هل هدّد بوتين طبّاخَه بالنووي؟
لم تستغرق سيطرة ميليشيا فاغنر على مدينة روستوف الروسية المتاخمة لأوكرانيا سوى ساعات، حتى قرر قائدها يفغيني بريغوجين الانسحاب منها ومن كافة المناطق التي سيطر عليها بعد إعلانه التمرّد. والملاحظ أن بريغوجين استجاب بسرعة شديدة لوساطة رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو، وقبِل بشروط أقل ما يُقال فيها أنها لا تتناسب نظرياً مع قدرته على النيل من هيبة السلطة كلما تأخرت في قمع تمرده، ولا تتناسب أيضاً مع طموحاته وطبيعته الانفعالية، فآخر ما يناسب هذه الطبيعة قوله مساء السبت أنه سيحقن الدماء ويعيد مقاتليه إلى قواعدهم.
من شبه المؤكد أن بريغوجين تلقّى عبر لوكاشنكو تهديداً حازماً، ما دفعه إلى القبول بالسلامة فحسب "إذا صدقت وعود بوتين"، وبقبول شروط تعني تبعية فاغنر لوزارة الدفاع الروسية "بتوقيع عقود فردية معها" بعد رفضه ذلك مدة أسابيع. والتفسير المنطقي الوحيد لسحب قواته التي كانت تتقدم باتجاه موسكو بسهولة هو تهديده بالسلاح النووي، والمقصود به استخدام "قنابل قذرة" هي بمثابة أسلحة نووية تكتيكية. التصريحات الروسية التي تتهم كييف بأنها تخطط لاستخدامها في الحرب تشي بجاهزية القنابل في الترسانة الروسية، ومن الأولى استخدامها لقمع تمرد بريغوجين الأخطر من الهجوم الأوكراني المضاد، باعتبارها أسرع وأضمن جدوى من الأسلحة البالستية.
خلال ساعات إعلان التمرد والسير نحو موسكو، وبينما العالم يركّز أبصاره على بوتين وطبّاخه، نقلت وكالة تاس للأنباء عن ديمتري ميدفيدف "نائب رئيس مجلس الأمن الروسي" قولَه أن موسكو لن تسمح بتحوّل التمرد إلى انقلاب أو إلى أزمة عالمية. مضيفاً أن العالم بأسره سيكون على شفا كارثة، إذا سقطت الأسلحة النووية الروسية في أيدي قُطّاع طرق. ومن يتابع تصريحات ميدفيدف، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، لا بد أن يلحظ تولّيه مهمة التهديد بالسلاح النووي، وأنه بتصريحه الأخير يقول للغرب أن تمرد بريغوجين هو مشكلة للعالم كله لا لبوتين وحاشيته فقط.
هكذا تُفهم على نحو أفضل ردودُ الأفعال الغربية القليلة والمتحفّظة في التعليق على المستجدات الروسية، فهي ليست محصورة في إطار التقية الدبلوماسية المعتادة، وإنما تعبّر عن مخاوف غربية إزاء مآلات التمرد. والمخاوف مرتبطة بكافة السيناريوهات ما دون انقلاب خاطف حاسم وهو ما لم يحصل. وأول السناريوهات استمرار بريغوجين في تمرّده، واستخدام بوتين السلاح النووي كسابقة في حسم صراع داخلي على السلطة، من دون أي رادع طبعاً، وحتى من دون ردود أفعال دولية تتناسب مع الحدث، لأن الغرب الذي يدعم أوكرانيا حريص على عدم التورط المباشر في الشؤون الداخلية الروسية. سيُنقل لاحقاً عن وزير الخارجية لافروف قوله أن السفير الأمريكي في موسكو أكّد عدم تورط واشنطن في دعم التمرد الذي تراه شأناً داخلياً، وأنها تتمنى سلامة الترسانة النووية الروسية.
كان ضعف بريغوجين الأساسي عدم سعيه وتمكّنه من السيطرة على قاعدة نووية، ولو فعل ذلك لوضعَ العالم كله أمام معضلة كبرى، لأن خطر استخدام السلاح النووي سيكون في الأوج مع وجوده لدى طرفين لا يتورّع أيّ منهما عن استخدامه. وإذا كان هناك في دوائر صنع القرار الغربي مَن سًرَّ بتمرد بريغوجين فالسرور لا يتعدّى ما حصل فعلاً باهتزاز صورة بوتين كديكتاتور يُحكم قبضته تماماً على زمام الأمور في روسيا، إذا لم يؤخذ في الحسبان سجل ميليشيات فاغنر الإجرامي في العديد من البلدان مثل سوريا وليبيا وبلدان أفريقيا الوسطى، السجل الذي جعلها مرشّحة لتكون على لائحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية.
رأينا من قبل، في أكثر من بلد، تفضيلاً غربياً للاستقرار على "الفوضى"، أو على تغيير لا يعِد سلفاً ببديل سريع مضمون التوجه. نذكر على سبيل المثال كيف راح الأسد ومسؤولوه يخوّفون الغرب من الفوضى ووقوع أسلحته في أيدي فصائل غير منضبطة، ومن ضمنها السلاح الكيماوي الذي قدّم نموذجاً باستخدامه داخلياً. ومن المحتم أن المخاوف من الفوضى تكون أشدّ بكثير عندما يتعلق الأمر ببلد نووي، وهذه معضلة كبرى عندما يكون حاكم البلد النووي ديكتاتوراً يرى معارضة حكمه تهديداً وجودياً، فالتغيير في هذه الحالة إما أن يكون من داخل البيت أو لا يكون. قدّمت روسيا في نهاية الحقبة السوفيتية نموذجاً على ذلك، إلا أن بريغوجين ليس غورباتشوف هذا الزمن.
الطباخ ليس صاحب مشروع أو أفق يتجاوز ما حدث، ومن المستغرب أن تتجاهل التحليلات كونه دُفع إلى التمرد عبر ضغوط متتالية يُستبعد أن تكون عفوية. الضغوط بدأت بحرمان ميليشياته من الإمدادات العسكرية المعتادة، عندما كانت في أتون معركة باخموت. لم تلقَ آنذاك نداءاته أو انتقاداته إصغاءً من الكرملين، ولم يُكافأ لقاء السيطرة على المدينة وقد تمت بفضل ميليشاته، بل ازدادت الضغوط التي لا يمكن أن يكون مصدرها وزير الدفاع وحده، وهدفها الواضح إرضاخ الميليشيات لوزارة الدفاع، حتى وصل الأمر إلى استهدافها بالقصف حسب مزاعمه.
ربما كانت الانتكاسة الروسية في أوكرانيا، والتي تحدث عنها بريغوجين، دافعاً وراء ما حدث، بمعنى وجوب حدوث تغيير ما وتقديم كبش فداء، من دون أن يظهر الحدث الأوكراني في المقدمة. تمردُ فاغنر يفتح على احتمالات متعددة للتغيير، منها تغييرات في الجيش والأمن على خلفية الفشل في استباق التمرد وتطويقه سريعاً. في هذا الاحتمال مثلاً، قد يُقصى بعض الذين يُحمَّلون مسؤولية الخسائر الفادحة في أوكرانيا بذريعة لا علاقة لها بالحرب هناك، ويكون أسهل على بوتين القيام بعملية تطهير واسعة بذريعة التقصير الداخلي، إذا كان هو وراء دفع طباخه إلى هذا المصير.
بالتأكيد هناك الكثير من علامات الاستفهام حول ما حدث منذ مساء الجمعة حتى مساء السبت، وقد يبقى الكثير من الخفايا طي الكتمان. ذلك لا ينبغي أن يفسح أمام المغالاة في التكهنات، فالفوضى في روسيا ليست مطلباً لأحد في الداخل أو الخارج، وهو ما يعرفه بوتين جيداً إذا كان وراء التلويح بها. يبقى الاحتمال الأخير مرجَّحاً، ما لم يطرأ تطور يؤكد أن يد بوتين لم تعد تمسك بزر الحقيبة النووية لأكبر ترسانة من نوعها في العالم.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|