القطاع الخاص مُحاصر.. مداخيل محدودة ونفقات مفتوحة
ظاهرياً، يبدو القطاع الخاص اللبناني في حالة نمو وازدهار، فهو تأقلم مع الأزمة بما يوحي بأنّ الانهيار المالي انتهى، وانّ البلاد دخلت مرحلة التعافي. الّا انّ الواقع مغاير تماماً، لأنّ مفاعيل بعض الإجراءات التي أمّنت له جرعات اوكسيجين ومكّنته من الصمود في المرحلة السابقة انتهت، وقد دخل اليوم في مرحلة خطرة.
يقف القطاع الخاص على مفترق طرق، فمرحلة الدلع انتهت وهو يواجه اليوم خطراً وجودياً إذا لم تتحرّك الدولة لإسعافه من خلال محاربة الاقتصاد غير الشرعي من جهة، وتأمين مناخ سياسي ملائم للنمو والاستثمار، ليتمكن من النهوض مجدداً.
فالمطاعم «المفوّلة» وحركة المطار الناشطة، ليست وحدها مؤشرات للنهوض. فالقطاع الخاص صمد حتى اللحظة بسبب بعض الظروف التي أسعفته، مثل استفادته من الكهرباء والمحروقات والاتصالات المدعومة، ومن تراجع الكلفة التشغيلية نتيجة تراجع قيمة الرواتب وانخفاض الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية بعد انهيار سعر صرف الليرة، والايجارات المحتسبة على دولار 1500 ليرة... الّا انّ هذه التكاليف عادت في غالبيتها إلى ما كانت عليه في السابق، في ظلّ تراجع القدرة الشرائية إلى حدودها الدنيا، وقد زاد الطين بلّة الضرائب والرسوم الجمركية الباهظة التي بات يتكبّدها التاجر النظامي، ويتهرّب منها غير النظامي، ما ادّى الى نمو الاقتصاد غير الشرعي على حساب الشرعي.
بناءً عليه، فإنّ الدولة مطالبة اليوم باتخاذ بعض الخطوات من أجل إعادة الثقة في البلاد وخلق مناخ مؤاتٍ للاعمال وللنمو الاقتصادي، لأنّ جرعات الاوكسيجين التي كانت لدى المؤسسات قد استنفدت، وما عادت قادرة على المزيد من عصر النفقات وخفض القوى العاملة لديها.
في السياق، نبّه الأمين العام للهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس لـ«الجمهورية»، إلى انّ القطاع الخاص في مرحلة خطر إذا استمرت الدولة بالتقاعس عن القيام بواجباتها، ولم تتح له الدخول في جو مؤاتٍ للنمو الاقتصادي، محذّراً من انّ هناك خطراً جدّياً على بعض المؤسسات التي لم تقف على رجليها بعد، ولم تعد إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
وقال شماس: «صحيح انّ الناتج المحلي تقلّص وما عاد كالسابق، لكن يجب الاّ ننسى انّ نصف الاقتصاد غير معني بالضرائب أي لا يدفعها، كذلك الخدمات والطاقة والكهرباء والانترنت، لذا نحذّر من انّ الأعباء على الاقتصاد الشرعي باتت كبيرة جداً، بحيث ما عاد قادراً على تحمّلها. وأبدى خشية من زيادات ضرائبية جديدة ستلحظها موازنة 2023 إذا تأخّرت استقامة العمل السياسي، اي اننا مقبلون على خطر أكبر».
ويرى شماس انّ «المعادلة اليوم هي على الشكل التالي: مداخيل محدودة ونفقات مفتوحة». وقال: «بعد الانهيار وجائحة كورونا وانفجار المرفأ دخلت المؤسسات في مرحلة التقاط الأنفاس كي تتمكن من الصمود والاستمرار، إذ خلال السنوات الماضية كنا في مواجهة خطر وجودي حقيقي نتيجة تراجع المبيعات ما بين 70 إلى 80 في المئة، في حين انّ الهوامش التجارية تراجعت أكثر من 80%، وخيارنا الوحيد في تلك الفترة كان عصر النفقات، وقد نجحت أغلب المؤسسات التجارية في التغلّب على هذه المحنة، بدليل أنّه في كل مرحلة كنا نلاحظ انّ مؤشر التضخّم مرتفع، كان الخط البياني لارتفاع الدولار اقل، بحيث انّه إذا ارتفع سعر الدولار في السوق السوداء ما بين 8 و10 مرات كانت الاسعار لا تزيد أكثر من 5 مرات، الّا انّ هذه المعادلة تغيّرت اليوم، بحيث اصبح الخط البياني لارتفاع الدولار قريب جداً من ارتفاع الاسعار، وهذا ما يشكّل تحدّياً كبيراً امام تنافسية المؤسسات والاقتصاد، إلى جانب الارتفاع التدريجي للتكاليف والخدمات على مدى سنتين».
واعتبر الشماس انّه «امام كل مؤسسة 4 من أصحاب الحقوق:
اولاً: الدولة. تُعتبر الدولة صاحب الحق الاول لأنّها الطرف الذي يستوفي الضرائب والرسوم، وهي تحرّكت بموضوع الضريبة على القيمة المضافة للبيع بالتجزئة من اواخر العام 2020، حيث فرضت استيفاء الـ tva وفق سعر الصرف الفعلي. ولاحقاً تحرّكت في موضوع الدولار الجمركي الذي بدوره بدأ يزيد تدريجياً وصولاً الى سعر صرف صيرفة للتجزئة والجملة، ما انعكس زيادات أكيدة بالأعباء الضريبية. وقد دخلنا أخيراً في نوع من «الهرطقة» من خلال فرض سعر صرف «صيرفة بلاس» على تسعيرة الكهرباء والانترنت والحبل على الجرار، ما ينذر بأعباء اضافية على القطاع الخاص.
ثانياً: المصارف. لا شك انّ الشركات اللبنانية حظيت بجرعة اوكسيجين كبيرة عند تسديد ديونها باللولارات، ورغم انّ هذه الخطوة كانت على حساب المصارف والمودعين، الّا انّها انعكست انتعاشاً كبيراً للمؤسسات، لاسيما تلك التي كانت لديها ديون للمصارف، وهي صُنّفت كمساعدة ظرفية يومها. وما يحصل اليوم انّ المؤسسات ما عادت قادرة على الحصول على دين، لأنّ التسليف بالفريش غير متوفر، ما يضطرها الى استعمال اموالها االذاتية.
ثالثاً: الموردون. انّ لأكثرية التجار اللبنانيين علاقات تاريخية مع موردين في الخارج وتربطهم علاقة ثقة قوية بهم، لأنّ التاجر اللبناني لم يتخلّف يوماً عن تسديد دينه. لكن مع بدء الأزمة في لبنان بات الموردون يطلبون من التاجر اللبناني الدفع المسبق ثمناً للبضاعة، وتوقفوا عن اعطائهم تسهيلات في الدفع ولا حسومات، ما قلب الدورة المالية رأساً على عقب خصوصاً، انّ التجار كانو يبيعون جزءاً كبيراً من بضاعتهم قبل دفع ثمنها.
رابعاً: الموظف. لا شك انّ الموظفين كانوا الضحية الأكبر، رغم المواكبة التي قامت بها لجنة المؤشر لتحسين الرواتب وتقديمات الضمان الاجتماعي وتغطية الفواتير الاستشفائية. اضافة الى ذلك، فقد أقدم العديد من الشركات على إعطاء موظفيهم راتباً بالفريش وبوليصة تأمين بالفريش».
وأكّد شماس انّ «الرواتب تعود رويداً رويداً الى ما كانت عليه قبل الأزمة، وانّ ما يؤخّر ذلك هو عدم عودة المبيعات الى سابق عهدها، إذ على سبيل المثال، انّ المبيعات في القطاع التجاري لا تزال أقل بنحو 50% عمّا كانت عليه سابقاً».
ويرى شماس انّ «الطامة الكبرى تمثلت بتكاليف الطاقة والنقل التي كسرت كل المعادلات، مشيراً الى انّه اعتباراً من صيف 2021 رُفع الدعم عن المازوت كلياً وفي ما بعد البنزين، وقد ادّى ارتفاع تكاليف المحروقات الى اقفال عدد من الفروع المصرفية والمحلات التجارية...».
واعتبر شماس انّ «ارتفاع كلفة المحروقات غيّر المعادلة الاقتصادية وزاد من النفقات»، لافتاً الى انّ المعادلة اليوم هي مواجهة نفقات ما قبل الثورة وإيرادات ما بعد الثورة التي تصل الى ما بين 50 و 60% مما كانت عليه سابقاً، لا سيما في القطاع التجاري. ورأى انّه إذا لم يتحسن هذا الخلل فنحن ذاهبون نحو مزيد من الانهيار وموجة جديدة من التعثر والإقفالات، ونخشى ان يؤدي ذلك إلى فتح الباب واسعاً امام التهريب والاقتصاد الاسود وضرب ايرادات الخزينة».
اما بالنسبة إلى بقية القطاعات، فدعا شماس إلى التنبّه من فقدان لبنان لميزة انكشفت خلال الأزمة، وهي قدرته التنافسية التي جذبت السياح اليه وزادت من مبيعاتنا وخدماتنا إلى الخارج.
ورأى انّ «الدولة مطالبة بألّا ترفع الضرائب كما يروّج في موازنة 2023 التي ستلحظ ضرائب جديدة واحتساب الدولار وفق سعر صيرفة، وفي هذا خلل غير مقبول، إذ لا يجوز ان تكون الضريبة وفق سعر صيرفة، بينما دولار السحب هو 15 الفاً. كذلك فإنّ الدولة مطالبة اليوم بالعمل على تحسين الجباية عوض فرض ضرائب جديدة ولجم التهريب».
وختم شماس: «اما المؤسسات اللبنانية فيجب عليها الاّ تنتشي في موضوع الاسعار، التي يجب ألّا ترتفع الى ما كانت عليه قبل العام 2019» ، منبّهاً من انّه «إذا ذاع صيت انّ الاسعار في لبنان عادت الى ما كانت عليه في السابق، اي انّ لبنان بلد «غالٍ» فهذا سيضرب قدرته التنافسية وسوف يمحي كل الجهود المضنية التي اوصلتنا الى ما نحن عليه، خصوصاً اننا لم نبلغ بعد مرحلة التعافي».
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|