لماذا جذبت كارثة "تيتان" اهتماماً أكبر من "أدريانا"؟
ضجّت مواقع التواصل الاجتماعيّ بتعابير الغضب من "الظلم" و"ازدواجيّة المعايير" تجاه التغطية الإعلاميّة لكارثتي "تيتان" و"أدريانا". في الأولى، نقلت الغوّاصة خمسة أثرياء إلى عمق المحيط الأطلسيّ في نزهة مرتفعة التكاليف لاستكشاف حطام "تيتانيك"، بينما غرقت سفينة "أدريانا" قبالة السواحل اليونانيّة وعلى متنها مئات المهاجرين غير الشرعيّين الهاربين من الفقر. كان الأطفال والنساء أوّل من قضوا نحبهم غرقاً. يمكن أن يصل عدد ضحايا غرق "أدريانا" إلى نحو 700. رُسمت هذه المقارنة بالتحديد لأنّ أيّاماً قليلة فقط فصلت بين الكارثتين.
لم يقتصر الغضب على روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ. منصّة "ديموكراسي ناو" انتقدت التغطية الإعلاميّة خصوصاً أنّ الأثرياء، من بينهم مليارديران، دفعوا 250 ألف دولار للرحلة بينما لم يكن الفقراء باحثين عن المتعة حين صعدوا على متن "أدريانا". (تشير تقديرات إلى أنّ الشخص الواحد دفع ما بين 4 آلاف و 6 آلاف يورو للعبور). كما سخّرت الحكومات جهوداً أكبر لإنقاذ "تيتان" بالمقارنة مع الجهود المخصّصة لـ"أدريانا" التي أنقذت سفينة خاصّة بعض ناجيها. وخلصت المنصّة إلى أنّ الكارثتين أمكن تفاديهما وأنّ الأثرياء والفقراء يستحقّون الإنقاذ.
يصعب إنكار دور المال في جذب التغطية الإعلاميّة واهتمام الجمهور. "إنّه أمر يستطيع فقط فائقو الثراء القيام به، وهو ما أعتقد أنّه يُنظر إليه بالنسبة إلى كثر على أنّه استعراض للغطرسة"، بحسب ما يقوله لموقع "بيزنس إنسايدر" الأستاذ المساعد لمادة التواصل في جامعة بوفالو الدكتور يوتام أوفير. "يشعر الناس كما لو أنّ الناس الأثرياء يستخدمون المحيط كملعب خاصّ بهم".
لكن ينبغي تجنّب المبالغة في دور الثراء والفقر بتحفيز التغطية الإعلاميّة. من جهة، لموقع غرق "تيتانيك" جاذبيّة خاصّة للاهتمام البشريّ. بعد 111 عاماً على غرق السفينة الضخمة، لا تزال الوثائقيّات العلميّة تحاول الكشف عن أسرار إضافيّة تحيط بالحادث، وفي مقدّمتها وثائقيّ لشبكة "ناشونال جيوغرافيك". مجرّد موت مستكشفين يحاولون فهم أو إعادة عيش كارثة "تيتانيك" قصّة مثيرة. الرابط النفسيّ بين الكارثتين يفرض نفسه. تزداد القصّة "إثارة" مع إشارة تقارير إلى أنّ جدَّي زوجة أحد ضحايا الغوّاصة غرقا في "تيتانيك".
حتى في المآسي التي يتعرّض لها الفقراء، يمكن ملاحظة تفاعلات مختلفة. غرقُ المهاجرين غير الشرعيّين في البحر الأبيض المتوسّط هو مثلٌ على ذلك. لا يزال العالم يتذكّر الضجّة الكبيرة التي أثارتها صورة جثّة الطفل آيلان كردي الذي قضى غرقاً وأعادته المياه إلى أحد شواطئ تركيا بعدما كانت عائلته تحاول الهجرة إلى أوروبا. حظيت هذه الصورة بتغطية وتفاعل أوسع بكثير من تلك التي حظيت بها مآسٍ مشابهة. أن يكون الضحيّة طفلاً عاملٌ يجذب دوماً التفاعل الأوسع... نسبيّاً. ثمّة الكثير من الصور لأطفال فقراء يموتون وسط ظروف قاسية من دون أن تحظى بتعاطف خاصّ.
قال مصوّر الحرب لصحيفة "دايلي تيليغراف" البريطانيّة الذي عمل في سوريا ويل وينتركروس لـ"بي بي سي" إنّه التقط العديد من الصور المماثلة لصورة آيلان. "لم تُلتقط الصورة في منطقة حرب... واقع أنّ هذا حصل على شاطئ في تركيا جعل الناس يجلسون بانتباه" ويراقبون الحدث. سبب ذلك هو مزعج على الأرجح.
ما الذي قاله ستالين؟
يبدو أنّ ثمّة "نزعة متجذّرة" في الإنسان حيال طريقة التفاعل مع الضحايا. العدد مهمّ لجهة إثارة أو تثبيط التعاطف معهم. يبرز قول شهير منسوب للزعيم السوفياتيّ الأسبق جوزف ستالين مفاده أنّ "وفاةً واحدة هي مأساة، ومليون وفاة هي إحصاءات". إحدى الدراسات الصادرة سنة 2019 تؤكّد هذا الاتّجاه: "كلّما ازداد عدد القتلى انخفض اهتمامنا" بهم.
مقابل 700 مهاجر غير شرعيّ على متن "أدريانا"، كان هناك خمسة عالقون في غوّاصة "تيتان". لجميع الضحايا أسماء ووجوه. لكنّ أسماء الغارقين في الغوّاصة انتشرت أسرع في الإعلام بسبب سهولة الحصول عليها. شكّلت سهولة معرفة أسماء وحتى محطات حياة ركّاب "تيتان" طريقة لتسريع انتشار مأساتهم عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ. تتجلّى مأساة تناقص التعاطف مع الضحايا أكثر مع ازدياد عدد غرق القوارب غير الشرعيّة في البحر المتوسّط.
تشير بعض الأرقام إلى أنّ عدد المهاجرين الشرعيّين الذين قضوا في البحر نفسه وهم يحاولون العبور إلى أوروبا تخطّى 25 ألفاً، وهذا فقط عن الفترة بين 2014 و2022. حتى مع وضع قضيّة "تيتان" جانباً، لم تعد تلك المآسي تحظى بتغطية إعلاميّة واسعة أو بتعاطف على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ربّما بسبب هذه النزعة في الطبيعة البشريّة.
قصصٌ أخرى تبيّن حجم الاختلاف في نقل المآسي حتى ولو كان الضحايا من الطبقة الاجتماعيّة نفسها. عادة ما تحصل انهيارات المناجم واحتجازها للعمّال بداخلها على اهتمام إعلاميّ واسع. سبب ذلك أنّ الاحتجاز نفسه يولّد قصّة مثيرة لدى الناس بحسب الدكتور أوفير من جامعة بوفالو. فالناس يهتمّون بعمليّات الإنقاذ وتعقيداتها وشعور المحتجزين.
بالحديث عن الشعور، وخصوصاً اللاواعي منه، يبدو أنّ الجمهور العريض يتماهى مع مشكلة المحتجزين داخل غوّاصة في أعماق المحيط. أساس هذا التماهي هو "الثالاسوفوبيا" أو "رهاب المحيط". أشار روس بومروي في "بيغ ثينك" إلى وجود ثقافة شعبيّة ترتبط بهذا الشعور وتتمثّل في الكتب والأفلام السينمائيّة والمواقع الإلكترونيّة إلى جانب غريزة تطوّريّة تدفع الإنسان إلى الابتعاد عن المياه العميقة لما تحمله من مخاطر. حتى الأعماق الكبيرة في المحيط ارتبطت بإله العالم السفليّ هادس في الميثولوجيا الإغريقيّة وهو الإله الذي يستقبل أرواح الموتى.
اللافت للنظر أنّ ثمّة دليلاً جديداً على ارتباط الاهتمام الكبير بقضيّة "تيتان" بالثقافة الشعبيّة ذات الجذور المستمدّة من رهاب المحيط. بعد انتشار الأنباء عن فقدان الاتّصال بـ"تيتان"، كسبت لعبة "آيرون لانغ" شعبيّة بسبب امتلاكها تشابهاً كبيراً مع المأساة الفعليّة. كان هذا غريباً إلى درجة أنّ مطوّر اللعبة نفسه، ديفيد سيمانسكي، حمّل رسماً بيانيّاً عن مبيعات اللعبة المرتفعة معلّقاً على تويتر: "يبدو هذا خطأ كبيراً".
تفسير اهتمام البشر بما حصل مع "تيتان" بأنّه تحيّز للأغنياء فيه شيء من الصحّة لكن أيضاً الكثير من المبالغة. "التحيّز" نزعة في الطبيعة الإنسانيّة لا تتعلّق فقط بالمال. في أعماق النفس البشريّة وتفضيلاتها أسرارٌ ربّما تفوق الأسرار التي تحتضنها أعماق المحيط الأطلسيّ.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|