الصورة التي تجمع رياض سلامة وكارلوس غصن
بقي على رياض سلامة أن يخطو خطوة واحدة ويعلن انتماءه إلى إحدى فصائل "الممانعة" القومية أو اليسارية أو الإسلامية، لمواجهة الاستكبار الأوروبي والعقلية الاستعمارية التي تريد فرض قوانينها على شعوبنا المظلومة. ولا بأس أن يعلن أيضاً أن الغرب هذا يريد الاستيلاء على ثروته الشخصية كجزء من مخططات نهب خيرات الدول المستضعفة. ما قاله دفاعاً عن نفسه رداً على الاتهامات الخطيرة من قبل القضاة الأوروبيين، تنحو بهذا الاتجاه: افتراءات فرنسية وألمانية تستدعي حمية وطنية، وحماية سياسية. ولابأس من إقران "الاعتداء" على سمعة رياض سلامة وكرامته بالاعتداء على السيادة الوطنية وكرامة الشعب اللبناني نفسه.
كرامة بلد رهن سمعة شخص واحد. هذا ما أراد سلامة الإيحاء به، حين قدم مطالعة "قانونية" تبريراً لرفضه المثول أمام القاضية الفرنسية. طبعاً هذا ما يذكرنا بتاريخ متكرر لأشخاص نافذين وديكتاتوريين من العالم الثالث وزعماء عصابات دولية، الذين كانوا يكدسون ثرواتهم في مصارف الغرب، ويقعون أحياناً في مصيدة القضاة هناك، مثلما حدث لرفعت الأسد مثلاً.
لا مبالغة في ذلك، فعلى الأرجح أن حاكم مصرف لبنان الذي جلس على كرسي سلطته نحو ثلاثة عقود، اكتسب أيضاً سمات زعمائنا المحليين المتأبدين، والرؤساء العرب الأبديين: جنون العظمة وعقدة الاضطهاد في آن معاً. وفي كل الأحوال، إيمان عميق بسموه فوق كل القوانين. إنه الذي لا يُمسّ.
هذا الموظف الذي ينظر إلى المرآة فيرى نفسه امبراطوراً يتعرض على نحو غير لائق بمكانته السامية لمهانة الاتهامات والانفضاح.. بات اليوم أشبه بأولئك الطغاة الصغار الذين يتحسسون مسدساتهم طوال ساعات الأرق الليلي، رعباً من دنو أجله. أو بالأحرى، أقرب إلى رئيس عصابة كانت صورته الشائعة "رجل أعمال" وها هو على حقيقته، طريد قوة إنفاذ القانون. فيستشيط غضباً، ويستجير بخطب رنانة في المظلومية والوطنية والسيادة وكرامة الأمة.
مشهد الأمس في قصر العدل، حين حضر سلامة بلا أي تأخير، مطمئناً وممتلئاً بالثقة، ليمثل أمام القاضي، وموقناً سلفاً ما سيجري له وما سيقرره القاضي، وعارفاً ما سيُسأل وما سيجيب، يذكرنا تلقائياً بمشهد سينمائي لفيلم بريان دي بالما The Untouchables، حين يكون آل كابون في قاعة المحكمة ورفاقه ومحاموه مزهوين مبتسمين بالغي الارتياح، ويتبادلون الابتسامات مع أعضاء لجنة المحلفين ومع القاضي أيضاً. لقد كان كل شيء مرتباً ومدبراً بأناقة قانونية لا غبار عليها، تماماً كما يمكننا تخيل الأمر نفسه في جلسة سلامة "الهادئة" والسلسة.
في الآونة الأخيرة، بات شائعاً مقارنة مصير سلامة بما آل إليه مصير شخصية اقتصادية لبنانية أيضاً، كارلوس غصن، الذي اضطر إلى الهروب من اليابان بمساعدة فريق مرتزقة، في واحدة من العمليات التي نظنها من نسج خيال هوليوود فقط، وأصبح طريداً دولياً لا يسعه مغادرة ملجئه الفخم في "وطنه الحبيب". فسلامة أيضاً سيكون طريداً دولياً، وقد يظل حبيس بلده، أو يضطر للهروب أيضاً إلى "جنة ضريبية" عربية على ما يقال.
والمثير للدهشة أن الرجلين، يتشابهان كثيراً في استعمال الحجج أو الاجتهادات القانونية إلى حد التماثل في التعابير وفي الإصرار على البراءة التامة، ونظرية المؤامرة. والأكثر بلاغة في المقارنة بينهما، تلك السيرة المتوازية زمنياً بينهما منذ مطلع التسعينات إلى العام 2019: قصة نجاح باهر وملهم.. وسقوط مريع.
إنهما على نحو مجازي أيضاً يشبهان سيرة لبنان الصاعد والمتلألئ بعد العام 1991، والمنهار إلى الهاوية بعد 2019. سيرة اقتصادية مالية مدوّخة، بقدر ما هي سيرة سياسة منحطة.
بمعنى آخر، وعلى نحو جلي، تخبرنا قضيتا سلامة وغصن عن ما استقر عليه لبنان، مقراً لأمثالهما، بؤرة كبيرة للمطاردين والمشبوهين والمطلوبين. يكفي في هذا السياق تعداد كبار المسؤولين المتهمين مثلاً بانفجار مرفأ بيروت، أو بتنفيذ كبرى الاغتيالات السياسية، أو تجار المخدرات الصادرة بحقهم مئات مذكرات اعتقال، أو السياسيين الموضوعين على لوائح العقوبات.. هذا لبنان اليوم، ملجأ "المظلومين" من أمثال سلامة.
والمذهل هنا، أن أي بلد مهما بلغت فيه درجة الفساد أو الانحطاط، يظل يشهد صراعاً ولو غير متكافئ بين سلطة القانون والخارجين عليه. يظل هناك شبح حكومة تطارد الجريمة والمجرمين. إلا في لبنان، حيث تبدو الحكومة وأجهزتها أكثر شبهة من سلامة نفسه.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|