارجه، او أن هذه الودائع هي ملك لأشخاص تحوم حولهم شبهات الفساد».
يضيف: «المعيار الثاني هو التحقق من ودائع اصحابها إن كانوا غير لبنانيين لجأوا الى المصارف اللبنانية ووضعوا اموالهم فيها وقبلوا بالمخاطر في بلد مختلف عن بلدهم، لأنهم غير قادرين على فتح حسابات في بلدانهم. وهنا السؤال الكبير، هل يمكن حذف كل هذه الودائع أم لا؟»، مشيراً الى ان «المعيار الثالث هي الودائع التي تقاضى عليها أصحابها فوائد تزيد عن 5% بدءاً من العام 2015، وهنا يجب على اصحاب هذه الودائع دفع ضريبة استثنائية على هذه الودائع العالية».
يشدد بدارو على أن «هذه الخطوات قد يعتبرها البعض غير قانونية، لكن الواجب القيام بها من اجل اعادة بناء بلد. لأن القانون اللبناني الحالي يستر الكثير من العيوب، والنقطة الجوهرية هي أن نقبل أو لا نقبل بقوانين تستر العيوب وبأشخاص يتلطّون خلفها لإخفاء عيوبهم وعيوب أزلامهم»، مشيراً إلى أن «المعيار الرابع الذي يجب تطبيقه هو تسديد القطاع الخاص 28 مليار دولار (لولار) للمصارف، وهذه المبالغ يجب أن تفرض عليها ضرائب بعد دراسة موعد تسديد هذه الاموال، ويجب ان يتم الدفع من اصل 28 ملياراً، 10 مليارات ولو بالتقسيط على 5 سنوات تقريباً، لأن الاستفادة منها كان على حساب باقي المودعين».
ويرى بدارو أن «المعيار الخامس الذي يجب اعتماده هو تعويض جزئي على القدرة الشرائية للوديعة. وهذا أمر ضروري ومهم وخلاق»، مؤكداً أن «كل هذه المعايير ليس مصرحاً عنها على موقع مصرف لبنان حتى نتمكن من تقييمها، ولكي يتمكن الخبراء والمتخصصون والخبراء الماليون من اعطاء رأيهم. فهناك 500 حساب يجب كشف السرية المصرفية عنها منذ العام 2015، لأن العديد من هذه الحسابات خرجت الاموال منها قبل حصول الازمة، لعلمهم بالتدهور الحاصل والازمة المقبلة على لبنان».
ويختم: «أهم نقطة للقيام بهذه الخطوات هو أن تكون هناك ثقة بالمصارف وهذا أمر مفقود حالياً. والحل هو بناء القطاع المصرفي من جديد. ولسوء الحظ فان المصارف لا تقبل مناقشة هذا الامر، لأنها تستند الى دعم السياسيين، ولم تحصل الى الآن مقاربة جدية للبحث في كيفية التعويض عن المودعين».
يجيب الأستاذ المُحاضر في قانون الضرائب والمالية العامة الدكتور كريم ضاهر «نداء الوطن» على الاسئلة المطروحة، بأن «هناك خمس خطوات أساسية يمكن عبرها فرز الودائع بين مشروعة وأخرى غير مشروعة، وهذا ما سبق «لإئتلاف المحاسبة وعدم الافلات من العقاب» أن أطلقها في 11 كانون الثاني المنصرم، أولها رفع السرية المصرفية بالكامل وتطبيق نظام «اعرف عميلك»»، لافتاً الى أن «المشكلة في لبنان أن هناك مليوناً و700 ألف حساب تقريباً، وفي 87% منها أقل من 100 ألف دولار. والتدقيق في كل هذه الحسابات سيستغرق وقتاً طويلاً، والاقتراح القانوني الذي قدمناه كنقابة محامين، وقدمه عدد من النواب للأمانة العامة لمجلس النواب، والموجود في قانون اعادة هيكلة القطاع المصرفي، حددنا فيه عتبة 250 ألف دولار لتبرير المودع لمصدر أمواله».
يضيف: «هذا الامر يتعلق بعامة الناس من المودعين، أما المودعون الذين يصنفون بأنهم معرضون سياسياً (يتعاطون الشأن العام ويشملهم القانون الخاص بالإثراء غير المشروع) والمصرفيون والموظفون من الفئة الرابعة وصعوداً وصولاً الى رئيس الجمهورية، فيجب التدقيق في جميع حساباتهم والقيام بمقارنة بين التصريح عن الذمة المالية التي تقدموا بها في 31 آذار2021، وبين ما يملكونه من أملاك وحسابات مصرفية. وإذا تبين أن هناك تبايناً، فإن القانون يصنف أموالهم بأنها غير مشروعة».
يوضح ضاهر أن «الخطوة الثانية لفرز الودائع، تتعلق بالمسؤولين المصرفيين وكل من له دور مقرر في القطاع المصرفي. اذ يجب التدقيق في حسابات هؤلاء، وتبيان ما اذا كانت هناك مسؤوليات مترتبة عليهم وفقاً للقوانين المرعية، اي قانون التجارة والمواد 166 و 167 والافلاس والمواد المتعلقة بالافلاس الاحتيالي 459 و489، بالاضافة الى ما يسمى سوء استعمال للمعلومات المميزة، اي إذا كان هؤلاء المسؤولون على علم بأن الازمة ستقع، واستفادوا من هذه المعلومات كي يتمكنوا هم أو المقربين منهم من تهريب أموالهم الى الخارج، فأموالهم جميعها يمكن اعتبارها اموالاً غير مشروعة».
ويلفت الى أن «الخطوة الثالثة تستند الى قانون مكافحة تبييض الاموال، فهناك 44 حالة في القانون بدءاً من تمويل الارهاب، وصولاً الى التهرب الضريبي ومروراً بما يتعلق بمكافحة الفساد، والاختلاس وفرض النفوذ واساءة استعمال المركز، وكل هذه القوانين تبيّن ما اذا كانت هذه الاموال متأتية من هذه الجرائم، وبذلك تكون أموالاً غير مشروعة»، مشيراً الى «خطوة رابعة تتعلق بأموال مودعين غير مقيمين، ومصدر اموالهم من الخارج وما اذا كان مخالفاً لقوانين بلادهم، وأتوا بها الى المصارف اللبنانية ونتج عنها عملية تبييض اموال، اي ما يشبه قضية الحاكم رياض سلامة ولكن بصورة معكوسة، وهنا يمكن اعتبار هذه الاموال بأنها غير مشروعة».
ويشرح ضاهر أن «الخطوة الخامسة تتعلق بالحسابات التي لم يتم تحريكها، وهي كثيرة في المصارف اللبنانية، وهناك معلومات مؤكدة عن مليارات من الدولارات، أصحابها هم انظمة سياسية تم خلعها (النظامان العراقي والليبي) وشخصيات توفوا، علماً أن هناك قانوناً يرعى كيفية التصرف بهذه الاموال، لكن المصارف ومصرف لبنان يتناتشونها حالياً، وهي في الواقع ملك للدولة اللبنانية وفقاً للمادة 90 من قانون ضريبة الدخل، التي تنص على انه اذا هناك حسابات مصرفية ولم يتمّ تحريكها خلال 5 سنوات، تؤول 50% منها للدولة اللبنانية و50% للمصارف، شرط أن يعمد المصرف المعني، الى تبليغ دعاوى للأشخاص الذين يملكون هذه الحسابات، وفي حال لم يقم بهذا الاجراء فإن المبلغ بكامله يؤول الى الدولة اللبنانية، مما يسهم في تخفيض الفجوة المالية».
تجدر الاشارة مجدداً الى ان النقطة الاساسية للسير بهذه الخطوات هي عبر قانون السرية المصرفية، ويشدد ضاهر على أن «هذا القانون بحاجة الى تعديل للتدقيق في الحسابات التي يطلبها صندوق النقد. وحين ناقشنا هذا الامر في مجلس النواب (كنقابة محامين)، أصرينا على أن لا تكون هناك حسابات مرقمة بل حسابات مرفقة بأسماء أصحابها. لأن التدقيق فيها يتم بناء على الاسماء ومدى خضوعها للخطوات التي تم شرحها أعلاه، ولذلك صندوق النقد طلب أن يكون هناك تحقيق بالاسماء، ووفقا للقانون 306 الذي بات نافذاً، بات باستطاعة القضاء اليوم طلب المعلومات من المصارف ورفع السرية المصرفية عن هذه الفئات التي ذكرناها أعلاه».
ويختم: «القانون الحالي يسمح بالتحقق من مشروعية فئة كبيرة من المودعين،(المعرضون سياسياً والمصرفيون) بمفعول رجعي يصل الى العام 1988. وفي حال ارادت هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان القيام بعملها، يمكنها ان تبدأ بالتحقيق بالحسابات وكشف الكثير من الحسابات الموجودة، حتى من دون تعديل قانون السرية المصرفية. هناك تغيير جوهري حصل في قانون رفع السرية المصرفية، على غرار قانون الشراء العام الذي سمح بإيقاف صفقة المطار المشبوهة».
وتشدّد المديرة التنفيذية لمنظمة «كلنا ارادة» ديانا منعم لـ»نداء الوطن»، على أن «أفضل السبل لفرز الودائع هو تعديل قانون السرية المصرفية، فالكشف عن الحسابات المصرفية ليس بالأمر السهل وقد يستغرق وقتاً. والطريقة الافضل لاختصار هذه المشقة هي كشف السرية المصرفية عن ودائع تفوق حداً معيناً مثل 10 ملايين دولار علماً بأن أغلب الودائع صغيرة».
تضيف: «يمكن تصنيف هذه الودائع بين مشروعة وغير مشروعة بعد رفع السرية المصرفية، خصوصاً ان هناك خلافاً قانونياً حول ما اذا كان القانون الحالي يسمح بهذا التصنيف، وفي حال لم يسمح برفع كلي للسرية المصرفية، فنحن بحاجة الى مواد قانونية تضاف على قانون اعادة هيكلة المصارف، تسمح باجراء هذا النوع من التصنيف»، لافتة الى أنه «بعد القيام بهاتين الخطوتين (ادخال بعض المواد القانونية وتحديد الرقم الذي يجب الانطلاق منه لتصنيف الودائع)، عندها يمكن اجراء تحقيق حول مصدر هذه الودائع، وتحديد ما اذا كانت مشبوهة أم لا، مع الاخذ بالحسبان أن هناك اصحاب ودائع يفضلون خسارتها على الكشف عن مصدرها، خصوصاً الودائع الآتية من الخارج او مصدرها أموال وسخة».
ترى منعم أن «هذه العملية يمكن أن تبدأ بسرعة وقبل اعادة هيكلة القطاع المصرفي. للمثال: في اكبر 32 حساباً في المصارف ما يساوي قيمة مجموع مليون حساب، بمجموع أموال 3.5 مليارات دولار، لذلك يجب أن نكشف عن أسمائهم»، مشيرة الى أن «طريقة توزيع الحسابات تظهر أن الاولوية هي للكشف عن أصحابها ومصدر أموالهم، والقيام بهذه الخطوة يخفف حجم الفجوة والاموال التي يجب ردها الى الناس».
باسمة عطوي - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|