إقتصاد

استقرار سعر الصرف واحتمالات انخفاضه

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يشهد لبنان منذ مطلع شهر أيار الحالي استقراراً في سعر الصرف بعد أن لامس لوقتٍ قصير الــ 145 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد في منتصف شهر آذار الماضي، ليعود وينخفض بشكلٍ تدريجي ويتأرجح خلال شهر نيسان المنصرم بين الــ 98 و95 ألف ليرة لبنانية، ليستقر من بداية ايار وحتى تاريخ كتابة هذه السطور على الــ 94 ألف ليرة. ويأتي استمرار هذا الاستقرار مخالفاً للتوقعات التي اعتبرته استقراراً مؤقتاً لتمرير فترة الاعياد، ورجحت أنّ يُعاود السعر ارتفاعه بمجرد انتهائها.


وما كان الانهيار الذي لحق بالعملة الوطنية ليبلغ هذا الدرك لو أنّ الدولة اللبنانية ضبطت سياساتها المالية وإيقاع انفاقها العام على وقع إيراداتها المالية من جهة وبادرت بالتعاون مع السلطة النقدية، أقله خلال العقد الأخير الذي سبق الازمة ومهد لانفجارها، الى التعويم التدريجي لسعر الصرف ليقترب من قيمته الحقيقية. وعوضاً عن ذلك استمرت الدولة في التوسع في نفقاتها الجارية ما أدى الى تنامي المديونية العامة من جهة وارتفاع العجز في ميزان المدفوعات ولا سيما الميزان التجاري على حساب القطاعات الإنتاجية والقدرة التنافسية للاقتصاد الوطني من جهة ثانية.

ومن المفارقات أن مصرف لبنان واصل تثبيت السعر الوسطي للدولار الاميركي عند الــ 1507,5 ليرة على مدى 27 عاماً من دون أن يُقيم أي اعتبار للكلفة التي يُسببها هذا التثبيت على الاستثمارات الجديدة، ومتجاهلاً تقلبات العملة الخضراء مقابل باقي العملات الرئيسية. وبدل أن يُعيد مصرف لبنان النظر بسياساته النقدية مع ظهور مؤشرات الازمة في العام 2011، استمر في سياسة تثبيت سعر الصرف الى أن أصدر التعميم رقم 530 في نهاية شهر أيلول 2019 لدعم استيراد سلع محددة، الذي كان بمثابة اعلان نهاية تدخله في سوق القطع وفتح الطريق للسوق الموازية.

وجاء ابتداع مصرف لبنان لمنصة صيرفة في نهاية شهر حزيران من العام 2020، ليراكم مزيداً من الانهيار في قيمة الليرة ويرفع من كلفة تدخله مستنزفاً احتياطياته من العملات الأجنبية وعلى حساب الاقتصاد الوطني. وقد بقيت المنصة عاجزة عن تحقيق الاستقرار المنشود أو على الأقل لجم تقلبات سعر الصرف الحادة، علماً أنّ سعر الدولار على المنصة يبلغ اليوم ما يزيد على الـ 86 ألف ليرة لبنانية بعد أن كان السعر الذي تم اعتماده عند اطلاقها 3900 ليرة لبنانية للدولار الواحد.


ولو أنّ مصرف لبنان اعتمد في تدخله في سوق القطع منذ بداية تدهور الليرة الأسلوب عينه الذي يعتمده على منصة صيرفة، وكان لديه من الموجودات بالعملات الأجنبية ما يكفي للمحاولة حينها، لتمكن من الحد من انهيار الليرة والمحافظة على الجزء الأكبر من احتياطياته. فقد تمكن مصرف لبنان، بحسب ما أظهرت الميزانية النصف شهرية الأخيرة المنتهية في 15 أيار 2023، من زيادة احتياطياته الصافية من النقد الأجنبي بنحو 101 مليون دولار خلال النصف الأول من أيار 2023 لتبلغ نحو 9.5 مليار دولار للفترة عينها ومعوضاً بذلك المبالغ التي ضخها من خلال منصة صيرفة.

أما فترة الاستقرار الحالي لسعر الصرف فتتميز بأنها الأطول منذ بداية الانهيار، الا انها تدعو الى التدقيق في حقيقة هذا الاستقرار في الوقت الذي أُثيرت فيه شبهات فساد واتهامات طالت حاكم مصرف لبنان وسياساته النقدية وعلاقته بتبييض أموال مع شركاء آخرين. الامر الذي يدفع الى التساؤل عن الأسباب التي ساهمت في هذا الاستقرار، حيث كان يكفي تناول شخص حاكم مصرف لبنان او الهمس حول سياساته النقدية ليدفع بسعر الصرف الى الإفلات من ضوابطه.


وفي تفسيرٍ للاستقرار الحالي يرى بعض المراقبين أنّه اعتباراً من منتصف شهر آذار، قام مصرف لبنان بجمع ما يكفي من الدولارات لتلبية مدفوعاته الشهرية من جهة وضبط سعر الصرف من جهة ثانية خلال الثلاثة أشهر المتبقية لولاية حاكم مصرف لبنان. وهذا ما يُفسر سبب ارتفاع سعر صرف الدولار إلى قرابة الــ 145 ألف ليرة في ذلك الوقت. مع العلم أنّ مصرف لبنان في تدخلاته السابقة، لم يتمكن من لجم ارتفاع سعر الصرف الذي كان يُعاود ارتفاعه ليتخطى العتبة التي كان قد لامسها قبل تدخله سواء بضخ الدولارات او من خلال التعاميم الداعمة لتدخلاته.

في المقابل، التشكيك بقدرة مصرف لبنان على المحافظة على استقرار سعر الصرف يُعززها الغموض وعدم الشفافية في إدارة المصرف لعملية جمعه الدولارات النقدية من السوق وفي شروط إعادة ضخها من خلال منصة صيرفة، في الوقت الذي أصبح فيه التشكيك ملازماً لكل إجراء يُقدم عليه مصرف لبنان مما تسبب بضياع فرصاً عديدة لمنع الانهيار. مع العلم أن الثقة هي أحد اهم ركائز الأسواق المالية والنقدية وعامل رئيسي من عوامل استقرارها، وقد أضاع القيمون على السياسات النقدية خلال أشهر معدودة الثقة التي تمتعوا فيها على مدى ربع قرن ونيف من الزمن.


والجدير بالملاحظة أنّه على الرغم من صدور مذكرة التوقيف الدولية عن القضاء الفرنسي بحق حاكم مصرف لبنان منتصف أيار الحالي وما يُحكى عن مُذكرة توقيف مماثلة تبلغها لبنان شفهياً من السلطات الألمانية، حافظ سعر الصرف على استقراره ومن دون تعديلاتٍ تُذكر حيث بقيت الهوامش بين سعر البيع وسعر الشراء على حالها. وكذلك هو حال حجم التداول على منصة صيرفة الذي بلغ معدله اليومي ما يزيد على الــ 110 مليون دولار، وظلت تقلباته في حدود المعدل العام دون تسجيل أية فروقات تُذكر.

عدم شفافية السياسة النقدية التي يعتمدها مصرف لبنان وغموضها غير البناء، يجعل من الصعب ترجيح التوقعات الإيجابية لمستقبل سعر الصرف في ظل الشغور في مقام رئاسة الجمهورية وغياب أية محاولة من حكومة تصريف الاعمال للحد من تداعيات الازمة الاقتصادية ومعالجة أسبابها من ناحية ومحدودية موارد المصرف التي يُمكن استخدامها للجم ارتفاعه من ناحية ثانية. ما يجعل من أي مبلغ من الدولارات يُمكن أن يجمعه مصرف لبنان غير كافٍ مهما بلغ، لتمرير المرحلة وضبط إيقاع سعر الصرف وتلبية مدفوعاته الشهرية على امتداد الـ 30 يوماً المتبقية.

امام هذه الوقائع لا بد من التساؤل عن الأسباب التي أدت الى هذا الاستقرار في سعر الصرف، وهل من مؤشرات تساعد على توفير حدٍ أدنى من ظروف الاستقرار المنشود وتُمهد لانخفاض محتمل؟ اما أسباب هذا الاستقرار في سعر الصرف فتعود الى تفاعل مجموعة من العوامل منها:

ارتفاع وتيرة تحويلات المغتربين سنة بعد سنة، والتي بلغت بحسب تقديرات البنك الدولي 6,8 مليار دولار خلال العام 2022، ليحل بموجبها لبنان في المرتبة الثانية عالمياً من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي، والتي بلغت بحسب تقديراته نحو 38%. مما ساعد في توفير السيولة بالعملة الخضراء وعوض جزء غير قليل من الشح في الدولار.

ارتفاع إيرادات الدولة من الرسوم والضرائب بعد إقرار الزيادات الاخيرة وربط الدولار الجمركي بدولار منصة صيرفة، ما يُساهم في تحقيق التوازن بين إيرادات الدولة ونفقاتها.
دفع رواتب موظفي القطاع العام من مدنيين وعسكريين بالدولار الأميركي بالإضافة الى المتقاعدين الامر الذي خفض الطلب على العملة الوطنية وقلل من فرص المضاربة عليها. في الوقت الذي تتدنى فيه تكلفة هذه الرواتب على الدولة اللبنانية فيما تتجه الى ربط دولار الرواتب بصيرفة ما يؤدي الى مزيد من الانخفاض.
تراجع حجم الاستيراد بعد رفع الدولار الجمركي الذي استبق التجار اقراره باستيراد حاجتهم ما ساهم في تخفيض الطلب على الدولار وتهدئة الأسواق.
تراجع حركة تهريب السلع والبضائع والمحروقات الى خارج الحدود بعد رفع الدعم عنها الامر الذي سمح بإعادة تمويل استيراد الكميات الجديدة من إيرادات المبيعات الداخلية ومن دون التسبب بضغوطات كبيرة على طلب العملات الأجنبية.
تسعير السلع في المؤسسات والمحال التجارية بالدولار الاميركي مع إمكانية الدفع بالدولار، حدّا من الحاجة للّيرة لتسديد ثمن المشتريات. وكذلك هو حال خدمات المهن الحرة التي سعّرها مقدموها بالدولار عند المستوى الذي كانت عليه.
تراجع قدرة الصّرافين على المضاربة على الليرة اللبنانية وذلك نتيجة لانخفاض وتيرة الطلب على العملة الوطنية مقابل الدولار الأميركي للأسباب التي سبق تفنيدها أعلاه.
وبينما يأمل بعض الاقتصاديين أن يكون استقرار سعر الصرف فاتحة لتراجعه بشكل تدريجي سيما وأنّ المستوى الذي بلغه لا يُمكن أن يُعبر عن السعر الحقيقي للدولار. مع العلم أنّ المضاربات الهادفة الى تحقيق الأرباح على حساب العملة الوطنية هي سبب التقلبات الحادة والارتفاع الكبير الذي شهده سعر الصرف، والتي هي بعيدة كل البعد عن آليات السوق من عرض وطلب حيث كان الارتفاع يحصل بعد انتهاء ساعات العمل وخلال ايام العطل بخلاف ابسط قواعد التداول.


ولعل اقصى ما يطمح اليه اللبنانيون اليوم هو استمرار سعر الصرف على استقراره الحالي ووقف حملات الترويج لاحتمال معاودة ارتفاعه، على الرغم من أهمية تدخل المجلس المركزي لمصرف لبنان مؤخراً لضبط عمل منصة صيرفة وتأثيره المحتمل في خفض سعر الصرف، لإدراكهم أنّ انخفاضه إنما يتطلب حلاً للازمة السياسية التي يتخبط فيها البلد والعبور من خلالها الى معالجة معضلاته الاقتصادية والمالية المزمنة.

 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا