المجتمع

صيدا في ذلك الزمان...حلم ليلة صيف

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

قبل أكثر من ستة عقود، في الأول من أيار 1961 بالتحديد، احتلّت غلاف مجلة "الأسبوع العربي" صورة تمثّل سيدة بلباس البحر تقف في ساحة قلعة صيدا البحرية. حوى هذا العدد من المجلة تحقيقاً من توقيع سعد سامي رمضان، تناول مهرجاناً ربيعياً يُقام في المدينة، رافقه حديث مع غالب الترك، محافظ الجنوب "الذي يقف وراء تحقيق الأعمال الضخمة في مهرجان الربيع".
 

"في صيدا، المدينة التي لعبت أكبر دور في تاريخ لبنان القديم، سيحتفل الناس بالربيع في أكبر المهرجانات التي عرفها لبنان". بهذه الكلمات، استهل الكاتب تحقيقه، وقال ان البعثة الخاصة بالمجلة توجّهت إلى المدينة العريقة التي "ستحيي الربيع بمهرجاناتها فقابلت محافظ الجنوب الذي وضع الفكرة، وتنقّلت بين البساتين والمناطق الأثرية، وزارت الأسواق القديمة التي ينتظر أهلها موسم المهرجان، لتقدّم صورة عن العرس الكبير الذي سيقام في هذا الشهر". 
 

قضت هذه البعثة يوماً في قلب صيدا، "مع ساعاتها الحافلة بالحركة، استعداداً للمهرجانات"، ورافقتها إلى المدينة الأثرية، حسناء من أوروبا سمعت الكثير عن صيدا، فأحبّتها من خلال كتب التاريخ، ورغبت قبل عودتها إلى بلادها في أن تحيا بين أطلالها وبساتينها، وتستحمّ في المياه المحيطة بقلعتها الشهيرة". تُدعى هذه الحسناء موني جوفانيل، هي السيدة التي احتلّت صورتها غلاف المجلة، كما أن لها صوراً منشورة ضمن التحقيق، منها واحدة وهي ممددة أرضاً و"تتعرّض للشمس فوق بقايا قلعة صيدا"، وصورة وهي جالسة في "حمام شمس دافئ فوق سطح أطلال القلعة"، حيث "تبدو وراءها المدينة الحالمة بين بساتين البرتقال"، وصورة وهي تستحمّ في البحر قريباً من القلعة "وقد رمت الشِّباك إلى أعماق البحر لتصطاد السمك".
 

تحدّث محافظ الجنوب، غالب الترك، من دارته المطلّة على بساتين الليمون والأكدنيا، فقال: "إنني أعيش هنا في الجنة، فصيدا في الربيع هي الجنة"، ثم تحدث عن خيرات صيدا "التي تشكل عنصراً بارزاً في ميزان المدينة، الزراعي خاصة، والاقتصادي عامة"، ثم انتقل إلى الحديث عن مهرجان الربيع المنتظر، وأضاف: "مدينة التاريخ ستتحوّل إلى جنة، تضيء آثارها في الليل، وتلتقي فيها أشهر فرق الرقص والغناء وملكات الجمال". أبصر هذا المشروع النور، وحقّق نجاحاً كبيراً، وتلته مهرجانات أخرى. في السابع من تشرين الأول 1966، تحت عنوان "حلم ليلة صيف في صيدا"، كتبت مجلّة الحوادث: "ليلة السبت الماضي عاشت جزيرة صيدا ليلة جمال طويلة، تمّ فيها انتخاب مارلين طليع ملكة جمال لبنان للعام 1967 من بين ملكات جمال المناطق اللواتي جرى انتخابهنّ طيلة هذا الصيف".
 

جرت هذه الحفلة في "الجزيرة"، أي في المنطقة البحرية التي تُعرف بالـ"زيرة" حيث أقيم مسرح عائم وتحوّلت الـ"زيرة" إلى "مدارج عجّت بالمدعوين والمدعوات، كما تحوّل البحر المحيط بها إلى ميناء يموج بعشرات السفن الصغيرة والبخوت المزيّنة التي شارك أهل صيدا في تقديمها". افتتح محافظ الجنوب هنري لحود هذه الحفلة، وقال مرحّباً: "إن الله جميل، ويحبّ الجمال، ورئيسنا حلو"، والمقصود طبعاً رئيس الجمهورية اللبنانية يومها شارل حلو. بعدها قدّمت فرقة مغدوشة يعض الأغاني والرقصات الفولكلورية، ثمّ أطلّت الشحرورة صباح، ضيفة شرف الحفلة، وقدّمت وصلة غنائية ألهبت حماس الجمهور، "من فوق الجزيرة في قمرية التلفريك".
 

بعد هذه الوصلة، جرى انتخاب ملكة الجمال. "وبعد الانتخاب، انتقل المدعوون إلى قلعة صيدا البحرية حيث تناولوا طعام العشاء، وقد دامت السهرة إلى ما بعد الثانية صباحاً".

المدن - صيدا وذاكرة المايوه... وفدرلة الجسد

 

قد يكون من باب المصادفة أني في المرة الأولى التي نزلتُ من البلدة الجردية النائية، إلى الساحل اللبناني في ذلك اليوم الحار من حزيران أو تموز عام 1990، أول ما حطت قدمي كان على مسبح يسمى "المسبح الذهبي" في الرميلة، أريد شخصاً يعمل حارساً هناك، سيدلني على وجهتي المقصودة في الرميلة نفسها، صودف أن الشخص كان عند مرأب السيارات، ودلني إلى المدرسة الضخمة التي كان يحتلها ويفتك بها رهط من الرفاق... ولكن، أنا الجردي، بقيت لوقت، قبل أن اسلك طريقي، أقف بين أشجار الغوافة، شارداً أتأمل نساء البكيني في مشهد يبدو ساحراً وخارقا في ذلك الوقت، كأني لم أكن أشبع من وليمة بصرية جسدية لم أعتد عليها، ولم أر مثلها من قبل، كان ذلك قبل انتشار الدش، وبالطبع قبل الانترنت...
 

في المدرسة الثكنة حيث رفاق الأمس، ونحن نطل على مدينة صيدا، كان الحديث أكثر من مرة عن التزمّت في أروقة المدينة، ليس تزمّت أهلها بل تزمّت بعض الأحزاب والميليشيات التي تسيطر عليها، وتريد أن تصبغها بطابعها... قال الرفاق أن اثنين منهم ذهبا في رمضان للتسكع، وأشعلا السجائر فتعرضا لاطلاق النار في اقدامهما، في تلك الأيام كانت الجماعة الاسلامية وجماعات اخرى تمارس نوعاً من حملات "النهي عن المنكر"، لهذا صارت صورة صيدا في مخيلتي عنوانا للتزمت والنقاب...

بعد أيام على حضوري في المدرسة الثكنة، نزلت برفقة مجموعة من "الرفاق" من أبناء تلك البلدة الجردية، إلى "المسبح الذهبي"، محطتي الأولى في رحلتي على الساحل، وصادف تواجد فتاة من البلدة الجردية، لم تكن ترتدي المايوه كالأخريات، ولكن أظهرت ظهرها مع شورت قصير، المهم أنها شعرت بخجل عارم حين رأتنا هناك، ربما، لم تكن تتوقع هي الآتية لممارسة شي من حريتها، أن تلتقي بعضاً من ابناء بلدتها، الذين بدورهم صار لديهم جموح للبصبصة عليها. كأن العري الذي نعرف صاحبه له معنى آخر، أكثر قوة و"حميمية" من عري الغرباء، أو كأن النساء الغريبات يصير عريهن ثياباً أخرى...
 

دارت الأيام دورتها، ومرت سنوات، وعدتً سكنت في منطقة قريبة من صيدا، ولمدة بقيت صورة المدينة في رأسي عنواناً للتزمت والانغلاق والتقوقع والنقاب واللحى الطويلة، وربما أرادها بعضهم أن تكون على هذه الصورة لغايات بائسة لكن في يومياتها ليست اسيرة لأحد، في المرات القليلة التي جربتُ النزول الى شاطئ صيدا والرميلة (الشعبي)، شعرتُ أنها أمكنة غير صالحة وغير مؤهلة للسباحة لا بمايوه ولا بشورت ولا بالثياب، فهي أشبه بأمكنة مهجورة ومحكومة بفوضى حتى وان كانت بلدية صيدا تهتم قليلا بالشاطئ الشعبي، لكن الشاطىء بالعموم يبدو مرتفعا للصرف الصحي والنفايات والقاذورات، والأشكال ألوان ولا يبعث الطمأنينة.
 

في تجوالي في المدينة، التي بتّ انجذب إليها أكثر من بيروت، كنت أنتبه كيف أن مدينة ساحلية يمكن أن تصبح، إذ ما اشتُغل عليها، "لؤلؤة الشرق"، فهي تضم آثاراً من فترات وحضارات مختلفة(صليبية وفينيقية وعثمانية...)، وسوقا وخانات، كيف لا تنافس جبيل، وكيف لا تقام فيها مشاريع لجذب الناس والسياح... المؤسف أنها تنام مع الغروب، وبالكاد تجد فيها مقاهي الاركيلة، وتخلو من أي مسبح يليق برواده، ويغلب على واجهتها جبل النفايات ومشاريع غير مكتملة وبنية تحتية متصدّعة وشاطي رملي مفتوح على ذكوريات وفوضى. 
 

أحسب أن قضية المايوه في صيدا هي جزء من أزمات متكررة ومستأنفة في لبنان، والأمر يتعلق بسطوة الجماعات على الأمكنة والفضاء العام، في منطقة أُحرق فيها محل كوافير لأن صاحبه قدم عرضاً راقصاً، وفي مناطق أخرى مُنعت المحجبات من دخول المسابح لمجرد أنهن محجبات، وفي مناطق لاسباب طبقية مُنعت الخادمات... وهؤلاء الذين يمنعون المايوه الآن في صيدا، هم أنفسهم دافعوا عن حضور مناصري أحمد الأسير في رحلته إلى ثلوج كفرذبيان، يوم اعترض عليه بعض أبناء تلك المنطقة. فهل هي فدرلة الجسد؟

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا