الرهانات المسيحية الخاطئة
ليس جديدًا القول بدعوة الذين يتعاطون الشأن السياسي أن يقرأوا جيدًّا في كتاب المتغيّرات، أكانت هذه المتغيّرات إقليمية أم دولية وحتى محلية، بما يتناسب مع المعطيات الجديدة، والتي سيكون لها حتمًا تأثير على المسار اللبناني عمومًا، وعلى المسار الرئاسي بالأخصّ. فإذا كان ما يُقال عن عدم وجود عداوات أو صداقات دائمة ومطلقة في العمل السياسي فيه شيء من الصحّ، فإن منطق الأشياء يفرض على السياسيين نمطًا جديدًا من التأقلم مع كل ظرف بظرفه.
فمن كان يعتقد أن التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران قد يصبح في يوم من الأيام ممكنًا، ومن كان يظّن أن العرب سيعودون إلى فتح أبواب جامعة الدول العربية لسوريا ولرئيسها بشار الأسد، الذي أعيد انتخابه مرتين خلال الأزمة السورية، ومن كان يتخيّل أن تقف الحرب في اليمن بهذه السرعة، ومن كان يتصوّر أن تساهم الرياض في عملية إجلاء عدد من الإيرانيين من السودان، ومن كان يحلم بأن تشهد السعودية مثل هذه النهضة الانفتاحية في مختلف المجالات؟
ونسأل مع السائلين: هل يُعقل أن يتمّ التعاطي مع أي معطىً على المستوى المحلي اللبناني الداخلي وكأن التقارب السعودي – الإيراني لم يحصل، وهل من المنطقي السير عكس التيارات الإقليمية، وهل يجوز عدم قراءة كل هذه التطورات انطلاقًا من دراسة كل جوانبها بعمق وموضوعية، وهل من الحكمة بشيء ألا ندرك المرامي العربية بإعادة ضمّ سوريا إلى حضن الشرعية العربية؟
ليس عيبًا أن يعترف المرء، وبالأخصّ الذين يتعاطون الشأن السياسي، بأن الرياح لا تجري دائمًا كما تشتهي السفن، وكذلك الاعتراف بأنه ليس بالتمنّي تُنال المطالب. ليس عيبًا على الاطلاق الإقرار بأن الأخطاء التقديرية في العمل السياسي أمر وارد. فإذا كانت المصلحة العامة تقتضي التراجع عن موقف سابق فهذا يُعتبر قمّة في تطبيق قول السيد المسيح، الذي دعا الذين سيتبعونه بأن يكونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام.
فالوضع الإقليمي حسّاس ودقيق ولا يحتمل الاستمرار في اتباع سياسة "عنزة ولو طارت"، خصوصًا أن المتغيّرات الإقليمية تفرض على الجميع في لبنان، وبالأخصّ على الفريق المناهض لسياسة "حزب الله"، التعاطي مع الوقائع المستجدّة انطلاقًا من مصلحة ذاتية أولًا، بحيث لا تكون الحلول الممكنة، والتي بدأت ملامحها تتمظهر، لمصلحة أي فريق دون الأفرقاء الآخرين، أو على حساب أي فريق، مع احتمال استعادة مشهدية "لا غالب ولا مغلوب" بمعناها الإيجابي.
فالمواقف "العنترية"، كما تصفها مصادر سياسية خبيرة، لا تفيد في مثل هكذا ظروف، خصوصًا أن من قال إنه على الجميع ان يحفظوا رؤوسهم عند تغيير الدول لم يطلق هذه النظرية من عدم أو عن عبث، بل هي نتيجة اختبارات عميقة في المجرى التاريخي.
"لا تكن لينًا فتعصر، أو صلبًا فتُكسر". هي حكمة تنطبق اليوم أكثر من أي وقت مضى بالنسبة إلى شريحة من اللبنانيين، وبالأخصّ المسيحيين منهم، وهم المعنيون ربما أكثر من غيرهم بالاستحقاق الرئاسي.
فـ "المرجلة" ليس أوانها اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض الذين يرفعون سقوف مواقفهم، وهذا ما سمعناه في مؤخرًا. ومن بين مطلقي هذه المواقف رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، الذي تمكّن في النهاية من تأمين حشد مساند للحشد المتواضع لأهالي جزين.
قال باسيل: "نحن نريد رئيس جمهورية يمثل طموح اللبنانيين في بناء الدولة، ونضالنا للشراكة في حكم متوازن، ولن نغطي أي كسر لإرادة اللبنانيين ولا أي تهميش لإرادة المسيحيين. ومن يهددنا ان يمر قطار التسوية من دوننا، فنحن لا نخاف من أن نكون خارجها لأنها ستكون عرجاء وستسقط. لا تعيدوا تجارب الماضي الفاشلة...لا أحد يهددنا بمعادلة "انا أو الفوضى"، ويعتقد انه يقدر أن يفرضها... ولا أحد يراهن على تسويات خارجية إذ مهما كانت قوّتها، لا تستمرّ فعاليّتها إذا لم تكن محصّنة ومغطاة بتوافق داخلي، ومن جرّب الإقصاء ويريد أن يرجع ليجربه، نهايته وخيمة".
مثل هكذا مواقف كان لها رجالها، وكانت لها ظروفها. فما كان يصحّ قبل عشرات السنين لم يعد يصحّ اليوم.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|